مالك الحزين وطريق النصر المبين

مالك الحزين وطريق النصر المبين

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

أي الدروب تؤدي إلى النهاية المرجوة ؟ وأي نهايةٍ نرجو ؟

سؤالٌ تفرقنا في الإجابة عليه جماعات وجماعات ، نفتش عن الخلاص في كل الدروب وما وصلنا !!!

 ترى أي الدروب توصلنا إلى ما نصبو ؟؟ وكيف نعيد ما سُلِبَ منا من أرض وكرامة ؟ ولِمَ كان الحرمان نصيبنا ؟؟ 

في رمضاء هذا الشهر الفضيل الذي شارف على الرحيل، تستشعر أن الأهداف المرجوة لا تأتيك دانية سوى في آخرة قد أعددت لها طوال مسيرة حياتك الغابرة. و أن المحن و التمحيص  على جنبات هذه الطريق الوعرة نحو الآخرة، كثيرة ومريرة.

فلكي تستخلص الذهب المصفي ، لا بد من نار التمحيص تفصل الشوائب عن صافي المعادن وترتب المعادن في مراتبها ودراجاتها.

تُصيبني الدهشة حين أصلي خلف إمام في قيام هذا الشهرالفضيل وحين يصل لدعاء القنوت، يبدأ بطلبات لا علاقة لها بنجوانا وشكوانا !! ويواصل ..."اللهم انصر دينك " ؟؟!!

وهل تخلى الجبار عن نصرة دينه ؟؟ وهل نحن أمة تستحق النصر ؟؟

لو هدى الله الإمام وكان مؤدبا مع خالقه ، لَعَلِمَ أن دين الله منصور به وبسواه !!

ولو عرف قيمة نفسه ومن خلفه لدعا "اللهم اجعلنا أمة تستحق النصر !!!

لقد ورد في القصص القرآني الكثير من قصص الأمم السابقة المستضعفة ، وكيف سارت ومرت بالمحن تلو المحن نحو النصر المبين.

تُرى أي شرط للنصر كان يطرح السياق القرآني ؟ و أي عوامل تجلب الهزيمة حذرنا منها ؟

لقد نصر الله المؤمنين ببدر وهم أذلة ! وانهزموا بمعركة أحد لمخالفة القائد، وانهاروا بحنين حين غرتهم كثرتهم وبينهم رسول الله !!!

من أجمل ما طرحه السياق القرآني لعوامل النصر والهزيمة ما جاء في قصة طالوت وجالوت، وهي بالمناسبة تأتي في سيرة بني إسرائيل مع أنبيائهم ، وكأنها لفتة لنا أصحاب المحنة بهؤلاء القوم !!

حين طلب بنو إسرائيل من نبيهم ملكا يقاتلوا تحت رايته واختار الله لهم طالوت ، ذا البسطة بالعلم والجسم ، وجاءهم بالتابوت تحمله الملائكة، وخرج طالوت بجيشه ليقاتل كانت على طريق المعركة والنصر محنة ، وأي محنة وتمحيص و أي تمحيص !!!؟؟؟

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة249

إنه نهر الشهوات والملذات على طريق المقاتلين وفي استراحة المقاتل ممنوع الشرب والتخمة ، إلا من سد ظمأه !! وما الذي حصل ؟؟؟ .... " فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ"

تلك هي محنتنا وبلوانا ، مررنا بنهر التمحيص فرتعنا !! وشربنا ولهونا !! وظننا أننا مقيمون على النهر بلا نهاية !!!

نسينا المعركة التي تنتظرنا بعد النهر ، ونسينا عدونا وظننا أن الرب وهو الصانع للمعركة وللنصر والهزيمة، بحاجة لجهد المصنوع!! ؟؟

وظننا أنه لا نصر سوى بنا !!!

ولكن جند الله في المعارك ليست كما نهوى ولا هي بمعاييرنا ولا بشهواتنا ولا تصوراتنا !!

حتى الجنود الذين لم يرتعوا في نهر الملذات لم يصبروا على مواجهة جالوت !!!

فقد كان مصرع جالوت على يد غلام حدث السن وسلاحه مجرد مقلاع ، لا هو ذا قيمة في العدة و لا في العتاد !!

{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }البقرة251

من هنا يأتي النصر، فدين الله منصور بنا ومن دوننا ، لأن الله كتب الغلبة لنفسه ولأنبيائه ودينه ولم يكتبها للأتباع بلا شروط !!

فلكي نكون أمة منصورة لا بد من أن نكون أمة تستحق النصر ولكي نستحق النصر لا بد أن نعبر نهر الملذات والشهوات وما تمثله من سلطة وإمارة أو وزارت ، من دون أن نرتع بها وننسى المعركة الفاصلة نحو النصر المبين !

والمعركة الكبرى ليست بالضرورة حربية، فلقد فتح الرسول الأعظم مكة المكرمة دون أن يسفك الدماء وفتحها بالعفو و بالصفح.

لكن معركتك الكبرى هي مع ذاتك ونهر ملذاتك ، فإن انتصرت فما بعده من معارك هو أهون وأبسط  .... لأنك تجردت من حب ذاتك لحب صاحب المعركة وصانعها وصانع نتائجها ... لذا فحق ٌ عليه نصرك !

وإن انهزمت أمام نفسك ورتعت فلا تطلب من صانع المعركة أن ينصرك يا مهزوم الذات ، بدعوى كاذبة بأنك تنصر دينه !!

ليتنا لا نبقى كمالك الحزين نبكي ودياننا وغدراننا التي جفت، ولا نستعذب الغناء من  أوتار جراحنا التي ما اندملت ولا نسعى لبلسمتها،  بدعوى نصر نرجوه وغاية اختلفنا على الطريق إليها وهي فينا !!!

سِـرُّ نصرك وهزيمتك منك وفيك. وطريق النصر تمر ببوابة نهرك وشهواتك !

فارتع بنهر لا يدوم واهرب من المعركة !! أو فاغترف  ما يسد ظمأك واعلم أن دين الله منصور بك وبدونك.

يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه "إن القاهر لنفسه أشد ممن يفتح المدينة وحده".  ويقول أيضا " ما أنا ونفسي إلا كراعي غنم، كلما ضمها من جانب انتشرت من جانب آخر. ألا من أمات نفسه يُلف في كفن الرحمة ويدفن في أرض الكرامة، ومن أمات قلبه يموت في كفن اللعنة ويدفن في أرض العقوبة".

كل عام وانتم بخير.