الأخلاق السياسة
زهير سالم*
ما زالوا يفتلوننا بالذروة والغارب، كما تقول العرب، لإقناعنا بأن فصل الدولة عن الدين، وتجريدها منه، وبقاءها بلا عقيدة، ولا هوية، ولا مشروع أخلاقي هو الأساس الأسلم لبناء اجتماع إنساني سوي. إن أبرز ما كشفت عنه وثائق الويكيكليس، إن كانت كشفت عن شيء، هو سقوط البعد الأخلاقي على مستوى العلاقات الدبلوماسية والسياسية.
إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح. قانون ديستوفيسكي الشهير هذا يؤكد أن الأخلاق مشتق ديني بحت. وأنه عندما ننحي الدين أو نقصيه فإننا نسقط الأصل الذي تشتق المنظومة الأخلاقية منه، والأساس الذي تعتمد عليه.
(الله) جل وعلا هو مصدر الحق والباطل، والخير والشر، والجمال والقبح، واسحب هذا الأساس من خلفية هذه الحقائق الإنسانية تجدها مجرد خيالات متصورة لا حقيقة لها خارج الذهن الإنساني. في عالم الغابة القائم على الصراع تتحول الغريزة إلى قانون ضابط يجعل هذا العالم أكثر انتظاما وعدلا من عالم بشري مجرد من العقائد والأخلاق.
سبق أن جاهر الفتى الفلورنسي منذ القرن السابع عشر بالدعوة إلى تجريد السياسة عن الأخلاق، واعتُبر كتابه إنجيل السياسيين منذ ذلك الحين
لقد أوصى صاحب كتاب الأمير الحاكمَ ألا يعبأ بالفضائل، بل وأن يلجأ إلى الرذائل إن كان ذلك يحقق مصلحته. فلا يجب على الأمير أن يكون كريما لأن الكرم يؤدي إلى الفقر. وهو إن افتقر سيسقط من عين رعاياه، وسيثب خصومه عليه. وعليه ألا يكون طيبا لأن ذلك يثير الثورة عليه في نفوس رعاياه. وينصحه بالقسوة التي تخضع الناس وتمنع الفوضى، وتقيم النظام. ويؤكد عليه ألا يبحث عن رضا الناس وأن يطوعهم لأمره بالقوة والبطش.
يقول : أنا لا ألوم الحاكم الروماني روميلوس الذي قتل أخاه وشريكه في الحكم لكي ينفرد بالسلطة ويوطد سلطاته. ولا ألوم الروماني الآخر بروتس الذي حكم على أولاده الخمسة بالموت لكي يستمر عرشه. فإذا كانت الواقعة تدينه فإن الغاية النبيلة في دوام ملكه تمجده.
هذا الكلام ليس تاريخا للأفكار فلقد تحول خلال قرون أربعة إلى واقع حاكم وأصبحت الأخلاق السياسية مجرد دعوى. لقد عاد ( روبن كوك ) وزير الخارجية البريطاني عام 2003 إلى مقعده في مجلس العموم البريطاني وعيناه مغرورقتان . يوم عجز عن وقف الحرب على العراق، لقد قال إن هذه حرب ترفضها الأمم، ويرفضها الشعب البريطاني، ومع ذلك مضى قانون الحرب اللاأخلاقية إلى غايته، ونُبذ أو استقال روبن، ليعلن بلير فيما بعد أن حربه كانت على القيم.
دولة بلا دين تعني سياسة بلا أخلاق. نعترف أن مظالم كثيرة ارتكبت وما زالت ترتكب باسم الأديان. ونقدر أن الذين نجحوا في فصل الدولة عن الدين، نجحوا في مواطن وأزمنة عديدة في فصل الكنيسة أو المسجد أو المعبد عن الدين. وهذا يفسر الكثير من وقائع الماضي والحاضر التي مارسها المحسوبون على الدين. جوهر الدين: إيمان بالله وعمل صالح.
وبالمقابل هذه الأنظمة التي تُدعى بالحرة والممسكة بقرار العالم، أليست هي التي تضم إلى النادي الدولي حكاما زيفوا إرادة شعوبهم، وسرقوا قرارها؟ إن سمعة تجار المسروقات في عالم الأخلاق السوي سيئة جدا، وهم باعتبار قانوني وأخلاقي شركاء للسارقين.
هذه الأنظمة الحرة التي تدير البنك الدولي، أليست هي التي ترعى صفقات الفساد حول العالم ورجالها يتناوبون على مكانة: الراشي والمرتشي والرائش بينهما..
وهذه الحروب التي تدار حول العالم ألا يغذيها تجار السلاح غير المشروع، وتدور عليها مصانعهم.
وسياسات الاحتلال والاستيطان والتهجير والاعتقال والتعذيب والانتهاك كل هذه الممارسات أليست خروجا مقننا على الدين والأخلاق معا.
حتى في شرعة حقوق الإنسان يميزون بين إنسان وإنسان!!! بأي استحقاق تقدم ( ليو ) الصيني على هيثم المالح السوري؟ أو على (طل) الطفلة التي زجت بها أخلاقية القرن الحادي والعشرين المعترف بها عالميا وراء القضبان...
في عالم عنوانه ( يكذبون علينا ونكذب عليهم ) نجد الصيرورة النهائية لمشروع فصل الدولة عن الدين، والسياسة عن الأخلاق، والإنسان عن إنسانيته. حتى دارون فيما أقدر لم يخطر بباله أن يفتح على الإنسانية باب هذا الجحيم.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية