لأسباب تمس النزاهة
م. باسل قس نصر الله
مستشار مفتي الجمهورية العربية السورية
كأي مواطن تهمه بلده بشكل عام، ومدينته بشكل خاص، أتابع مسلسل القرارات وأخبار منتصف الليل التي تزخ علينا بمناسبة بداية فصول الخريف والشتاء.
سبق أن كتبت منذ أعوام حول المخالفات القائمة في مدينة حلب، والمبنية على فساد غير طبيعي في المؤسسات الخدمية، واليوم يسوؤني أن أقرأ قرارات الصرف من الخدمة، وقول يسوؤني ليس من باب الحزن لما وصلنا، بقدر ما هو من باب العتب على الاكتشاف المتأخر كثيراً لهذه النوعيات الفاسدة .
لم يتغير شيئاً عن ما كتبته، باستثناء السيارات الجديدة التي نقودها ذوات الالوان البيضاء التي نحاول تغطية سواد أعمالنا بها الى السيارات السوداء التي تضفي الوقار الى راكبيها بالرغم من صعلكة الكثيرين منهم. وماركاتها ذات الاسماء المتنوعة من الشبح والنملة والزوم والغواصة وغيرها .
أقرأ الارقام الفلكية للمبالغ المالية الناتجة عن الفساد، وانواع الهدايا المتعددة من سيارة بي ام الى منزل صغير الى دفاتر عضوية في جمعيات سكنية وغيرها. كما أقرأ اهتمام المسؤولين بمحاربة الفساد ودحره ومحو اثره.
أتقدم بالشكر لكل جهود المسؤولين الذين قدموا، والذين نددوا والذين رأيتهم في التلفزيون يوبخون ويدرسون، يرعدون ويزبدون، ولكنني أذكِرهم – ومن باب التذكير ليس إلا - ألم يكونوا في الأمس القريب مسؤولين في مدينة حلب، وأليسوا هم من وَضع ودَعم وقرَب هؤلاء الاشخاص، الذين يكتشفون اليوم بقدرة قادر – سبحان الحي القيوم – انهم فاسدين .
منذ مدة عشرة سنوات، كان الفساد الذي فهمته أنه عبارة عن مخالفات في نظام البناء، ولكأن الكثير من المخالفات لم تتم خلال فترة هؤلاء المسؤولين في موقع القرار، هم او من جاء بعدهم أو قبلهم ، حتى اعتقدت أن المخالفات في الأبنية هي نتيجة وجود الأشباح – بكثرة – في مدينة حلب ، حيث يقوم هؤلاء الأشباح ببناء الأبنية المخالفة والبقع السكانية المخالفة، التي أصبحت تؤوي أكثر من مليوني شخص، هؤلاء الأشباح الذين لم يستطع كل مهندسي وموظفي القطاعات في مجلس المدينة، أن يضبطوهم متلبسين. إضافة إلى وجود من سهل عملية استيراد طاقيات الإخفاء التي تلبسها المخالفة فلا نعود نراها (سبحان الله). حتى أصبح هؤلاء المهندسون والموظفون المساكين يرتعدون خوفا من ظهور تلك الأشباح في أحلامهم.
أفتح عيني أكثر على فساد بانواع مختلفة، فمن المواد المعقمة الحارقة الى مئات المطلوبين الى العدالة باحكام تصل الى الاعدام في بعضها، الى جمعيات سكنية تفوح من طياتها رائحة الرشاوى والسمسرة، الى فساد في مؤسسات زراعية، الى الى الى......
ما يقوم به وزير الداخلية مشكوراً، يدل دلالة واضحة على امرين احلاهما مر، فإما أن الاجهزة المعنية بحفظ الامن والنظام لا تملك امكانية ضبط ومتابعة الامور، أو أن هناك فساداً يجعل المئات من القرارات القضائية لا يتم تنفيذها، وإلا ماذا يعني أن نلقي القبض خلال أيام على آلاف الاشخاص المطلوبين، وهو ما جعلني اتخوف من الكثيرين الذين يمشون في الشارع واتساءل بيني وبين نفسي إن كانوا مطلوبين.
ما يحدث ، هو مقدمة لما صنعناه بأيدينا ، عندما غضضنا البصر قليلا (وليس حياء) وتساهلنا (وليس محبة) وقبضنا (لكنها ليست رواتبنا)، حتى أصبحت مدينة حلب لكأنها بؤرة فساد - وليست لا هي ولا سورية كلها بذلك - ، فمن أبنية مخالفة، الى فساد في جامعتها ومشافيها ودوائرها ومؤسساتها الانشائية والزراعية بفروعها وغيرها.
