عندما كانت هوية الوطن حق للجميع
محمد فاروق الإمام
العلاقات التي كانت تقوم أيام زمان بين أطياف النسيج السوري وتذكّرها أمر يثير مكامن لواعج الألم لما صارت عليه في ظل حكم حزب البعث الشمولي، الذي مزق هذا النسيج إلى أثنات عرقية ودينية ومذهبية، وفجر مكامن الحقد والحسد والغيرة والتنابذ والصراع والاقتتال في كثير من الحالات، وكان هو دائماً القاضي والحكم، فصارت سورية التي كانت تضم مجتمعاً يحيا في تعايش سلمي فريد يقوم على الحب والتعاون والإيثار وتبادل المنافع والوقوف صفاً واحداً في وجه كل معتد أثيم يريد الوطن أو استقراره، ولعل مثل هذا التعايش كان الجدار المنيع في وجه المخططات الفرنسية (يوم احتلال فرنسا لسورية) التي كانت تريد زرع الفتن الطائفية والصراعات العرقية والدينية، وتمزق الوطن الواحد إلى دويلات ذات نزعات دينية وعرقية وطائفية، ولكن دون جدوى فقد كان الجميع يصطفون في خندق واحد هو نيل الاستقلال وطرد المستعمر الغاصب.
وأنا هنا لا أقول هذا الكلام جزافاً إنما أقوله مستنداً إلى حقائق ووقائع رويت لي وعشت بعضها، فهذا الشيخ المجهول (لقب أطلقته فرنسا على الشيخ أحمد الإمام) يقود مع صديقه المسيحي الدكتور أدمون رباط مظاهرة عارمة طافت شوارع مدينة حلب، وكان الشيخ يرفع بيده الصليب في حين كان الدكتور رباط يرفع بيده القرآن، وكانت المظاهرة رداً على ادعاء الفرنسيين أن المسيحيين أقلية مضطهدة في سورية ويريدون حمايتها، وهذا سلطان باشا الأطرش (الدرزي) يقود الثورة السورية على الفرنسيين، وهذا الشيخ صالح العلي (العلوي) ينتفض في وجه الفرنسيين ويقود العلويين الوطنيين في الساحل رداً على محاولة فرنسا إقامة دولة علوية في الساحل السوري وفصلها عن الجسد السوري .. ورأس المسيحي فارس الخوري الوفد السوري إلى الأمم المتحدة ليعلن من على منصتها استقلال سورية عن فرنسا، وجاء تشكيله الوزارة بعد الاستقلال تدين فرنسا بأنها كانت تريد زرع الفتنة الدينية في سورية وأن المسلمين بكل طوائفهم ومذاهبهم والأقليات العرقية والمسيحيين يعيشون في سورية في حب ووئام وتعاون لا مثيل له منذ فتح الشام وحتى ما قبل تربع حزب البعث على سدة الحكم، ويؤكد على ذلك ما جاء في كتاب الروائي والصحفي الفرنسي بيير لامازيير (مسافر إلى سورية) الذي زار المنطقة عام 1926 ووضع كتاباً عنها يروي إخفاقات سياسة الانتداب الفرنسي والمشاكل التي زرعها في الجسم السوري، ومما يرويه في كتابه رداً على نوايا فرنسا في تمزيق الدولة السورية إلى دويلات تقوم على العرقية والدينية والمذهبية قوله بحسب مشاهداته: (خمسة عشر يوماً انقضت، جرت فيها الانتخابات في ولاية حلب بأسرها، واجتمع المجلس المشكّل... وخلال الساعة الأولى من اجتماعه قام باقتراع جماعي، يؤكد ارتباطه بدمشق، هذا الارتباط غير القابل للتبديل. وللاحتجاج على محاولة ما قد يحصل لتقسيم جديد للأراضي الموضوعة تحت الانتداب، وللإعلان عن وفائه لفكرة الوحدة السورية، ولكي يظهروا بأنهم من خلال الاقتراع، يعبّرون عن شعور الشعب، هكذا حملوا نصف قنطار من الاعتراضات المزينة بتواقيع جميلة بخط اليد الأسود، ممهورة بأختام بنفسجية اللون، فحواها أن كل من له قيمة في سورية الشمالية يعلن أن حلب ودمشق لا تشكلان سوى جسم واحد له الدماغ نفسه، والأحشاء نفسها، وأن لب الضلع من اللحم لا يريد أن ينفصل عن العظم).
