مَن يمثل الضمير العربيّ
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
-1-
قال (ابن دحية)، في "النبراس"- في حكاية تاريخيّة فيها عبرة لأولي الألباب-: "قتل القرمطيّ الخَلْق العظيم بالعراق، والجزيرة، والشام، إلى أن عاد إلى الأحساء ومَلَكها، ووزراء الخليفة، في ذلك كلّه، يتنافسون في صيد الدرّاج، وينثرون على راميها المال الجزل، ويُدخلون في الشريعة اللَّعِبَ والهزل، وأُمُّ المقتدِر تطوي عن ابنها الأخبار من الرزايا والفجائع، وتقول: إظهارُها يُؤلم قلبه! فأدّى ذلك إلى غاية الفساد." وما أكثر قرامطة هذا الزمان! فيما نحن لاهون، نصيد الكلمات الدارجة، وننثر الأموال الجزلة على رماتها، ونطوي عن قلوبنا مواجهة الحقائق، ومطاولة عصرنا الجادّ، منتشين بأحاديث الهزل واللَّعِب؛ لأن إظهار ما لا نودّ إظهاره يُؤلم قلوبنا!
ولا يمكننا أن نُغفل في سياق الحديث عن مقوِّم اللغة، وهو عاملٌ جوهريّ في فشلنا المعاصر، أن اللسان هو الإنسان؛ هو وعاء إنسانيّته، بمعارفها وفكرها وقِيَمها وعواطفها. اللسان العامّيّ هو لسان أهله، بمعارفهم وفكرهم وقِيَمهم وعواطفهم. وطاقة اللغة لا تتأتّى بكثرة مفرداتها، وتلوّن أساليب تعبيرها، ولكن برصيدها من التاريخ المعرفيّ، والفكريّ، والحضاريّ. وهذا ما أمدّ عربيّة ابن سينا أو الفارابي، مثلاً، بزخمها لاستيعاب مختلف العلوم والفنون التي كانا يخوضان فيها، دونما حاجةٍ إلى لغةٍ أجنبيّةٍ للتعبير، كما يحدث فينا اليوم؛ لأن اللغة حضارة، والحضارة لغة، فمَن مَلَك الحضارة مَلَك اللغة. ولو كان ابن سينا والفارابي عبدَين في بلاط لغةٍ أجنبيّةٍ، لما كان لهما ذِكر في رصيد الثقافة العربيّة، بل لما كان لهما ذِكر في تاريخ المعرفة الإنسانيّة؛ لأن مَن لا يفكّر بلغته فليس بمفكّرٍ حقيقيّ، ولا بمبدعٍ حقيقيّ، ولا يمثّل إضافة في المسيرة الإنسانيّة؛ من حيث هو قد فَقَدَ شخصيّته الإنسانية المتمثّلة في لغته؛ فالإنسان لغته. فما رصيد العاميّة- التي ينادي بها بعضهم بديلاً للفصحى، جهارًا أو دوارًا- من ذلك كلّه؟
إنه رصيدٌ شِعريّ لا فكريّ، وبدائيّ لا حضاريّ، وشفاهيّ لا كتابيّ؛ بما تعنيه الشفاهيّة من مباشرة وتلقائيّة، وطَرَبٍ للصوت أكثر من المعنى، وما تعنية الكتابيّة من آفاق التأمّل والتحليل، والذهاب عميقًا وراء ظواهر الأشياء وأصواتها. ولو قارنّا في هذا الصدد بين الشِّعر الجاهليّ والشِّعر العاّميّ في الجزيرة العربيّة، خلال العصور المتأخّرة، لما أمكنتنا المقارنة؛ من حيث إن الشِّعر الجاهليّ- وإنْ كانت تغلب عليه الشفاهيّة- لم يكن شِعرًا عامّيًّا، بما يعنيه مصطلح "العامّيّة" المتأخّرة من معنى. بل لعلّ كثيرًا منه كان كتابيًّا، وإنْ أعوزتنا في ذلك البراهين والوثائق المتظافرة؛ لأن ما ضاع من تراث العرب أو ضُيّع لأسباب كثيرة- لا لعدم التدوين فقط- هو أكثر ممّا بقي، غير أن شواهد النصوص الشِّعريّة-- التي يدخل عنصر الكتابة فيها ضمن أدواتها التصويريّة-- وكذا الأخيلة البالغة في كثير منها درجات من التركيب، كلّ ذلك لا يتأتّى لشاعرٍ أُمّي. هذا فضلاً عن الآثار المكتشفة حديثًا في الجزيرة العربيّة، الدالة على حضور الكتابة على نحو ملحوظ في حياة العرب قبل