الزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار
النداء الثمانون
رضوان سلمان حمدان
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ الممتحنة 10
صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة، ولكن إذا عرف السبب الحقيقي لذلك انتفى العجب، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية في هذا الصدد توضح الحكمة في ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
الزواج في الإسلام يقوم على المودة والرحم والسكن النفسي. ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية. والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها، والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد.
أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة، وبأنبياء الله السابقين، ويحترمهم ويوقرهم، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبي الإسلام، ولا يعترف به، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ في العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبي الإسلام من افتراءات وأكاذيب ، وما أكثر ما يشاع.. وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدي فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التي تدين بدين غير المسيحية واليهودية، وذلك لنفس السبب الذي من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة في هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية، ولا يحقق المودة والرحمة المطلوبة في العلاقة الزوجية.
* يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
وحكمة ذلك: أن المسلم يؤمن بكل الرسل بما فيهم موسى وعيسى عليهم السلام. وبكل الكتب بما فيها التوراة والإنجيل. بينما لا يؤمن أهل الكتاب إلا برسولهم وكتابهم. وقد أجاز الإسلام للزوجة الكتابية للمسلم أن تذهب إلى أماكن عبادتها كالكنيسة والمعبد ، بينما لا يجيز هؤلاء الكتابيين للمسلمة ـ لو تزوجوها ـ أن تذهب للمسجد وتظهر شعائر الإسلام.
والأهم من ذلك: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والزواج ولاية وقوامة، فيمكن أن يكون المسلم ولياً وقواماً على زوجته الكتابية، بينما لا يمكن أن يكون غير المسلم ولياً أو قواماً على المسلمة، فالله تعالى يقول: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾.
والزوجة عليها طاعة زوجها، فلو تزوجت المسلمة غير المسلم لتعارضت طاعتها له مع طاعتها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولعل هناك حكما أخرى كامنة فى منع زواج المسلمة من غير المسلم ، يعلمها الله تعالى، العليم بما يصلح العباد ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾؟
وما على المؤمن بالله تعالى وبحكمته وعلمه؛ إلا أن يقول: ﴿سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾
* ويقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ :
رب البيت المسلم يستحيل أن يمر بخاطره أن يهين موسى أوعيسى، إنه يحترمهما كما يحترم نبيه محمدا، ويصفهما بالوجاهة والرسالة وقوة العزم وصدق البلاغ!
وهذا معنى يلقي السكينة في نفوس أتباعهما.
أما اليهود والنصارى فإن ضغائنهم على محمد أعيت الأولين والآخرين، وقد استباحوا قذفه بكل نقيصة.
وفي عصرنا هذا منحت إنجلترا أعظم جائزة أدبية لكاتب نكرة، كل بضاعته شتم محمد والولوغ في عرضه والتهجم عل حرمه ! فكيف تعيش مسلمة في بيت تلك بعض معالمه؟
إن الزواج ليس عشق ذكر لمفاتن أنثى!! إنه إقامة بيت على السكينة النفسية والآداب الاجتماعي، في إطار محكم من الإيمان بالله، والعيش وفق هداياته، والعمل على إعلاء كلمته، وإبلاغ رسالاته. أهـ
وهذا الذي ذكر ما هو إلا محاولات لاستنباط الحكمة من المنع، ويبقى الكثير الذي لا يدركه إلا الله، على أن الفيصل في المسألة أنه أمر تعبدي محض.
المعاني المفردة[1]
فَامْتَحِنُوهُنَّ: [م ح ن] مَحَنْتُهُ: "مَحْنًا" اختبرته، و"امْتَحَنْتُهُ" كذلك والاسم "المِحْنَةَ" والجمع "مِحَنٌ". فاسألوهن واستحلفوهن لماذا جئتن. فاختبروهن بمايغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان.
أُجُورَهُنَّ: مهورهن. الأجر: عوض العمل والانتفاع والمهر (ج) أجور وفي التنزيل العزيز (فآتوهن أجورهن فريضة) والأجر الحق. (في الاقتصاد) الأجر الذي يكفي العامل ليعيش عيشة هادئة مريحة (مج).
بِعِصَمِ: جمع عصمة وهي ما يديم علقة النكاح. ما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب، جمع عصمة. وأصل العصمة المنع، وسمى النكاح عصمة، لأن المنكوحة تكون فى حبال الزوج وعصمته.