كذلك كان حال الإخوة الأكراد الذين كانوا طيفاً مهماً من النسيج السوري، وكانوا حماة الحدود الشمالية والدرع الذي حال دون وصول الكماليين الطورانيين في الدولة التركية إليها، فهذا الشيخ المجهول بعد انتصار الديجوليين وهزيمة الفيشيين الذين تعاونوا مع الوطنيين يفر مع مجموعة من إخوانه الوطنيين إلى تركيا، ويقعون في قبضة الأتراك الذين قادوهم لتسليمهم إلى الإنجليز، ويتمكن الشيخ ورفاقه من تحرير أنفسهم من معتقليهم بواسطة الضابط التركي المسلم الذي كان يرافقهم، واللجوء إلى الوطني الكردي البارز أحمد فائق آغا في منطقة عفرين، الذي أجارهم وآواهم وحماهم لأكثر من شهر حتى تدبروا أمرهم.. والأمثلة على العلاقات الكردية العربية أكثر من أن تحصى بأمثلة فقد كانت العرى وثيقة لدرجة عقد الزيجات والمصاهرات بين الطرفين على مر التاريخ، ويشهد على ذلك التوزع الكردي في مختلف المحافظات السورية وخاصة دمشق العاصمة ومدينة حلب ومدينة حماة التي تسلم عدد من أبنائها الأكراد رئاسة الدولة السورية وأيضاً رئاسة الوزراء، وكان منهم وزراء ونواب وموظفين كبار في كل دوائر الدولة وقادة عسكريين قادوا الجيش السوري في فترات طويلة.
ويكفي الإخوة الأكراد فخراً أن منهم القائد صلاح الدين الذي حرر بيت المقدس وبلاد الشام من الصليبيين الغزاة ولم يفكر للحظة واحدة أن يقرب أبناء عرقه أو قوميته ويبعد باقي أطياف المجتمع الشامي، ولو عدنا إلى تاريخ حقبة صلاح الدين لوجدنا العجب العجاب من هذا الرجل في العدل والإيثار والبطولة والفداء، وإكراماً لهذا الرجل العظيم كان علينا تقدير الأكراد واحترامهم والتودد إليهم ووضعهم في بؤبؤ العين وفي فؤاد القلب.
وكان استثمار التجار السوريين لأموالهم في المنطقة الكردية من أهم عوامل التعاون وتبادل المنافع بين الطرفين، الذي أدى إلى ازدهار المنطقة الكردية لتصبح من أغنى المناطق السورية، التي تردف الاقتصاد السوري بمئات الملايين من الدولارات، فقد كانت حلب سوق الزيت والزيتون للأكراد، ذلك الزيت الشهير الذي تمكن التجار الحلبيون من إيصاله إلى معظم دول العالم، وكان يعرف (بالزيت الكردي السوري).
لقد عاشت الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في سورية في حب ووئام واحترام ومواطنة متساوية على مر العصور والتقلبات السياسية التي عصفت ببلاد الشام منذ الفتح الإسلامي الأول وحتى إمساك حزب البعث بعنق السلطة في سورية عام 1963، فلم نكن نسمع بتمييز بين إحدى هذه الأقليات (المسيحيون 6%، والعلويونن8%، والدروز3%، والإسماعيليون3%، والشيعة1%، وأقليات أخرى 1%) وغيرهم وبين الغالبية العظمى التي يشكلها المسلمون ومن بينهم الأكراد (78%). وكانت كل هذه الأقليات المتنوعة مع الأكثرية المسلمة تدين بالولاء للوطن وشعارها (الدين لله والوطن للجميع). فلا مفاضلة بين أحد أو تمايز فالكل تجمعهم هوية الوطن الواحد بلا أي معايير عرقية أو دينية أو مذهبية.