الإسلام. وتلك قرائن تؤكّد ما نزعمه: من أن الشِّعر الجاهليّ ليس بشِعرٍ عامّيّ. بل إن من الشعراء الجاهليّين مَن كان يعرف أكثر من لغة، وربما اشتغل بالترجمة، كالشاعر عَدِيّ بن زيد العباديّ XE "عَدِيّ بن زيد العبادي" ، ولقيط بن يَعْمُر الإياديّ XE "لقيط بن يَعْمَر الإيادي" ، وأُميّة بن أبي الصَّلت XE "أُميّة بن أبي الصَّلت" ، وغيرهم(1). هذا بالإضافة إلى أن أولئك القوم كانوا ورثة حضارات عربيّة عريقة، إنْ في جنوب الجزيرة أو في شمالها أو شرقها. وما الجَدَل الفكريّ المرير الذي كانوا يواجهون به آيات القرآن الكريم والنبيّ محمّدًا عليه الصلاة والسلام إلاّ دليلٌ على المستوى غير الهيّن من الفطنة والفكر والمَلَكات الجَدَلِيّة والمنطقيّة التي كانوا عليهما، وهو ما شَهِد لهم به القرآن. هذا ناهيك عمّا عُرف من معارفهم، وأسواقهم، وأيّامهم، وحِكَمِهم، وأمثالهم، وخطابتهم، وشِعرهم، وسياساتهم، التي تدلّ على أن حياتهم المعرفيّة والفكريّة وثقافتهم عمومًا كانت أرقى بما لا يقارن بنظائرها- إنْ وُجدت- لدى عرب الجزيرة في القرون المتأخّرة، وأَنْ شتّان بين الحالتين؛ فحال عرب الجزيرة في القرون المتأخّرة- أي منذ القرن الثاني للهجرة إلى العصر الحديث- كانت تمثّل أحلك حقب التاريخ العربيّ التي مرّت بها هذه المنطقة الجغرافيّة؛ حيث عاشت عُزلةً عن العالم، وتهميشًا من الحكومات الإسلاميّة، وانحدارًا اجتماعيًّا وحضاريًّا، لا نظير له، اللهم إلاّ في بعض أدغال أفريقيا قديمًا. وأوصاف الرحّالة الذين مرّوا بالجزيرة خلال تلك القرون شاهدة على ما نقول(2).. ولا عيب في الإقرار بحقائق التاريخ؛ فما يعيب الإنسان إلاّ عجزه مع قدرته.
-2-
في مداخلة على مقالي بعنوان "لغة العين وصناعة الإعلام الترفيهي"، "المجلّة الثقافية"، 14 أكتوبر 2010، كتب السيّد ذياب شاهين، على موقع "صحيفة المثقف" الإنرنتيّ: "...إذا كنتُ أتفق معك حول ما نسمعه من غناء فاضح وفيديوكليبات تافهة تروجها بعض القنوات التجارية، فإنني أجدني لا أتفق معك بالكامل عما أوردته من ترويج للفنون الشعبية الأخرى، ومنها الشعر من قبل بعض القنوات. لا شك أنك تعرف أن البلاد العربية فيها الكثير من الشعراء الشعبيين من أشهرهم مظفر النواب وأحمد فؤاد نجم وأحمد رامي، وهؤلاء قطعًا لا يقدمون ثقافة تافهة، ولا أزعم أنهم قد قدموا ثقافة عظيمة، ولكن مع ذلك قد أحببناهم وصفقنا لهم؛ لأنهم يمثلون الضمير العربي بلهجات متعددة، وهم لم يروج لهم الإعلام، ولكننا كنا نستمع لبعضهم سرًّا، وعن طريق الكاسيتات المهربة من خارج العراق، خصوصا (مظفر)، كما أن ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم استمعنا لها عن طريق الكاسيت، نحن لا ندري إن كان قد ظهر شعراء شعبيون في العصور السابقة (ما قبل الإسلام، أموي، عباسي) ولِمَ لَم يصل إلينا، وما إذا كان ما وصل إلينا من شعر يمثل العربية نطقا وكتابة في ذلك الوقت، ولكني أحب أن أوضح شيئًا واحدًا، هو أن الشعر يخلد وينتقل ضمن الزمكان عندما يُكتب، ولكنه يضيع عندما لا نستطيع كتابته؛ لذا وصلنا شعر الفصحى وظل شعراؤه خالدين ومات شعر العامية بموت شعرائه، ولم يستطع الإعلام أن يخلده لأنه شعر آنيّ ومحدد المكان."