الْكَوَافِرِ: المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب.
الإعـراب
إذا: ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه. وجملة جاءكم: في محل جر بإضافة الظرف إليها. مهاجرات: حال. والفاء: رابطة. وجملة امتحنوهنّ: لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل أمر مبني على حذف النون. اللّه: مبتدأ. وأعلم: خبر. وبإيمانهنّ: متعلقان بأعلم لأنه أفعل تفضيل. والفاء: عاطفة. علمتموهنّ: فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به أول. ومؤمنات: مفعول به ثان. والفاء: رابطة للجواب لأنه جملة طلبية. ترجعوهنّ: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون. ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾: الجملة لا محل لها لأنها تعليلية لقوله فلا ترجعوهنّ. ولهم: متعلقان بحل. ولا هم يحلّون لهنّ: عطف على الجملة الآنفة مماثلة لها. ﴿وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا﴾: جملة أنفقوا: صلة ما أي ما أنفقوا عليهنّ من المهور. ﴿وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾: لا: نافية للجنس. وجناح: اسمها المبني على الفتح. وعليكم: خبر لا. وأن: حرف مصدري ونصب. وتنكحوهنّ: فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي في أن تنكحوهنّ والجار والمجرور متعلقان بجناح. وإذا: ظرف متضمن معنى الشرط. وجملة آتيتموهنّ: في محل جر بإضافة الظرف إليها. أجورهنّ: مفعول ثان لآتيتموهنّ. ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ﴾: بعصم الكوافر متعلقان بتمسكوا. ﴿وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا﴾ جملة أنفقتم لا محل لها لأنها صلة ما، وليسألوا الواو: عاطفة. واللام: لام الأمر. ويسألوا مجزوم بلام الأمر. وجملة أنفقوا: صلة. ﴿ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ذلكم: مبتدأ والاشارة إلى الحكم الوارد في الآيات. حكم اللّه: خبر. وجملة يحكم: استئنافية أو حالية من حكم اللّه. وبينكم: ظرف متعلق بيحكم. واللّه: مبتدأ. حكيم: خبر ثان.
سبب النزول
قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت سُبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبيّ بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرًا، فقال: يا محمد ردّ عليّ امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة
بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم، أبان اللّه تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية، والزواج بالمشركات،
القراءات "الفرش"[2]
وَفى ﴿تُمْسِكُوا﴾ ثِقْلٌ حَلاَ ...
الكلمة |
القارئ - الراوي |
الشرح |
||||||||||||||||||
|
﴿تُمَسِّكُوا﴾ بفتح الميم وتشديد السين ويشهد لقراءة أبي عمرو ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ الأعراف170 وفي التشديد مبالغةٌ. |
|||||||||||||||||||
|
﴿تُمْسِكُوا﴾ بإسكان الميم وتخفيف السين |
|||||||||||||||||||
|
﴿وَسَلُوا﴾ بفتح السين وحذف الهمزة |
|||||||||||||||||||
|
﴿وَسْئَلُوا﴾ بإسكان السين وبعدها همزة مفتوحة |
في ظلال النداء
ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه: « على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ».. فلما كان الرسول والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذاً للمعاهدة. ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار، يُفتنّ في دينهن وهن ضعاف.
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها من شطط وجور. على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية.
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة، فلا يكون تخلصاً من زواج مكروه، ولا طلباً لمنفعة، ولا جرياً وراء حب فردي في دار الإسلام!
قال ابن عباس: كان يمتحنهن: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله.
وقال عكرمة: يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فراراً من زوجك.. وهذا هو الامتحان.. وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله. فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله، لا سبيل للبشر إليها: ﴿الله أعلم بإيمانهن..﴾ فإذا ما أقررن هكذا ﴿فلا ترجعوهن إلى الكفار﴾..
﴿لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن﴾..
فقد انبتت الوشيجة الأولى: وشيجة العقيدة.. فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة. والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى. والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره. والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن.
وكان الأمر في أول الهجرة متروكاً بغير نص، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد.
فأما بعد صلح الحديبية أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات، كما يستقر في واقعهم، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله.
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض على مقتضى العدل والمساواة فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضاَ للضرر. كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته.