وجاء حزب البعث يحمل في جينات فكره فيروس التفرقة العرقية والدينية والمذهبية ليمزق النسيج الوطني السوري ويزكيها بنيران المفاضلة والتمايز وتباين المعايير بين زيد وعمر، فهذا يرث وهذا لا يرث وهذا يُنصب وذاك يُغيب وهذا عميل وهذا وطني وهذا خائن وهذا ثوري وهذا يميني عفن وهذا تقدمي وهذا رجعي وهذا يساري متفهم.. و.. و..إلخ.. وكان أقسى أنواع التمايز والتباين في معاملة الحكومة لمواطنيها حرمان ما يزيد على 300 ألف مواطن سوري كردي من هوية الوطن وجنسيته، وتهجير الآلاف من الإخوة الأكراد من موطنهم الأصلي في الجزيرة السورية، وإقامة ما سموه بالحزام الأخضر (إحلال العرب مكانهم).. وقائمة التمايز والكيل بمكيالين وتنوع الألقاب والنعوت والصفات والمفردات أكثر من أن تحصى أو يتذكرها المرء التي طبع حزب البعث فيها الجماهير السورية على مدى نصف قرن تقريباً.. وهذا جعل من المجتمع السوري مجتمعاً مفككاً ينخر في جسده الفساد ويفرغه من قيمه الأصيلة التي عُرف بها على مر القرون، وبالتالي تفشي الجريمة والبطالة وهجرة رؤوس الأموال والعقول المبدعة والعمالة الفنية الماهرة لتصبح سورية بعد غنىً وترف إلى شح وفقر وتخلف وتراجع في الصناعة والزراعة والتجارة، وفي بعض الحالات إلى جوع (35% تحت خط الفقر) والقضاء على الطبقة الوسطى المبدعة والمنتجة وجعل المال بيد حفنة من حيتان السلطة الذين يسيطرون على (95%) من الاقتصاد السوري، في حين لا تدخل مبيعات الثروات النفطية والمعدنية في خزينة الدولة، وحين تجرأ النائب رياض سيف إلى التساؤل في مجلس الشعب أين تذهب هذه الأموال قبض عليه ونزعت عنه الحصانة النيابية والقي به في السجن، وكذلك كان مصير البروفيسور عارف دليلة عندما انتقد السياسة الاقتصادية للحكومة.
وعن السياسة السورية الخارجية تحدث ولا حرج فهي سياسة متخبطة ومتذبذبة فتارة تسمع من إعلامهم أنهم بلد الصمود والتصدي والممانعة والتحدي، لتراهم في نفس الوقت يلهثون وراء أمريكا لتجمعهم في مفاوضات مع إسرائيل، التي لم تر الأمن والأمان في حدودها الشمالية مع سورية منذ قيامها كما هي الحال اليوم في عهد حزب البعث، الذي أضاع الجولان عام 1967 دون دفع أو مدافعة، وينتظر إعادته إلى سورية عبر وساطات أمريكية تارة وأوروبية تارة أخرى، عبر ما أطلق عليه بالسلام الاستراتيجي مع العدو الصهيوني، الذي لم يكترث لهذا السلام لا من قريب أو بعيد، وهو على أرض الواقع ينعم به مع سورية منذ العام 1974 عندما عقد معها اتفاقية فك الاشتباك عند الكيلو (54).
الحديث عن سورية في ظل حكم حزب البعث الشمولي ذو شجون وآهات وإحن تمزق نياط قلب كل سوري سواء كان في الداخل وهو يعيش الفقر والجوع والتدجين والقهر والإذلال، أو في الخارج وهو يتجرع مرارة وقسوة النفي والغربة عن الأوطان.