واحتفائي بهذه المداخلة التفاعليّة سببه ما تتّسم به من خطاب راقٍ، ولهجة ثقافيّة مهذّبة، عزّ في أيّامنا نظيرُها ممّن يختلفون معك في الرأي، ولاسيما حينما يتعلّق الأمر بمثل هذا الموضوع "الشعبيّ". وبإمكاني أن أضيف على سماء الأسماء المذكورة في تلك المداخلة عشرات النجوم العامّيّة اللامعة، ولعل من أكثرها لفتًا على سبيل المثال: الشاعر العامّي الصعيدي الشاب هشام الجخ، وهو شاعر متميّز بصوته السياسيّ والوطنيّ والقوميّ، ويُحسن الشِّعر بالفصحى أيضًا، كما يبدو من قصيدته "انطردي الآن من الجدول"، على هذا الرابط:
ولو أراد هذا الشاعر أن ينطرد من جدول العاميّة، لأمكن أن يكون شاعرًا كبيرًا في جدول العربيّة، فهو خريج جامعة، متخصّص في التجارة وإدارة الأعمال، والدته كانت مدرّسة للغة العربيّة، وهو دارس للنحو والعَروض- كما يقول- مثقّف، ذو حسّ شِعري جميل.. فلماذا ينخطف أمثال هؤلاء بالأضواء المؤقّتة والتفاف حبال الجماهير حول حناجرهم؟! مَثَل هؤلاء كمن درس في أرقى معاهد الموسيقى، لكنه يصرّ في النهاية على أن يكتفي بالغناء الدارج على القُصَّيْبَة أو الربابة، دون أن يفكّر حتى في تطوير القُصَّيْبَة أو الربابة أو الغناء! ذلك أن المعاني تظلّ مطروحة في الطريق، كما قال الجاحظ، والقضايا يشترك في همومها الجميع، وبأي لغةٍ كانت، وإنما الأمر الذي شغلني ويشغلني هو تلك اللغة التي يُكتب بها الشِّعر، لا مضامين الشِّعر، عَلَت أو أسفّت. إلى جانب أني أرى في عمل مَن يكتب بالعامّيّة وهو يحمل شهادة تعليميّة، ويُحسن الشِّعر بالفصحى، ضربًا من الخيانة العربيّة، و"الشيزوفرينيا" الثقافيّة. لأن الأدب رسالة لغويّة وحضاريّة، وليس محض وسيلة تنفيس عن كبت، أو بثّ لواعج ذاتيّة أو جمعيّة، أو استسقاء تصفيق الجماهير العابر. الأدب رسالة عُليا، وغاية في ذاته، وليس بملهاة، أو وسيلة إلى غيره، مِن كسبٍ ماديٍّ أو معنويّ. وقد ظلّ الشِّعر في كلّ الثقافات والتواريخ مَنْجَمَ اللغة الأوّل، تَفْسُد بفساده، وتتوهّج جذوتها بتوهّجه. فحين يُختطف الشِّعر العربيّ إلى هوامش لهجيّة هنا وهناك، فذلك من أفتك معاول الهدم لبناء اللغة التي تجمع هويّة العرب، وتمثّل حضورهم بين الأُمم. فإذا بات الإعلام في يد العامّيّة اكتملت بذلك عناصر المصيبة، وقُلْ حينذاك على دنيا العربيّة السلام، ستزداد تقوقعًا وضَعفًا وذبولاً وتيبّسًا ومواتًا. ثم لا يعنينا البحث بعدئذٍ عمّا إذا كان لسان العرب قديمًا وأدبهم المنطوق هو بمستوى اللغة المكتوبة التي دُوّنت ووصلت إلينا؟ إنما ما يعنينا- كقضيّة أولى- أن هذه اللغة التي أصبحت جامعة الشعوب العربيّة، ورابطتهم بتاريخهم وحضارتهم، ووجههم الوجوديّ المعاصر، هي مكتسبٌ غالٍ جدًّا، ومقوّمٌ ثمين، كأثمن ما يحرص عليه إنسانٌ شريف، ومُلك عظيم لدى كلّ أمّة تحترم وجودها؛ ولأنها كذلك لا يمكن لعاقل- أو حتى مجنون!- التفريط فيها بأيّ ثمن، أو الرضَى بما قد يوهنها، وإن عَزّ. إن اللغة هي الإنسان، وتراب الوطن، وروح الأمّة، وضميرها الحيّ. ومَن لم يمسسه طائفٌ مِن غيرةٍ على (أُمِّهِ اللغويّة)، فقد برئ من ذلك كلّه. .. تلك هي الحكاية باختصار!
(1) انظر: كتابي " ألقاب الشعراء: بحث في الجذور النظريّة لشِعر العرب ونقدهم&q"، (الأردن- إربد: عالم الكتب الحديث، 2009)، 60- 67.
(2) انظر في هذا مثلاً: ناصر خسرو، (1983)، سفر نامة: رحلة ناصر خسرو القبادياني، ترجمة وتقديم: أحمد خالد البدلي (الرياض: جامعة الملك سعود). وقد قام برحلته خلال القرن الخامس الهجري؛ فكيف بما بعد ذلك؟!