الحوار مدخل للإقناع أو محاولة للكشف والاكتشاف

رؤية

الحوار مدخل للإقناع أو محاولة للكشف والاكتشاف

دعوة لتبادل المرايا

زهير سالم*

[email protected]

يسوؤه ألا يراك في صورة النمط الذي رسمه لك. ويخذله ألا تردد الأفكار التي ينسبها إليك، يؤذيه أن تقول له نحن متفقان على الألف والباء والجيم والدال، لا يهمه التواصل بقدر ما يهمه إثبات ذاته، أو منهجه أو تسويغ ثقافته أو موقفه القائم على أنه الحق كل الحق وما عداه الباطل كل الباطل. هو لا يجد كماله إلا في إدانة الآخرين، وتشويه أفكارهم، وتلطيخ ثيابهم.

 وصحة العقيدة التي يؤمن بها المرء تنبع منها هي لا مما يشوب عقائد الآخرين من هلهلة وتناقض. وسلامة الأفكار التي يطرحها المفكر وليدة منطقها وليست وليدة خطل ما يطرحه الآخرون. وكل جزء أو جزيئ أو ذرة من حقيقة أو صواب يتضمنه كلام الآخر هو قوة للحقيقة التي أظن أنني أمتلكها. عليّ أن أبحث عنها وأن أتمسك فرحا بها. وأقول عن مخالفي : إنه يملك بعض الحقيقة فلا أجحده كل فضل.

 حالة نادرة في الحوار تنتهي بتلك النهاية السعيدة التي حدثنا عنها القرآن الكريم: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ). ومع سطوع برهان المعجزة الربانية ظل فرعون وملؤه على كفرهم وعنادهم، فلا تطمع، ليس كل الناس في رهافة سحرة فرعون.

 حين ننخرط في الحوار علينا أن نجعل هدفنا الأولي: الكشف والاكتشاف. يكشف المحاور عن نفسه بصدق، يعرض ما عنده، يصحح الفهم الخاطئ إن كان، يوجه الكلام الذي يحتاج إلى توجيه، يخصص عاما يحتاج إلى تخصيص، ويقيد مطلقا يستحق التقييد، يعتذر عن خطأ، ويأسف لسوء تفسير. وفي المقابل يصغي ليكتشف ويستوضح ويتفهم ويسأل ويدقق. الكشف والاكتشاف جسر للتواصل والتقارب وهو هدف متقدم على الإقناع الذي من النادر أن يكون. وشعار من ليس معي فهو ضدي اتركه وراءك. (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) فلا تطمع أن تخرج الخلق عن طبيعتهم.

 والمحاور الذي يتكلم أكثر مما يسمع، ويلقن أكثر مما يشرح، ويظن أنه أستاذ في فصل مدرسي، أو هداف في فريق كرة، هذا إلى ضارب مقلاع أقرب منه إلى شريك في حوار. وهو في حقيقة موقفه إنما يمارس نوعا من الكراهية الفوقية ويمدها ويغذيها ويستثيرها، يدّعي ويزور ويزهو. وهو إن كان ممن اغتصب الظل والمورد وأصاب الشبع والري ( وحسبك من غنى شبع وري ) ،كما تقول العرب، يرى نفسه قادرا على منح صكوك الغفران أو الحرمان، في صورها الدينية أو المدنية . ودائما لا يجد المدَّعي بين القبور من يقول له: كذبت

 ( الحوار ) شعار العصر، بل بدعته وصرعته. فأصحاب المذاهب والأفكار ورجال السياسة والاقتصاد والاجتماع الكل يدعو إلى الحوار، ويتزين به، ويخوض مضاميره بنرجسية وكبرياء. ويقبل الناس على الحوار، يشاركون فيه، يلتف بعضهم على بعض، يسجلون المواقف ويحتسبون النقاط، ثم يخرجون من ساحاته بما دخلوا من عقائد أو أفكار وقناعات. لا يكلف أحدهم أحيانا نفسه أن يتأكد من صحة معلومة أوردها عليه المخالف، قد لا يكلفه مراجعتها أكثر من نظر في معجم أو ضربة على شبكة المعلومات!!

 وعندما يتحول الحوار إلى لعبة من هذا المستوى الكل يضحك على الكل، ويسخر منه ويتذاكى عليه تكون الإنسانية قد دمرت بالفعل أهم جسر يمكن أن تعبر عليه جمعاء إلى موقع أرحب تتعارف فتتآلف فيه.

 وعلى الصعد الوطنية فقد يعجبك أن تتابع ندوة حوارية عن الديمقراطية وسبل تعزيزها يسبق المنظمون للندوة بالتفكير بالآليات التي تساعدهم على فرض آرائهم ( ديمقراطيا!!) وإقصاء أو كبت أو حجب آراء الآخرين..

 إنه إذا كان قبول الحوار يشكل مدخلا حضاريا للتعارف والتآلف، فإن الموقف النفسي المسبق لأطراف الحوار يلعب دورا أساسيا في نجاح الحوار وفي الوصول إلى ثمراته المرجوة. لا يطمع محاور جاد في أن يستنسخ عقول محاوريه أو أن يتملك قلوبهم بجمال عينيه ولا بعذوبة منطقه.. وإنما الذي يطمع فيه المتحاورون على الحقيقة هو كسر النمط المتجسد في تصور كل فريق عن الآخر.

 وصورة النمط الذي يشكل الحاجز بين لقاء الناس ليست وليدة لحظة زمنية أو إلقاءة ثقافية، إنها وليدة معطى تاريخي مكرس شاركت عوامل فردية وجماعية على بنائه وتقديسه كأصنام (آزر) بل هي أصلب .

 للناس في جلسات الحوار الهادف أن يتبادلوا المرايا. أرني كيف تنظر إليّ، وأريك كيف أنظر إليك، ثم تبدأ عملية التصحيح إن كان هناك ما يقتضي التصحيح. يأخذ جميع الأطراف الفرصة لإعادة تقديم أنفسهم كما يريدون. لتُبنى توافقات المتحاورين واختلافاتهم على معطيات حقيقية لا على أمور متخيلة أو متوهمة أو مدعاة.

 إن عملية تبادل المرايا وتصحيح المعارف المتبادلة هي شرط من شروط الحوار وليست بعض أركانه. فكثيرا ما يقطع محاور على صاحبه قوله لينسب إليه عقيدة لا يؤمن بها، أو رأيا لا يقره، أو موقفا لم يؤيده قط. الحوار بين فريقين يجب أن يبنى على أسس من المعرفة المتبادلة. بإضافة ما ينبغي إضافته، وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح، وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح، وتفسير ما يحتاج إلى تفسير.

المتحاوران الباحثان عن الحقيقة لا يطلب أحدهما من الآخر حليب الثور ولا بيضة الديك.

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

للاتصال بمدير المركز

00447792232826

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية