عاداتنا وتقاليدنا
... وهل الحوار للحوار؟
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
وَلَستُ أُبالي بَعدَ إِدراكِيَ العُلا
أَكانَ تُراثًا ما تَناوَلتُ أَم كَسْبا
هكذا يقول أبو الطيّب المتنبّي، ليجعل معيار الفَخَار ما يُدرِك به المرءُ العُلا، سواءً أكان تُراثًا أم كسبًا. وبلسان عصرنا سواء أكان أصيلاً أم معاصرًا. فممّا أضرّ بأهل العصور أنهم هَوَوا ماضيهم وموروثهم، فأعماهم الهوى عن حاضرهم، أو هَوَوا حاضرهم فأعماهم الهوى عن ماضيهم وتراثهم فانسلخوا عنهما. وهذا التعصّب أو ذاك الانخلاء هما معولا الهدم في أيّ ثقافةٍ أو حضارة. ذلك أن التراث الأبويّ الطاغي هو مشكلة المشاكل في سبيل تقدّم الأُمم. ولقد وردتْ آيات قرآنيّة كثيرة لتشخيص هذا الداء العربيّ العضال. فالقرآن الكريم- الذي قَرَنَ عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين، لا "طاعتهما"- قد ضَرَبَ التمرّد على تراث الآباء مَثَلاً للحقّ الذي يعلو على كلّ طاعةٍ أو أُبُوّةٍ أو عاطفة. وقد كان أوّل المتمرّين على أبيه أبو الأنبياء، إبراهيم الخليل، عليه السلام. كما كان موقف الرسول محمّد، صلى الله عليه وسلّم، من تراث الآباء، ومن أعمامه- سادة قريش ومتغطرسيها- معروفًا، ومنهم عمّه (أبو لهب)، الذي أرضعتْ جاريتُه (ثويبةُ) محمّدًا، فهو ابنها من الرضاع.. ولكن: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ! مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ؟! سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَدٍ". ما كانت لتشفع هاهنا لا العمومة- التي هي صنو الأبوّة، كما قال الرسول نفسه- ولا الرضاعة والأمومة. إن الحقّ هو الحقّ، لا قرابة فيه، ولا عاطفة، ولا محاباة. وكذا هي علاقة الحقّ بالبنوّة: "لو أن فاطمة بنت محمّد سرقتْ، لقطعتُ يدها." تلك هي القطيعة المعرفيّة والثقافيّة، إلاّ مع منطق الحقّ والعقل والعدل.
واستطرادًا، فقد ذهب (معروف الرصافي)(1) إلى الزعم- في هذا السياق- أن النبيّ كان يتّبع منهج اللِّين والأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، في مكّة فقط، حينما كان والذين آمنوا معه مستضعفين، حتى إذا تمكّن لهم الأمر، أصبحت الدعوة مقترنة بالسيف! وفي هذا تحليل براجماتي، وغير دقيق تاريخيًّا؛ وإلاّ فلا تعارض بين القطيعة مع الموروث الأبويّ، من العادات والتقاليد الفاسدة، وبين مبدأ الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن- لا بالتي هي أخشن- غير أن لكلّ مقامٍ مقال. ذلك أن الحقّ لا يتجزّأ، مع بعيدٍ وقريب، ومكانٍ ومكان، وزمانٍ وزمان، وإن ظلّت الحكمة وتقدير الظروف المحيطة سياسةً متّبعة في كلّ حال، وضرورات الواقع مرعيّة بالضرورة، أمّا المبادئ- من حيث هي- فلا تنازل عنها، بحالٍ من الأحوال.
على أن السُّلطة المجتمعيّة، المتسلّحة بالعادات والتقاليد من الموروثات، هي التي تتخذ عادةً العنفَ سبيلاً للدفاع عن موروثاتها، إنْ لم تُفلح الممانعةُ والمحاججةُ اللفظيّة. وقد يأتي العنفُ من قِبَلها عُنفًا لغويًّا، أو فعليًّا، أو هما معًا. ولذا قُذف الأنبياء والمصلحون، على اختلاف أجناسهم ودعواتهم، بالجنون، وبالسِّحر، وبالكفر، وبالعقوق لما خلّف الآباء والأجداد، وبالصبوء عن نهجهم في الحياة، وأنماطهم في التفكير والتصوّر. غير أنه إذا لم يُفِد هنالك الضغطُ النفسيّ، فلا بُدّ من الضعط الاجتماعيّ: من مقاطعة أولئك الخارجين على الأعراف والعادات والتقاليد، ومحاربتهم، وبثّ الدعايات ضدّهم، وتأليب سفهاء العامّة والخاصّة عليهم، كي ينصاعوا للإرادة الجمعيّة. وذلك ديدن العقليّة الاجتماعيّة في كلّ زمان ومكان مع كلّ مَن يقترب من حماها من المألوفات والتَّرِكات، التي قد تتحوّل مع الزمن إلى شِبه مؤلّهات.
