ابنتي ودموع المأذون الشرعي

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

رسالة قصيرة وصلتني على الهاتف من ابنتي رانيا تقول فيها

(كيفك بابا , أنا كتبت كتابي , ياريتك كنت معي , بس أنت موجود حتى بغيابك , ادعيلي)

هي موجودة في قلبي , ودعوت لها ربي , في أن يجعل بينهما المودة والرحمة طوال العمر

راودني شعور بالبكاء كظمت غيظي بفرحتي , وعلى جبيني الكبرياء تحملت الخبر , وفرحت لفرحها وحزنت لحزنها ,في أن أباها لم يكن بجانبها في فرحة العمر الواحدة والتي تعيشها الفتاة ,

عندما أتذكرها وهي دائما في ذاكرتي موجودة , وفرحتي فيها

 فهي وردة جميلة , شاعرة رقيقة , تجيد فن الرسم والخط والتقليد , أقارنها بطل الملوحي

تكاد تخنقني غصتي  تتحول لدموع تنحدر على خدي , فلا أستطيع مساعدة ابنتي ولا أن أساعد طل الملوحي في محنتها , الفارق كبير , تلك تكتب كتابها وتريد أن تفرح وتعيش كغيرها في كنف الآسرة الجديدة , وطل الملوحي بعمرها ورقتها وشاعريتها تعيش في الرعب والخوف وحبل المشنقة يتأرجح أمام ناظريها , وهي لا تستطيع رؤية أمها وأبوها وعائلتها , ومع أن ابنتي حرة في حياتها  فهي لا تستطيع أن تجد أباها واقف يشاركها فرحتها في يوم كهذا والذي لن يتكرر أبدا

وردتان ذابلتان وشاعرتان رقيقتان , لم يقترفا ذنبا , ولم يخرجا عن الأصول الموجودة , فهذه تبكي وتلك تبكي , طل تقول كيف حال أهلي ؟

 والمحامي يقول لها هل هذا اعترافك , إنه سيوصلك للإعدام فتقول  

 ولكن كيف حال أمي وأهلي ؟

أشعر فيها وهي رانيا ابنتي بالفعل , أتصور لكم جميل جدا أن تكون ابنتي وطل تقابلتا في المحكمة الشرعية , وقد وهبهما الله الزوجين الصالحين , وتلك أهلها وأهل العريس حولها والفرحة تعم الجميع , وأنا وابنتي وأهلي وأهل العريس فرحون بعقد القران

في سورية وفي بلداننا العربية , الكثير... الكثير والذين حرموا من مشاركة الفرحة مع أبنائهم وفرحة الأبناء مع آبائهم , وتمضي السنون ويزداد القهر وتزداد الغربة , ويزداد الظالم تطاولا في ظلمه وتفاخرا بقدرته على الظلم والاستبداد , وقلب كل ابتسامة لدمعة حزن تتساقط من عيون الرجال والنساء والأطفال وحتى الرضع منهم

من المفروض أن أقدم لابنتي هدية , وأبارك لها وأدعو لها بالخير

 وأنا مشرد مطرود ليس عندي شيء , كيف أعوضها عن غيابي ؟

كيف أبرر لها عدم مقدرتي ؟

هي على الأقل تبرر لنفسها لكن المحيطين والأهل الجدد  لا يجدون مبررا , لأن المغترب عندنا بمفهوم الناس هو صاحب الإمكانات المادية الرائعة وخاصة إذا كان يبدأ اسمه بحرف الدال

ووالد طل الملوحي لا يجد في يده شيء , وقد يقول أن هذه ليست ابنتي , فهو معدوم الحيلة تجاه أمرها , وإن تكلم فمصيره سيكون أخطر من مصير ابنته

كثيرون من الآباء يتساءلون ما ذنب أطفالنا وما ذنب أبنائنا , وأزواجنا

ومتى يحل العدل في بلادنا وننعم بالأمان فيه ؟

يدخل العريس والعروس ومعهما الأهل والأحباب

يقفان أمام القاضي يسأل الفتاة ما ا سمك يا بنتي؟

تقول أنا فلانة بنت فلان

فجأة يتغير لون القاضي , يظهر على ملامحه الاستغراب يفجر عينيه يريد أن ينطق لكنه لا يسعفه النطق

يشرد قليلاً يخوض في أعماقه لماض بعيد , مع غصة في حلقه , يصاحبها تنهيدة عميقة ودموع انطلقت من عينيه لتبلل لحيته

يعتذر ويمسح دموعه ويقول لها , آلمتني الذكرى ... ذكرى والدك فمنذ 31 عاما أو أكثر لم أره وكنا صديقين في المدرسة , أخوة متحابين

مع أنه قال لها كان يجب على أبيك أن يعمل المستحيل حتى يكون بينكم ويظلكم بحنانه

وفي اليوم الثاني كنت أتحدث مع زوجتي عبر الكمبيوتر فقالت لي بعد أن أعلمتني بالخبر ...خبر كتب الكتاب على ابنتي رانيا , وأردفت قائلة , لقد حضر كتب الكتاب أحد أصدقاءك بدون دعوة ولا مقدمات وعن طريق الصدفة

فهل تعرف من هو؟

ذكرت لها شخصين فقالت لا

قلت لها من ؟

قالت فلان المأذون الشرعي في المحكمة

وعندما سمعت اسمه تنهدت تنهيدة طويلة وقلت لها ياااااااااااااااااااااااااااه , ودمعت عيناي بالفعل

فقلت لها كادت أن تدمع عيناي

فقالت وهو دمعت عيناه أيضا

أعظم الصداقات متانة هي صداقة المدرسة , ومهما بعدت المسافات والزمن يبقى ذكراها في النفس عاليا طيبا له مذاق وطعم خاص , لا يمكن أن تحس فيه بصداقة نبتت بعد ذلك , أي بعد مرحلة الدراسة

فالصداقة وقتها تبنى على الحب والمودة ولا يوجد مصلحة فيها  إلا مصلحة الصداقة الرائعة بين الطرفين

والغريب في الأمر والمحير للذات ولأي منصف عالم أو متعلم أو جاهل

هؤلاء الحكام والسلطات الأمنية ورجالاتها

هل فقدوا الشعور الإنساني ولم يبق في نفوسهم خصلة صغيرة منها لتطغى على تصرفاته العدوانية  ويراعي شعور الآباء والأمهات في أمثال قضية ابنتي , وقضية طل الملوحي والآلاف الآلاف والملايين المتشابهة والأشد منهما قسوة ؟

ألم يقارنوا ذلك بكونهم آباء وعندهم بنات وشباب وأن يكونوا مكان المكلومين ,لينبت عندهم حس إنساني على الأقل؟

هل خطرت برأس الحاكم هذا ولو مرة واحدة , أنه لو راعى شعور شعبه لكان آمنا مطمئنا محبوباً من الجميع , ولن يحمل على عاتقه مثل تلك المآسي التي هو صانعها ؟

إن كل دمعة تسقط من عيني مظلوم تعادل الدنيا كلها

متى يملكون مشاعر حب تصاحبها دمعة ود من ذكر اسم شخص صديق ؟

كدموعي ودموع القاضي.