منذ متى ونحن نسمع عن أبنية (احزمة الفقر) تتجاوز الآلاف لا بل عشرات الآلاف، ومن لا يصدق فليذهب إلى حارة المغاسل ودوار القمر، ناهيك بكرم الدعدع وكرم الصباغ ودوار الجزماتي وحقل الرمي، ولن أتكلم عن مراكز المدينة وغيرها الكثير.
هل الفساد هو خط من تجاوزه فاسد ومن بقي تحت سقفه هو نظيف، هل من يتلقى الرشاوى بالملايين هو فاسد ومن يتلقاها بالالاف هو شريف، وهل انهم حقيقةً لا يعرفون أولئك الفاسدين من مرتشين وسارقين ووطاويط الليل؟
إن من ينتقل من بيت في الطابق الاخير من بناء شعبي في منطقة شعبية الى بيت في منطقة راقية وسكن ريفي وبيوت يؤجرها واولاد في جامعات خاصة وراتبه لا يتجاوز عشرين ألفاً او اكثر، هل سنقول أن الله فتحها عليه؟ ومن جهده وكده حصَل ذلك. أم أننا سنسأل أنفسنا من أين أتى بمبلغ كلفة بناء المنزل الريفي والبيوت؟
إن الفساد يبدأ، ليس فقط مِن مَن الرشاوى الكبيرة، بل من موظف في مؤسسة يرسل بسيارته الى بيته وبيوت الآخرين الفروج والبيض والخضار، ومن موظف يبني البيوت من توريدات انشائية مثل الحديد والاسمنت أو زراعية مثل الاعلاف والادوية البيطرية الى مؤسسته والى بيته.
إن الفساد إذا أردنا متابعته فلنسأل سائقي المدراء ونواب المدراء والموظفين الكبار، وسنعرف الكثير الكثير الكثير، ليس من فساد مالي فقط بل اخلاقي بلياليه الحمراء وذات الالوان الفاقعة، وحضاري واجتماعي وعائلي .
الفساد البسيط هو فساد المال والذي نسمع فصوله في التوقيفات وكف اليد المتعلقة بالمخطط التنظيمي والذي هو ببساطة دراسات لبقع عمرانية إما أن تكون غير خاضعة للتنظيم العمراني، أو أنها قيد الدراسة التفصيلية لجزء من المخطط العام أو غيرها من الجمل التي ملخصها أن هذه الأرض لا يسمح بالبناء عليها حاليا، أو أن المنطقة لا يسمح بالبناء عليها لأكثر من طابقين، ثم يتحفك أصحاب القرار بأن الأمر لن يتأخر بعد مئات من الاجتماعات ومحاضرها الطويلة ووووووو.
ذكرت سابقا أنه بعد الحرب العالمية الثانية قامت معظم دول أوربا وخاصة ألمانيا بإعادة تخطيط وبناء مدن بكاملها، وأكرر إنها عملية تخطيط وبناء مدن بالكامل، وذلك في مدة زمنية لم تتجاوز السنوات القليلة التي نستطيع أن نعدها على أصابع اليد الواحدة، ونادرا ما تتجاوز ذلك أما نحن فيلزم جهابذتنا الكثير من الوقت لتخطط، والكثير من السنوات لتوافق على التخطيط . وعندما يريد جهابذتنا أن يقوموا بالتنفيذ تكون معطيات أسباب التخطيط قد تغيرت، وتصبح المنطقة التي وافق هؤلاء الجهابذة على منحها نظاما تخطيطيا لطابقين فقط، مبنية بالكامل دون ترخيص ودون مراقبة وبارتفاع خمسة طوابق ، ونضع الحق في كل ذلك على الأشباح.
بعد كل هذا لا يجب أن نتنصل ونحاول أن نجد من نحمله أخطاءنا، كلنا أخطأنا، بدءا من راكبي السيارات السوداء إلى من استخدم ساقيه للتنقل وكلنا يجب توبيخه ومحاسبته، من ترك المسؤولية ومن لا يزال قائما يعيش في رغدها، من قدم إلى حلب ومن رحل عنها، لكن الأهم من ذلك أن علينا كلنا أن نجد الآلية لكيفية محاربة الفساد، فعند ذلك لن يفيد ذلك البكاء ولا صرير الأسنان .
اللهم اشهد اني بلغت