الارتقاء في الاختلاف
كأننا – أشاعرة ومعتزلة - نحتسي القهوة معا..
زهير سالم*
( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ - وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. ). هذه بعض سنة الله في الخلق. الاختلاف جزء من طبيعتنا. وفي عصر أصبح الصوت فيه مسموعا، والصورة مرئية ولو عن بعد؛ لعلنا مطالبون ببعض التهدئة في النبرة ، والتشذيب في الصورة..
في ظروف كالتي يعيشها الإنسان السوري في وطنه حيث، يمتنع اللقاء على أكثر من خمسة أشخاص، يضطر المواطنون إلى مخاطبة بعضهم من وراء جدر، فتنعكس سماكة الجدار وارتفاعه، على طبيعة الكلمات، ولهجة الحوار. ويدلس بعضهم بصمت في تجاوز الحقائق في حشو الخطاب..
وبينما اتسع المسجد الأموي في دمشق، وما يزال، لضريح يوحنا المعمدان، وما يزال الحلبيون يعتقدون أن بين ظهرانيهم في جامعهم الكبير رفات أبيه نبي الله زكريا عليه السلام، وبينما اتسعت مساجد البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة لحوارات الملل والنحل والمذاهب والعقائد والأفكار؛ يصعب علينا في القرن الحادي والعشرين أن نجد مظلة للحوار، تُحل تحتها الحبوة، وتلتقي فيها الأعين، وتليّن فيها رشفات القهوة الزوايا الحادة من الخطاب.
مع موجة الريح الباردة التي حملت الغيث من الثلج والبرد والمطر هبت علينا أيضا ريح أخرى صفراء ، غلبت عليها في طرائق الخطاب وفي تعبيراته أوصاف لا تخدم مشروعا، إن كان الذين انخرطوا في دوامة القيل والقال أصحابَ مشروع. كان بعض الخطاب فظا، وكان بعضه غليظ القلب، وكان الكثير منه مختلطا يبرأ بعضه من المعرفة، وبعضه من بعض، كما كانت في بعضه شتشنة استعلاء طالما رطن بها قوم منذ نصف قرن من الزمان.
وكان الخطأ في منهجية الحوار أكبر منه في مفرداته. والخطأ المنهجي يكون دائما هو الأهم والأخطر. وأساس الخطأ الذي افتعل التراشق غير البريء في رأينا هو التجاوز في استعمال الأدوات. فلعالَمَي الغيب والشهادة، كلٍ منهما قوانينه وأدواته، وإعمال أحدهما في دائرة الآخر هو ضرب من ضروب العدوان.
وفي غبار الصدام المفتعل الذي لا نريد أن نعود إليه في هذا المقام انضم الحشف إلى سوء الكيلة، فكتب البعض ما لا يقال. ينبغي التمييز دائما بين ما يكتب وما يقال، فسبق اللسان أهون إلى حد كبير من سبق القلم. إذ يملك من يستعمل القلم الوقت للروية والقدرة على المراجعة والتنقيح. بينما يختبئ الخطأ تحت شعار فلتات اللسان.
وبغض النظر عن الحق في الاعتقاد، وفي طرائق التعبير، يبقى العدوان على المعرفة لقصور أو لهوى أشد خطرا من العدوان على الأشخاص، أو على المجتمعات.و في إطار هذا العدوان فتح البعض نافذة على تاريخ الأفكار ليدين عقيدة جماهير المسلمين بالانتصار لبعض أهل الزيغ في تاريخ أمة الإسلام.
وهذا المقال ليس معركة في غبار التاريخ ، وليس ثأرا من المعتزلة فهم جزء من الثقافة والتاريخ والأمة أيضا كما يقرر أبو الحسن الأشعري بحقهم وحق جميع المختلفين والمخالفين، هذا المقال دفاع عن مكانة الحقيقة في الذاكرة الجمعية، وتوضيح حقيقة فرقة تشددت وطاردت وعذبت وحكمت على المذنبين بالخلود بالنار وتجرأت على الله ؛ ثم يحاول البعض أن يعيد تقديمها كأنموذج للتحرر والتنوير..!!
كانت المعتزلة أول فرقة كلامية في تاريخ الإسلام تستعين بالسلطة لفرض عقائدها على الناس. فبينما ظل الناس حتى مطلع القرن الثالث يتحاورون ويتجادلون مسلمون وغير مسلمين، أصحاب حديث وأصحاب فقه، قدرية وجبرية ومرجئة بعيدا عن عصا السلطة والسلطان، ثم حدث أن رأى المعتزلة في السلطة أقرب الطرق إلى العقول والقلوب لحسم الحوار.
وقد سبق من فقه هذه الأمة أنه عندما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على اجتهاد الإمام مالك في كتابه الموطأ ، رفض صاحب الاجتهاد منهج الإلزام وقال إن العلم بين الناس كثير. ولا يصح أن يحمل الناس على منهج واحد وطريقة واحدة واجتهاد واحد. وكان ذلك من تمام فقه الرجل المبارك والعالم الأكثر تنورا وتنويرا من أدعياء التنوير حتى في القرن الحادي والعشرين.
ما أن أمسك المعتزلة بعصا السلطة حتى سارعوا- لأول مرة في تاريخ الإسلام ولعلها كانت الأخيرة أيضا – إلى عقد محاكم التفتيش، والتنقيب عن ضمائر الناس وقلوبهم وعقائدهم، وامتحانهم على ذلك، والزج بهم في الزنازين، والنيل من ظهورهم وأبشارهم بالجلد بالسياط..
ولو لم يكن للمعتزلة في تاريخهم إلا هذه السقطة لكفى لإخراجهم من دائرة الفعل الرشيد. لقد تعالى المنهج القرآني أن يكره الناس على أصل الإسلام والإيمان فكيف يقبل من فرقة أن تسعر نار الفتنة لإكراه الناس على فرع من الفروع.( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ).
كانوا من حيث منهجهم في الإكراه على الاعتقاد سقطة في تاريخ الأمة لا يصح لمن يبشر بمشروع للتنوير وحرية التفكير والاعتقاد أن يستحضرهم كأنموذج في عصر استنكر فيه السوط على ظهور الخطاة.
ومحطة أخرى من الضيق في تاريخ أهل الاعتزال أنهم أبعدوا المذنبين والعصاة عن دائرة الإسلام، واخترعوا لهم دائرة المنزلة بين المنزلتين، وحكموا على الرجل منهم في الكأس يشربها بالخلود في النار.
لهؤلاء المعتزلة الذي تفلسفوا فضيقوا الواسع، وحظروا العفو، وساروا مع الهوى قال الماجن الظريف أبو نواس..
فقل لمن يدعي فـي العلم فلسـفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجا فـإن حظركه بالديـن إزراء..
هذا قولهم بينما قال الأشعري المفترى عليه لا نكفر أحدا من أهل القبلة بمعصية، وهو الذي مد مظلة الإسلام لتشمل المتعددين، الطائعين والعصاة المذنبن..
ولعل أسوأ السوءات كانت في عقيدة الذين يسميهم البعض متنورين كانت في قولهم بالوجوب على الله. وهي العقيدة التي ظهر فيها شططهم، والتي عندها انقطع الجبائي شيخ الأشعري ومربيه، فجعله ينخلع من مذهبهم ويعود إلى مكانه في الذب عن عقيدة أهل الإسلام.
الإسلام دعوة للعقل والتفكر والتدبر وللهداية فيه حظها من الإشراق، وحين تتابع نور الإسلام يشرق على أفراد وجماعات في أقاصي الأرض لعلك لا تعجب أن ترى ظل هذه الهداية يتقلص عن أناس ولدوا في سويداء دار الإسلام.
لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ..
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية