وأد الفتنة 4
وأد الفتنة!!!
(4ـ4)
حسام مقلد *
بداية تعازينا الحارة الصادقة لأسر الضحايا الأبرياء من أخواننا الذين سقطوا جراء جريمة تفجير كنيسة الإسكندرية، وقلوبنا معهم جميعا؛ فنحن وهم في خندق واحد وفي سفينة واحدة، وبكل أسى نقول: إن هذه الجريمة البشعة النكراء التي هزتنا جميعا تم الإعداد لها منذ مدة طويلة قبل تنفيذها...!! نعم فقد تصاعدت في مصر أحداث الشحن الطائفي بوتيرة متسارعة خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ تواصل حبسُ واحتجازُ عدد من السيدات اللاتي أشيع إسلامهن داخل الكنيسة القبطية، وتواصلت الوقفات الاحتجاجية المطالبة بالإفراج عنهن، وظهرت تصريحات قبطية متطرفة لمسؤولين كبار في الكنيسة تدعي أن مسلمي مصر ضيوف عليها وأنه قد آن الأوان لرحيلهم!! ورفضت الكنيسة كل الوساطات والدعوات الصادرة من جهات كثيرة لإطلاق سراح هؤلاء النسوة المسلمات المحتجزات لديها، وعلت أصوات المحتجين منددة بازدياد نفوذ الكنيسة القبطية وتحولها إلى ما يشبه دولة داخل الدولة، لاسيما بعد أن ظهرت مؤشرات خطيرة على ذلك فيما يعرف بأحداث العمرانية، كما ندد الكثيرون مرارا بالتحالف بين السلطة وبين الكنيسة باعتبار ذلك تمييزا للأقباط عن سائر الشعب المصري الأمر الذي سيسهم في زيادة عزلتهم عن المجتمع، ويربطهم سياسيا أكثر بالكنيسة التي أصبحت ملجأهم وملاذهم للمطالبة بحقوقهم السياسية، وحذر العديد من المفكرين والخبراء وحكماء الأقباط أنفسهم من خطورة هذا الوضع لسلبياته الكثيرة والتي من بينها:
1. تكريس التقسيم والفرز الطائفي لأبناء الشعب الواحد، وتمزيق نسيج الوحدة الوطنية.
2. إيجاد مناخ فاسد وبيئة ملوثة تعزز ثقافة الفرقة والانقسام بين أبناء المجتمع الواحد، وترسيخ مقولة (نحن وهم) (الأغلبية والأقلية) (المسلمون والأقباط) حتى بدأنا نسمع لغة ومفردات هذه الثقافة الكريهة تتردد بين الشباب والتلاميذ الصغار، ولا أدري أي فائدة ستجنيها مصر وشعبها ونسيجها الوطني الواحد، ونهضتها ورقيها الحضاري من شيوع مثل هذه الثقافة الهابطة الرديئة التي تحرض على التشظِّي والانقسام على أسس تجاوزتها الأمم المتحضرة منذ قرون، نعم هناك اختلاف ديني وهذه إرادة الله تعالى، قال عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود : 118] بل إن الله تعالى هو الذي شرع مبدأ حرية اختيار الدين وحرية اختيار العقيدة لكل إنسان، قال سبحانه: " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة : 256] وقال عز من قائل:" لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"[الكافرون : 6] والله تعالى هو الذي سيحاسب الناس يوم القيامة على معتقداتهم وأعمالهم واختياراتهم، ولا يوجد أحد من الناس لا في الدنيا ولا في الآخرة مفوض من قبل الله تعالى للقيام بذلك، فَلِمَ لا نترك الناس يختارون ما يشاؤون لأنفسهم والله رقيب عليهم؟!
3. تعزيز هيمنة الكنيسة السياسية والمدنية على الأقباط، وإحكام قبضتها عليهم في كل مجالات الحياة وليس فقط في الشئون الدينية، وبسط سلطة الكنيسة المطلقة على الأقباط وتحولها إلى المتحدث الرسمي باسمهم، ودعم فكرة أنها ممثلهم الشرعي في المطالبات والمفاوضات المختلفة.
4. ترسيخ فكرة المحاصصة الطائفية نفسياً تمهيدا للقبول بها واقعياً: اجتماعيا وسياسيا.
5. تقوية جانب الكنيسة في مقابل الدولة، وتعزيز ما تمتلكه من مفاتيح سياسية مختلفة تستطيع أن تفاوض من خلالها بدعوى أنها ممثلة الأقباط وراعية حقوقهم وحامية مصالحهم.