وفي العصر الحاضر نلحظ ذلك جليًّا، ونلحظ من أدوات ذلك استخدام منتجات العِلْم- التي لا ناقة لنا ولا جمل في إنتاجها، ولا حتى في استخدامها الرشيد- في ترسيخ العادات والتقاليد، والذبّ عن حياضهما مِن أن تُمَسّ أو تُنتهك. ومن راودته نفسه إلى شيءٍ من ذلك الاحتكاك بهما، فلا يلومنّ إلاّ نفسه؛ هاجَمَتْهُ خفافيش الشبكة العنكبوتيّة أو غير العنكبوتيّة، بكلّ ما أوتيت من سفاهةٍ، ومكرٍ، وتشنّجٍ، وادّعاء غيرةٍ، وأصالةٍ، وتديّن. وهي بالفعل خفافيش ظلامٍ، تستغلّ وسائل الضياء، لا بدفاعها عن التخلّف والجهل ومحاربتها الرأيَ المخالف فحسب، ولكن لأنها كذلك تتلبّس أقنعةً، تتمثّل في أسماء مستعارة، تعيث من خلالها ما شاءت، عبر المنتديات والصحف الإلكترونيّة والتعليقات اللا مسؤولة في مختلف المواقع على الشبكة. ذلك لأن هناك سرطانًا يستشري من القِيَم والأعراف والولاءات والمخاوف والمكبوتات، آخذًا على عاتقه أن يتمدّد وأن يفرِّخ، ولا بدّ له- ونحن في هذا العصر- أن يستغلّ أحدث ما توصّل إليه العِلْم الحديث والتقنية، فيبثّ سمومه وموروثاته، بعجرها وبجرها، ثم يصول بعدئذٍ على من انتقد فعله أو قاوم مآربه. ولا يحدث هذا عبر الساحات الشعبيّة على شبكة الإنترنت وحدها، ولكن أيضًا عبر المنابر الأخرى التي تسمّى ثقافيّةً، أو تدّعي أنها "ليبرالية" أو حواريّة؛ لأن العقليّة هي العقليّة، والتربية هي التربية، هنا وهناك، وإن بدا تمايزٌ في السحنات والطلاءات. فما أن يتصدى النقد لمثل تلك الأفكار المعوجّة حتى تصحو العناكب الباطنيّة، ويهبّ أربابُ ثقافة الكراهية، وآبار النفط المعتّق من الانطواء والعبوديّة للقيِيَم العتيقة، ومَن يقرؤون الأمور بعيون طبعهم، وحساسيّة تشنّجهم التاريخيّ، ومَن يقبلون كلّ النقد والاختلاف في الرأي كلّ القبول، ويتداعون إلى الحوار والحريّة بحماسةٍ تثير الإعجاب والفرح، حتى يتعلّق الأمر بهم، أو بما يعتنقون، فإذا هم يستكبرون.