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن.. مع خلاف فقهي: هل لهن عدة، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن؟ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات.. ثلاثة قروء.. أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة؟
﴿وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن. ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا﴾.
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن. ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه: ﴿ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حكيم﴾..
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال. فحكم الله، هو حكم العليم الحكيم. وهو حكم المطلع على ذوات الصدور. وهو حكم القوي القدير. ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه. وهو يوقن أن مرده إلى الله.
هداية وتدبر
* يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ النساء الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام فاختبروهن لتعلموا صدق إيمانهن. الله أعلم بحقيقة إيمانهن. فإن أقررن واطمأننتم عند المحنة بما يصحّ به عقد الإيمان لهنّ، والدخول في الإسلام، فلا تردوهنّ عند ذلك إلى أزواجهن الكفار. فلا المؤمنات بعد هذا حلال للكافرين، ولا الكافرون حلال للمؤمنات. وأعطوا الأزواج المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ما أنفقوا في نكاحهم إياهنّ من الصداق. ولا حرج عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا آتيتموهن صداقهن، ولا تتمسكوا بعقد زوجية الكافرات الباقيات فى دار الشرك أو اللاحقات بها، واطلبوا من الكفار ما أنفقتم من صداق على اللاحقات بدار الشرك وليطلبوا - هم - ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات. ذلكم - التشريع - حكم حكمه الله عزّ وجلّ يفصل به بينكم وبين أهل الهدى وأهل الضلالة، والله عليم بمصالح عباده، حكيم فى تشريعه.[3]
* عائشة - رضى الله عنها - زوج النبى قالت: كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ « انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ » لاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلاَمِ وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ « قَدْ بَايَعْتُكُنَّ ». كَلاَمًا.[4]
* يحرم على المؤمنين زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات، وهو خاص بهن، دون الكوافر من أهل الكتاب.[5]
* إن الامتحان أمر في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا اللّه سبحانه، واللّه أمركم بالظواهر، وهو يتولى السرائر، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علماً من باب الظن الغالب، وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم. قال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقيناً.[6]
* سُئِلَ ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًّا لله ورسوله.
* قال الرازي[7]: قوله ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وقال الواحدي هو بمعنى الاستحباب. وقال: ما الفائدة في قوله ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ وذلك معلوم من غير شك نقول فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب. وقال: ما الفائدة في قوله ﴿وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر نقول هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل وفيه من الإفادة ما لا يكون في غيره، فإن قيل هب أنه كذلك لكن يكفي قوله ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير نقول التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر. وأضاف: كيف سمى الظن علماً في قوله ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾ نقول إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم وأن صاحبه غير داخل في قوله ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ]الإسراء 36[
* غير المؤمنين فريقان: أحدهما: كافر، عدو للّه وللمؤمنين، لا يألو جهداً في أذاهم، والإيقاع بهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهؤلاء قد نهانا اللّه عن برّهم، وتوليهم، وموادتهم، بل أمرنا أن نقعد لهم كل مرصد، وأن نعدّ لقتالهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل. والفريق الثاني: قوم كافرون، ولكنهم لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا، إما لعهد بيننا وبينهم، وإما لأنهم قوم ضعاف لا يستطيعون حرباً، ولا قتالاً، ولا إخراجاً، ولا مظاهرة على إخراج، وهؤلاء قد بيّن اللّه أنه لا ينهانا عن برّهم والإقساط إليهم. وهناك فريق لا يعلم المؤمنون حالهم على الجزم، وهم يظهرون الإيمان، فهؤلاء بيّن اللّه حكمهم في الآيات التي معنا.[8]
[1] . المصباح المنير. تنوير المقباس من تفسير ابن عباس. روح المعاني. المعجم الوسيط. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. الجامع لأحكام القرآن. التفسير المنير. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.
[2] . إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع. تحبير التيسير في القراءات العشر ص580. معانى القرآن للأخفش. الشاطبية. حجة القراءات ص 706 ـ 707. الدر المصون في علم الكتاب المكنون 13/384.
[3] . الطبري 23/328. تفسير المنتخب 2/470.
[4] . حديث 5344 - الطلاق - صحيح البخارى.
[5]. التفسير المنير.
[6]. التفسير المنير 28/143.
[7]. انظر: مفاتيح الغيب.
[8]. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ، عن الألوسي.