6. تكريس فكرة وجود طائفة مضطهدة في مصر، وفتح أبواب التدخل الخارجي على مصاريعها لإحداث فتنة حقيقية بين أبناء الشعب المصري الواحد، وذلك تمهيداً ـ لا قدر الله ـ لتنفيذ المخطط الاستعماري المعروف والموثق والذي تم تسريبه عام1979م، والهادف إلى تقسيم المنطقة العربية والإسلامية وتفتيتها على أسس طائفية ودينية وعرقية.
7. دعم فكرة وجود تفرقة حقيقية بين أبناء المجتمع المصري الواحد، وتعزيز الشعور الجارف لدى الغالبية بأن هناك كيلا بمكيالين، فعلى الرغم أنه يُسمَح باستمرار لصوت الأقلية القبطية بالارتفاع والصياح مطالبين بحقوقهم، ويُسمَح لجهة محددة (الكنيسة القبطية) بأن تتبنى مصالحهم وتدافع عنهم في كل حدث وفي كل موضوع ـ على الرغم من ذلك نجد أن الغالبية المسلمة مهيضة الجانب مهضومة الحق، يُمَارَس ضد قطاع كبير منها كل أنواع التهميش والتضييق والتمييز، ولا يُسمح لها بالتعبير عن نفسها، ولا توجد جهة معينة تدافع عنها أو تطالب لها بحقوقها.
8. القضاء على فكرة الدولة المدنية، وفكرة المواطنة، وفكرة جعل الناس جميعا أمام القانون سواء، وإقرار التفريق بين المواطنين على أساس الدين، والإقرار كذلك بأن هناك سلطة أعلى وأكبر لغير القانون يخضع لها الأقباط، إنها سلطة الكنيسة القبطية التي سُمح لها باعتقال بعض المصريين دون سند قانوني بزعم أن هذا شأن كنسي!! (ولادنا ورجعوا لينا وأنتوا مالكم؟!).
9. نسف مبدأ المساواة والعيش المشترك بين جميع أبناء الشعب المصري الواحد دون أدنى تفرقة على أساس أن "الدين لله والوطن للجميع" وكذلك نسف مبدأ "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين" وهو المبدأ الذي دأبت السلطة في مصر على تكراره بمناسبة وبغير مناسبة، وبالتالي تظهر حقيقة هذه السلطة والطبقة الحاكمة التي تتلاعب بقضية الدين كيفما تشاء، فتتستر به متى أرادت وتنزعه عنها متى شاءت، ولكنها بهذا السلوك المعيب تضرب أسوأ المثل في الميكيافيللية البشعة والبراجماتية الرعناء، ولعل هذا السلوك ترجمة عملية لمقولة المصريين: "اللي تغلب به العب به" ولكن على المستوى الأعمق والأخطر فهذا السلوك الشاذ المتناقض يقدم الذريعة القوية والحجة الدامغة على بطلان ما دأبت عليه السلطة المصرية من تخويف الناس بفزاعة الإخوان المسلمين، وما تشيعه عنهم من "أنهم يتسترون وراء الدين ويخفون أهدافهم الحقيقية الطامعة في الحكم" فهي بذلك إنما ترميهم بدائها وتنعتهم بصفاتها!!
في هذا الوضع الخانق المحتقن وقعت في أول ساعات العام الميلادي الجديد الجريمة الإرهابية البشعة في مدينة الإسكندرية ثغر مصر الجميل على البحر المتوسط، وسقط عشرات القتلى والجرحى الأبرياء من المصريين جميعا أقباطا ومسلمين، وهذا العمل الإجرامي الغادر الجبان بعيد كل البعد عن الإسلام وعن أي دين آخر، ويفتقر إلى أدنى معايير الأخلاق والرجولة والنُّبل والشهامة والكرامة، وعلى كل مصري شريف أن يدرك ذلك جيدا فلا يربط بين هذه الجريمة النكراء وبين أي دين كان، ومهما كانت هوية الجناة والفاعلين والأيدي القذرة التي دبرت هذا الانفجار الأثيم إلا أن العقل والحكمة والمنطق و... كل ذلك يقول إن المستفيد الحقيقي من هذا الحادث المروع وهذه الجريمة النكراء هم أعداء مصر وأعداء العروبة والإسلام، وهم معروفون وواضحون وضوح الشمس في رابعة النهار، فلن تبرأ أبدا الأيدي الصهيونية من هذه الفعلة الحقيرة مهما كانت هوية المنفذين والفاعلين.