لقد فَخَر (الفرزدقُ) قديمًا بحِلْم قومه وجهلهم معًا، في معادلة مثاليّة، حين قال:
أحلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رزانةً،
وتخالنا جِنًّا، إذا ما نَجهلُ(2)
غير أن معظم أعراب اليوم لا تزن أحلامهم جناحي بعوضة، ولا تخالهم جنًّا إلاّ في جهل بعضهم على بعض، وفي حميّتهم مدافعين عن عماهم المعرفيّ والاجتماعيّ. وعليه، فإن أيّ عصبيّة قَبَيليّة، أو مناطقيّة، أو حزبيّة، أو فكريّة، هي حَرِيَّةٌ أن تُخِلّ بموازين الحقّ والعدل، وبالسِّلْم الاجتماعيّ والثقافيّ والإنسانيّ، وأن تغدو أخطر وباء يمكن أن يفتك بالمجتمع، ويُبدّد الطاقات، ويوقد نيران الحروب، ويدقّ مسامير السقوط في العروش والنعوش. ونحن إذ نستشرف- في هذا المقام- نتائج حوارنا الوطنيّ لهذا العام (حول القَبَليّة والمناطقيّة)، يحدونا الأمل في مراجعاتٍ جادّة، وعلاجاتٍ عمليّة ناجعة، تأخذ مجراها إلى التنفيذ، لا في تبادل الخطابات، ووجهات النظر، وتداول "الفضفضات" المنبريّة، لتَدْخُلَ جَنَّةُ حوارنا كلَّ سنةٍ دوّامةَ إرشيفنا الصوتيّ العتيق؛ فإنما الأصل في الحوار أن يكون وسيلةً راقيةً إلى غاياتٍ إصلاحيّة نبيلة، وليس (الحوار للحوار)، على طريقة (الفنّ للفن)!
...........................................
عُقوق:
ــــــــــ
ومِنْ نَكَـدِ الدُّنيـا على الحُرِّ أنْ يَرَى *** عَدُوًّا لَهُ ما مِـنْ بُنُوَّتِــهِ بُــدُّ
عَرَفْـتُ المَوَدَّاتِ انْتِعَــالاً لِطِيـَّةٍ *** تُـرَى غِـرَّةً وُدًّا وفي طَيـِّهـا إِدُّ
بَعِيْدَةُ مَهْوَى النَّابِ في النَّاسِ إِنَّمــا *** عَدَاوَةُ نَجْـلِ المَرْءِ ما بَعْـدَها بَعْـدُ
وما هانَ في الدُّنْيَا شَرِيْفٌ كَمَنْ غَـدَا *** يُعَوِّلُ في الحاجاتِ والمُقْتَفَـى الوَغْدُ
فَعِشْ واحِدًا، فَرْدًا، قَصِيًّا عَنِ الوَرَى، *** إلى أنْ يَجِـيْءَ اللهَ في المَحْشَـرِ الفَرْدُ!
(1) (2002)، كتاب الشخصيّة المحمّديّة أو حلّ اللغز المقدّس، (ألمانيا: منشورات الجَمَل)، 284. وعجيبةٌ مغالطات الرصافيّ في كتابه هذا، كأن يذهب أيضًا إلى أن أكثر من دخلوا في الإسلام إنما فعلوا ذلك خوفًا من السيف، وأن الذين اعتنقوه كمبدإ ذي غاية شريفة قليلون! (ص287). وكأننا لم نقرأ عن أولئك الذين دخلوا في دِين الله أفواجًا، لا خوفًا ولا طمعًا، مضحّين بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، فيما لم يكسبوا من حطام الدنيا شروى نقير، سواء من المهاجرين أو الأنصار أو سواهم! فكيف يصحّ القول إن دخولهم كان خوفًا أو طمعًا، لا إيمانًا فجّر طاقاتهم وغيّر بهم وجه التاريخ؟! ويردّد بعض أفكار ذلك الكتاب اليومَ (كاملُ النجار)، بما يبثّه من خطابٍ إلحاديّ، مناوئ للإسلام والأديان السماويّة الأخرى. جدير بالإشارة أن الرصافيّ في كتابه ذاك لا يعبّر عن فكرٍ إلحاديّ، بل عن عدم إيمانٍ بأن محمدًا أكثر من عبقريٍّ راءٍ ومصلحٍ عظيم في قومه. ثم يأتي مؤخَّرًا كتاب "في السيرة النبويّة" لهشام جعيط، بجزئيه: "الوحي والقرآن والنبوّة"، و"تاريخية الدعوة المحمّدية في مكّة" ليخوض في البحيرة نفسها، وإنْ بمنهج مختلف. لكن الإضافيّ لدى جعيط أنه يخوض في استنباط السيرة من خلال القرآن. وهذا مجال يقتضي العلم الواسع المرهف باللغة العربيّة، وتاريخها، لا العلم بالتاريخ فقط.
(2) الفرزدق، همّام بن غالب (-110هـ= 728م)، (1987)، ديوان الفرزدق، بعناية: علي فاعور (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 491.