ماذا تريد سورية الوطن والشعب
من حاضنها العربي
زهير سالم*
هل يقتضينا المقام أن نعيد التذكير بدور الشام وشعبها في صنع تاريخ الأمة وحضارتها ومشروع نهضتها؟! هل هناك من يجادلنا في عروبة شعب سورية وأصوله الممتدة من الغساسنة والمناذرة وبكر وربيعة وطي إلى جيوش الفتح يقودها أبو عبيدة وخالد. إلى مُلْك العرب الأول يؤسسه ابن أبي سفيان..
هل نحن بحاجة إلى التذكير بشام الجهاد يحمل العبء الأكبر في رد هجمات الفرنجة والتتار، أو بشام النهضة يحدو لها الكواكبي وكوكبة الشهداء الأحرار يقولون لاستبداد الاتحاديين من الترك: لا..
هل نحن بحاجة إلى التذكير بكل هذا لنقول لكل أبناء الأمة العربية من حكام وقادة رأي وفكر، إنَّ لشعب سورية المنسي والمخذول من أهله وعشيرته حقاً، وإنَّ له في معركة الأمة دورا ، وإنَّ تغييب الشام الأصيل عن ساحة الفعل العربي يفتح في جنب الأمة ثغرة لا تسد، ويُحدث في حدها ثلمة لا قوام لأحد بها..
وحين يعيد المرء تقويم الواقع العربي، وما فيه من وهن وتفكك واضطراب، فليس له أن يتجاوز الأسباب الحقيقية المؤسِسة لهذا الوضع، الذي أضاع مشروع الأمة، ونال من هيبتها، وأطمع فيها من لا يدفع عن نفسه. إنَّ تلمس الأسباب الحقيقية لهذه المأساة لا يكون بالتعلق بحدث عارض هنا وموقف عابر هناك. ولقد أتى على أمتنا حين من الدهر ونحن نتابع سياسات عربية قامت أصلا على تجاهل الشام وشعبه ودوره الرسالي والحضاري والقومي، ثم أُتبع ذلك بالاسترسال في أمر الشام على ما خططت فرنسة ( غورو )، أو على ما باركت يوما ( مادلين أولبرايت ) !! يسوءك أو يثير عجبك أن تجد ساسة الأمة ونخبها أيضا يخادعون أنفسهم عن الحق، ويتعبون خيلهم في باطل، ثم يتساءلون: أنى هذا؟! قل هو من عند أنفسكم..
سنسلم أن لدول الغرب مصالحها التاريخية والاستراتيجية في إخراج سورية وشعبها من معادلة الفعل الحضاري والقومي. وسنسلم أن من مصلحة بعض دول الإقليم أن يجعلوا من سورية سوقا لسلعهم في زمن تقدمت فيه قيمة الدرهم والدينار على قيم الدين والعقيدة ، و سنعترف أن من مصلحة آخرين أن يجعلوا من دار ابن أبي سفيان سوقا لأفكارهم ، ومن مسجد بني أمية مبركا لجمالهم.. ونحن على يقين أن بعض الدخلاء على المنطقة يرهنون أمنهم وبقاءهم بتحويل الجيش السوري إلى مجرد حرس حدود، كما هو الحال منذ الربع الأخير من قرن مضى؛ والسؤال الذي طرحه ويطرحه الإنسان السوري: كيف تنسجم مصالح الأمة الاستراتيجية العليا مع مصالح هؤلاء؟! وكيف سكت ويسكت حاضن سورية العربي عن كل هذا؟! وكيف تم إقناعه أن بني العم والعشيرة هم الخطر الحقيقي الذين يجب تجنبهم، والحذر منهم، وطمس آثارهم، و تعمية أخبارهم، والتعاون في إحكام مشروع تجويعهم وتشريدهم ومحاصرتهم وإقصائهم واستئصالهم؟!
حين نحاول إعادة تقويم الواقع العربي وما فيه من خلل ووهن واضطراب لا بد لنا أن نتوقف ثانيا عند السياسات الاتقائية الانكفائية التي أصبحت ركيزة السياسات العربية. القناعة، وإن كانت جميلة مقدرة في القوت، وما أكثر القوت لمن يموت، هي أول مقتل صاحب الملك. قال المستعصم قانعا: إن التتار لن يبخلوا عليّ ببغداد.. ولكن التتار عندما تمكنوا منه وضعوه في كيس وداسوه تحت الأقدام..
هذا الحريق الذي سكتت عنه الأمة سيمتد..، سكتت عن الشام وأهله وشعبه ومحنته منذ ثلاثة عقود، سكتت الأمة عن مئات الألوف من الضحايا يقتلون أو يثبتون أو يخرجون..!! أرفع التحية لقداسة بابا الفاتيكان الذي أرسل رسالة إلى حكام العراق ينتصر لرجل من رعاياه اسمه طارق عزيز.. وأرفع التحية له مرة أخرى لأنه أعلن تضامنه مع ضحايا كنيسة سيدة النجاة.. وأرفع التحية له ثالثة لأنه دعا إلى مؤتمر السينودس يتلمس جنبه الذي ظن فيه الوجع في بلاد المسلمين... أرفع التحية لكل صاحب مشروع يسهر على مشروعه اتفقتُ معه أو اختلفتُ .. ولكننا لم نسمع مسئولا عربيا واحدا، ولا قائدا مسلما واحدا.. ينتصر يوما لجرح حلب أو حماة، لم نسمع صوتا واحدا مواسيا يقول في الجرح الذي مضى عليه ثلاثون عاما: كفى..
ولحق لبنان بالشام فأخفى الاتقائيون والانكفائيون وجوههم، وصموا آذانهم، ثم لحقت بلبنان العراق، وهاهما المالكي والبرزاني يقتسمان العراق فلا عروبة هناك وتكاد تقول ولا إسلام ولا مسيحية أيضاً.. وهاهو المشروع المريب مرة أخرى يدق أبواب اليمن والبحرين، ويبسط مهادا هنا ويضرب أوتادا هناك، وبعض الساسة العرب يريدها عفوا رهوا، سخية رخيّة. وهي التي جُبلت على كدر، وشعارها: الجود يفقر والإقدام قتال..
لم يفهم إلا القليل من المتابعين موقف السيد وليد جنبلاط... كثيرون قالوا إن وليد جنبلاط خاف على طائفته من تكرار أحداث ( 7أيار ) على يد ميليشيات حزب الله. وبعضهم قال إن الرجل جبُن وخاف على نفسه وهو يرى الموت يحصد أنداده.. والحقيقة التي لم يرد ان يفصح عنها أحد أن السيد وليد جنبلاط وبعد أن زار العواصم العربية واطلع على حقيقة المواقف الوادعة الموادعة قرر أن يحتج على طريقته؛ فألقى الألواح أو الأوراق في وجوه الناس أجمعين..
لم يكن شعب سورية في يوم من الأيام غائبا عن مشروع أمته، لم يكن في يوم من الأيام غير مبال بهمومها، لم تكن سورية الوطن والإنسان بالنسبة لأمته إلا الميثاق الذي يجمع المتفرق، ويؤلف المختلف، ويبعث الحمية..
يتساءل الشعب السوري وهو المنسي في قرارة المحنة، المتابع بصمت لفصول الفتنة: أين الأمة التي تصنع الحضارة؟ وأين القادة الذين ينتصرون للحرمات ؟ وأين الرواد الذين لا يخدعهم رواغ المصابيح؟ فيجد راية عرابة الأوسي قد صارت اليوم في يد الأشباح والأشباه..
ما يريده الشعب السوري من أمته أو لأمته: الكثير من الوعي والقليل من الجرأة. وإنما تؤخذ الدنيا غلابا.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية