عندما تغيب المروءة

لبنى شرف / الأردن

[email protected]

 تنتابني أفكار وهواجس كلما رأيت طفلة، أو سمعت أن امرأة أنجبت بنتاً، فأقول في نفسي: ترى.. ماذا ستجد أو ستقاسي هذه البنت من صعاب ومآسي وكروب في هذه الحياة؟ وما هذا إلا لكثرة ما أسمع وأرى ما تعاني منه كثير من النساء من ظلم وقسوة وقهر وخذلان وإيذاء جسدي ومعنوي، من القريب ومن البعيد، من الأهل ومن الغرباء.

 ورد عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنه، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سأله لما علم بزواجه: (هل تزوجت بِكراً أم ثيّباً؟). فقلت: تزوجت ثيباً، فقال: (هلّا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك). قلت: يا رسول الله، توفي والدي، أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيباً لتقوم عليهن وتؤدبهن. [صحيح البخاري:2967].

 أرأيتم كيف تكون رعاية الأخ لأخواته وشفقته بهن؟ كان هذا عندما كان هناك شيء اسمه "مروءة"، المروءة التي كانت حتى في عصر الجاهلية، ولكنها غابت في عصرنا، عصر العلم والحضارة كما يقال، وما عدنا نرى لها إلا آثاراً لا تكاد تُرى بالعين المجردة.

 قال الشعبي: (تعامَل الناسُ بالدِّين زمانًا طويلاً، حتى ذهب الدينُ، ثم تعاشروا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعاشروا بالحياء، ثم تعاشروا بالرغبة والرهبة، وأظنُّه سيأتي بعد ذلك ما هو شرٌّ منه).

 أخ في عصرنا محسوب –وللأسف- على فئة المتدينين، يقسو على أخته ويؤذيها، ويمُنُّ عليها بالطعام والشراب، وكأنه يرعى بهيمة لا إنساناً، فمعاني الإنسانية غابت عن وجدان لا أقول هذا الرجل وإنما هذا الذكر، فالرجولة مروءة وأخلاق كريمة.

 قال الفضيل بن عياض: (لا تكمل مروءة الرجل حتى يسلم منه عدوه، كيف والآن لا يسلم منه صديقه).

 وهذا خاطب يترك خطيبته بعد انتظارها إياه لأكثر من سنة، لأسباب تتعلق بأسرتها لا ذنب لها فيها، وتحجج لها بحجج واهية، خذلها وهي أحوج ما تكون إلى العون والنصرة، فما كان منها إلا أن شكته إلى الله.

 قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه.." [صحيح البخاري:2310، وصحيح مسلم:2580]، قال عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما: (أي لا يسلمه لأعدائه، ولا يخذله في موطن يحتاج فيه إلى من ينصره).

 وفي استطلاع للرأي حول موضوع تأخر زواج البنات، قالت أم: إن البنت إذا تأخر زواجها وبلغت الثلاثين، فوجودها في البيت يصبح أمراً غير مرغوب فيه!! سبحان الله! إذا لم يرغب أهلها بوجودها عندهم، فأين سيكون وجودها مرغوب فيه إذن؟! رحماك يا الله من هذا الحال، ومن هذه القسوة التي تملأ القلوب.

 ما أكثر ما تُضطر المرأة للعمل، لأن أحداً لا ينفق عليها، وما أكثر ما تعاني البنات من قسوة وظلم الإخوة والمحارم والأزواج، ومن إيذاء جسدي ومعنوي، ومن سلب للحقوق، ومن بؤس وشقاء، وما أكثر ما يستصرخن فلا يجدن إلا الخذلان، أغابت المروءة، أم تراه مات وتبلد الإحساس؟

 يقولون: ليس لك إلا الدعاء، فهل حقاً ليس لها إلا الدعاء، أم هو خَوَرٌ وانهزام عن نجدة الضعيف ونصرة المظلوم؟ وما أكثر الظلم في بيوتنا، وما الذي نحن فيه إلا بما كسبت أيدينا، وقديماً قال الحسن البصري: (إنكم من أنفسكم أُتيتم).

 إن الفقهاء عندما ذكروا الولاية في الزواج، إنما كان معيار ترتيبهم للأولياء مبنياً على شفقة ورعاية هذا الولي لمصلحة هذا البنت، وحماية لها من الخاطب من أن يغرر بها، فكيف إذا كان أولياؤها يعضلونها ويؤذونها ويسيئون إليها ويأكلون حقها؟! وكذلك الزوج أو المحرم في السفر، حماية للبنت من أن يؤذيها أو يطمع فيها أهل الريبة والفسوق، ولكن مع ذهاب المروءة غابت معاني الرحمة والإنسانية.

 إحدى الأخوات رأت طفلاً في العام الثاني أو الثالث من عمره، يقف مع أطفال الشوارع يبيع "العلكة" ويبكي من شدة البرد، فسألتني: مسئولية من هذا؟ قلت لها: مسئوليتنا جميعاً، فظروف هذا الطفل قاسية، وهو مستضعف لا يملك لنفسه شيئاً، ولكن نحن نملك، بل يجب علينا أن نسعى لنغير من حاله إلى حال أفضل يليق به كطفل وكإنسان، لا أن نتغنى برفع شعارات التآزر وتنفيس الكربات، ثم يتنصل كل واحد منا ويلقي بالمسئولية على غيره.

 قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) [صحيح البخاري: 2896]، فهل تستحق الأمة التي لا تنتصر للمستضعفين والمظلومين، أن يُنزِل الله عليها الغيث، أو أن ينصرها على عدوها؟!.