هل استقلت الثقافة المغربية
فؤاد وجاني
كلما قرأت عن حاضر الثقافة المغربية، أمسكت يداي برأسي واحمرت عيناي وعظُمت وجنتاي غضبا واختناقا. ولأني إنسان ككل البشر يعشق نعمة النسيان، أتذكر أنوار التأريخ فيشتد النغص ويحتد الألم وأرفع بصري للسماء: رباه، هل نحن فرنسيون؟
تسافر إلى ما كان يوما لامعا غابرا بلدا ليوسف بن تاشفين فتجد الفرنسة رفيقة رحلتك من أول صعودك الطائرة إلى يوم يَرجعون. تبتسم المضيفات : "بونجور مسيو"، فتُذكر نفسك أنها على متن الخطوط الملكية المغربية. الحروف الفرنسية قد هلكت حمراوات الشفاه وأنت الذي خِلت النساء زمانا يغويانهن الذهب والزعفران.
يبادرك الفخور بعروبته ابن البلد الجالس قربك بالتحية، تتجاذبان أطراف الحديث، ومن حين إلى آخر يطعنك برماح فرنسية ليجهز عليك عند الوصول بتحية وداع "أوغوفوار".
يستقبلك شرطي الحدود: أهلا بك في بلدك المغرب، تعرف لها علقما ولاطعما، سلطة بلدك رحبت بك في بلدك بغير لغتك. وتتكرر المشاهد الساقطة. بعد يومين أو ثلاثة، تقرر الذهاب إلى مصلحة وزارية للحصول على وثائق رسمية، يطلبون منك بالفرنسية طلبا خطيا باللغة الفرنسية، واحذر أخطاء الطباعة والإملاء فقد تحكم عليك بالجهل وعلى طلبك بالبطلان.
يصادفك عيد الاستقلال أو تصادفه، وتصغي صُغِيًّا إلى خطاب وزاريٍّ يُفترض فيه أن يمجد مناقب شهداء المقاومة، يُقصي الوزير الأمازيغية والعربية ويختار بدلا عنهما لغة الفرنجة، يحول الذكرى إلى مثالب ومعايب عن جهل ومجاهلة. تقول في نفسك: عظم الله أجركم أيها المقاومون في استقلالكم، أنتم حاربتم الفرنسيين وهؤلاء يحاربون الهوية.
تصْفح صحيفة مغربية صفحاً علَّ الأوراق تُصلح ماأفسدته الأفواه، وفي الملحق الثقافي الضامر المهزول عنوانان لايحتاجان إلى تعليق: الشاعر المغربي اللعبي يضع خطة لإنقاذ الثقافة المغربية، وعلمك بالشاعر أنه لم يكتب حرفا يوما بالعربية وكتاباته فرنسية أغلبها من إصدار دور نشر باريسية. ثم جهيما كظيم الغيظ تقلب الصفحة لتجد فيما بعدها أن الكاتب الفرنسي المغربي الأصل الطاهر بن جلون يفوز بجائزة الأركانة الشعرية وقد حفته آلات التصوير بمسرح محمد الخامس بالرباط وزغردت له أبواق الإعلام الرسمي، وهؤلاء كغيرهم عديدون ممن تسلطوا أو سُلِّطوا على الثقافة المغربية بأيد فرنسية خفية ومعلومة تئد ثقافة الشعب وتدعي حمايتها في آن واحد.
تقول في نفسك: كنا سنفخر بهم إن عدوهم كالدراهم عدًّا أفراداً ووحاداً من الكتاب الفرنسيين النحارير، أما أن ينسبوهم إلى فكرنا وهويتنا وهم يكتبون بغير لغاتنا فقد جعلوهم جسدا لهزيمتنا الفكرية أو مؤامرة شرسة تقضي أن يحرس الذئب الضّينَ من الخرفان والنعاج ويُلبسها المزيف من الصوف الذي لن يقيها بردا ولاجهلا. و يتطاول الرِّعاء في الثقافة فتسهل قيادة المذعنين الخاضعين، ويعلو شعار الخبز فوق كل شيء وقبل كل شيء، والكل سواء في شرع الجاهلين الجائعين. وسلام عليك أيتها الثقافة المغربية.
تُحملق أشفار عينيك في شاشة التلفاز المغربي علَّهما تكتحلان بما يجلو البصر ويذهب عنهما الغشاوة، تلتقطك عدسات الأخبار الفرنسية من القناة الأولى إلى الثانية، يستشيط غضبك، تكاد تُكَسِّرها لولا تَكَسُّر وغنج المذيعات المفرنِسات.
تشن إسبانيا حربا إعلامية هوجاء ضد مغربية الصحراء، تشد الخارجية المغربية الرحال إلى أوروبا، وبالفرنسية يذود وزيرها عن الحمى أمام الملإ الأعلى من السوق الأوروبية المشتركة، يبتسمون، يستبشرون خيرا: مازلنا بخير، ومازالوا تحت أعقابنا مادام وزيرهم يتحدث الفرنسية.
لن تجد للثقافة المغربية هويتها المضيعة بفعل الفاعلين، ولو اعتنقتَ مذاهب المشعوذين وانتهجتَ مسار الدجالين، وكفرت بحكمة العقل وأحكام الدين، وأتيت ببخور الحرمل والجاوي واستعملتهما في بيت الثقافة الموؤودة تحت الطين، وأحضرت من الجن والإنس أفصح الشياطين، ولو رقيتها من المس الفرنسي بكتب العروبيين وتراث الأمازيغيين وشعر المتقدمين وهذيان المتأخرين، لأن سحر وزارة الثقافة المغربية بين قوسي النصر كيد معصوم محصن مكين، لايغلبه اجتماع المطهرين من الكتاب والشعراء والمثقفين.
في بلادك تحتاج الثقافة إلى وزارة، فالوزارة بصريح العبارة ذراع السلطة على الثقافة. وتلكم قمة الديموقراطية أن تُحَدَّد للناس أذواقهم، ورأس الحكمة أن تُصاغ ألسُنهم ومايقرؤون وماينظرون ومايسمعون ومايعقلون، يُستبد بكل الجوارح وتُغرب كل القيم، فالناس في شرع من يدير الوزارة أغبياء سِفاه لا يؤسسون حجَراً لثقافة، وجب عليهم الحجْرُ والمسخ والتجريد من ثياب لغتهم ودثار هويتهم وإزار تراثهم لتصيبهم حمى الفرنسة وتحتلهم رعدة الاغتراب داخل الوطن.
أيها المفرنسون، احملوا أقلامكم وإعلامكم ولغتكم ووزارتكم وارحلوا عنا إلى باريس أو جنيف أو بروكسيل، ارسموا هناك فوق جدرانهم واكتبوا صفحاتهم ومثلوا في مسارحهم وادخلوا تاريخهم أو انصبوا تماثيل لكم في متاحفهم، فنحن لم ولا ولن نعترف بكم فكيف لنا أن نقدسكم. اتركوا لنا ثقافتنا التي كسوتموها غير اللباس وسميتموها كذبا وبهتانا مغربية، فثقافتنا لم تأكل يوما بثدييها وثقافتنا لم تكن يوما عاهرة.