والآن ما الحل؟ ما العمل كي لا تكون فتنة يتجرع مرارتها كل مصري ومصرية؟! وكيف نحمي أنفسنا وأبناءنا وبناتنا مما يحدق بنا من مخاطر جمة ومفاسد عظيمة وشيكة الوقوع ـ لا قدر الله ـ؟!! في الحقيقة لابد أن نتكلم هنا بمنتهى الوضوح وبكل الشفافية والصراحة والقوة، فليس الأمر من قبيل المزايدات السياسية، وليست المخاوف مجرد أوهام أو وساوس، وما جرى ويجري في عدد من دول المنطقة نذير صارخ بما يتهددنا ويتهدد مستقبل أبنائنا، ومن وجهة نظري لابد من الإسراع فورا بالآتي لتدارك الموقف قبل فوات الأوان:
1. إطلاق سراح السيدات الأسيرات أو المحتجزات لدى الكنيسة أيا كانت ديانتهن، فليس من شأن الكنيسة ترك الجانب الوعظي والروحي للتفرغ لاختطاف النساء اللاتي يشاع أنهن أسلمن حديثا!!
2. يجب ألا تتجاوز المؤسسات الدينية (أيا كانت إسلامية أو مسيحية) حدود دورها الروحي، ويجب ألا تتعدى بأي حال من الأحوال مسؤولياتها الدينية والتوجيهية؛ إذ ليس من مهام الأزهر ولا الكنيسة احتجاز أحد أو سجنه لأي سبب كان، وليس من المقبول بتاتا أن تستلب الكنيسةُ القبطيةُ ولا الأزهر أدوار مؤسسات وأجهزة الدولة الأخرى، وليس من المقبول كذلك أن يقوم أحدٌ أيا كان بإصدار الأحكام وتنفيذها بنفسه على الناس!!
3. أن تحترم الدولة والحكومة أحكام القضاء، وتقوم بتطبيق القانون على جميع الناس بكل حزم وعدل وجدية وصرامة، أيا كانت ديانتهم أو وساطاتهم وانتماءاتهم السياسية!!
4. سرعة إنجاز القوانين المتعلقة بتنظيم أوضاع المسيحيين الدينية كقانون دور العبادة الموحد وقانون الأحوال الشخصية، وغير ذلك من القوانين المطلوبة لتنظيم بناء الكنائس، وتحديد الحقوق والواجبات بين مختلف الأطراف.
5. البدء فورا في متابعة ما يلقن للمسيحيين داخل الكنائس والمسلمين داخل المساجد، للسيطرة على روح التطرف والطائفية الآخذة في التصاعد بين أوساط الشباب من الجانبين.
6. وضع كافة أنشطة المساجد والكنائس تحت رقابة الدولة؛ حتى لا تُتَّخذ أيُّ دار للعبادة لممارسة أية أعمال أو أمور مشبوهة تهدد الأمن والسلم الاجتماعي، ولدرء الشبهات التي تثير الشائعات في أوساط العامة (كشائعة تكديس الأسلحة داخل الكنائس).
7. الارتقاء بالذوق العام ومحاربة ثقافة الإسفاف والابتذال والانحلال الشائعة الآن في الحياة الفنية والأدبية والسينمائية المصرية، ونشاهدها في الأفلام والمسرحيات والأغاني والكليبات والروايات...إلخ، ويخطئ من يظن أن هذه الثقافة السطحية الهابطة هي التي ستعصم الشباب من التطرف، فعلى العكس تماما سيتجه أغلب الشباب المصري إلى التدين لحماية ذاته من كل هذا الإسفاف والانحلال، وسيتبنى هؤلاء الشباب المتدينون أيا كانوا مسلمين أو أقباط مواقف متشددة تجاه المجتمع باعتباره في نظرهم مجتمعا منحلا يشجع على الفساد والانحراف، وأنه مجتمع ظالم عاجز عن حل مشكلات الشباب بطريقة عملية عادلة، وعاجز عن توفير فرص العمل والحياة الكريمة لأبنائه، وعوضا عن ذلك يقوم بإلهائهم بالمغريات والملذات والشهوات عبر الحفلات الماجنة الصاخبة والأعمال الفنية الهابطة!!
8. تلطيف أجواء الاحتقان الطائفي بكافة الصور والأشكال، وعلاج المشكلة من جذورها، واستبعاد فكرة الحل الأمني فقط، مع تيقظ الأمن التام للمخاطر الحقيقية التي تتهدد وحدة البلاد وأمنها وسلامتها، والعمل على إزالة كل الأسباب المؤدية إلى تبني العنف والتطرف من أي جهة كانت.
9. مراجعة ما يقدم في التعليم بكافة أصنافه وأشكاله خاصة مناهج التعليم الخاص والتعليم الديني التابع للأزهر أو للكنيسة، وإخضاع كافة الأنشطة والمناهج الصفية واللاصفية لمراجعة نخبة متميزة من التربويين وعلماء النفس والاجتماع، وعلماء الدين من الجانبين.
10. دعم الحوار الإسلامي المسيحي بشكل أخوي متواصل، وتبني فكرة بيت العائلة المصرية التي دعا إليها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور: أحمد الطيب، وتنفيذها بكل دقة وأمانة، وبشكل فعَّال يحظى بثقة الجميع.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
* كاتب إسلامي مصري