الصيام عن التلفزيون
د. خالص جلبي
الصيام عن التلفزيون في رمضان؟
إنها دعوة عجيبة أليس كذلك؟ في وقت يستنفر فيه المتحذلقون وتجار العقول بعرض سخف لانهاية له من مسلسلات بايخة وقصص تافهة وتاريخ مزور في تلفزيون مرتزق وأعلام مزور أخرق.
إنه بدون تردد هازم الجماعات وسارق الأوقات ومفرق العائلات وخاسف العقول خسفا فكانت هباء منبثا، خلاف ما يتصوره واعتاده الجميع أنه مكان اجتماع العائلة وتزجية الوقت والتسلية.
إنني أذكر تماما رحلتي تعرفي على هذا الجهاز المنافق، ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
كان ذلك في ألمانيا وكانت التلفزيونات سوداء بيضاء وملونة، والفرق في السعر كبير، فاشتريت واحدا مستعملا غير ملون من رجل شيوعي ألماني متمرد على المجدتمع الألماني الغربي، ولم ينجب لأن الحياة حسب رأيه لاتستحق المتابعة وهي داء الملحدين.
وبالمناسبة التسمية جاءت من الإنجليزية وتعني الرؤية من بعيد، حيث أن الكلمة مكونة من كلمتين (Tele - Vision) ولذا فضل الألمان استخدام لغتهم فسموه فيرن زيهن (Fern - Sehen
أما نحن بلغتنا العربية الكسيحة المعرضة للرجم الصاروخي من لغة ريتشارد قلب الأسد؛ فنقلنا الكلمة كما هي، وهكذا نتناقل كلمات ريسيفر وتلفزيون وراديو وتلفون وفيديو وأوديو.
وهي من جملة العبر في استيلاء النقص والشلل وعدم التطوير ومواكبة الزمن على جملة اللغة العربية وتحنطها في مربع الزمن في زمن التيه الحضاري..
اشتريت في مدينة أولدن بورج الشمالية تلفزيون أسود أرى فيه برامج الأطفال مع بناتي الحبيبات وكان يومها النحلة مايا برنامجا محببا، فكنا نتمتع فيه سوية، ثم أدمنت على التلفزيون كما يدمن الجميع بهيروئين عيني.
ويومها لم يكن معروفا الفيديو حتى جاءت القفزة التاريخية وكان ذلك معاصرا للثورة الإيرانية عام 1979م ، وبدأت التجربة بأشرطة لم تنجح حتى استقرت على نظامين بيتا ميكس الحجم الصغير والفي اتش إيس الكبير بحجم دفتر صغير ولكنه صامد (VHS) وما زال النظام صالحا حتى اليوم، وإن كان قد تم التهامه من نظام السي دي (CD) واعتقد أن هناك مشكلة مع النظام الجديد خلاف القديم بسرعة خرابه وعدم قدرة تشغيل الأقراص الليزرية في كل جهاز (لاحظ نحن نكرر كلمات ليزر وفي اتش إيس وسواها؟) وعندي في مكتبتي مئات الأشرطة المغناطيسية القديمة، وما زالت تعمل بعد مرور ثلاثين سنة، في حين أن الأقراص الخفيفة الجديدة لاتصمد إلا قليلا، ويبدو أن هناك نظام ديجتال في طريقه للتطور؛ فيحفظ آلاف الأفلام بآلاف الساعات والطريق مفتوح.
إن التلفزيون هو النظام المطور عن الراديو بإضافة الصورة على الصوت، وهكذا أصبحت الانفوميديا أي دمج الأعلام بالمعلومات ديناصور مخيف بحق، وحاليا نرى سخف المسلسلات وعهر المغنيات وفسق المخنثين وكذب المحللين وفجور السياسيين وانتفاج مقدمي البرامج وهم بالعقول يلعبون، ولذا ينصح بقراءة المتلاعبون بالعقول لتايلور.
ويومها حين كنت في ألمانيا أذكر جيدا نصيحة المستشار الألماني شميدت وزوجته هانيلورا أن يصوم الناس عن التلفزيون يوما واحدا في الأسبوع حتى تتفرغ العائلات للحديث فيما بين بعضها بعض، ويتعلم الأطفال شيئا جديدا مفيدا بدون أن يصلبوا على حافة كراسيهم وهم يحدقون بعيون بلهاء برنامجا كاذبا غير حقيقي مدمرا للقيم الإنسانية من حيث يغفل الآباء والأمهات عن السموم الهارية المتسربة في قنوات ومفاصل هذا الجهاز المنافق.
لقد لاحظ المستشار الألماني الذكي المعمر حتى اليوم أن القنوات إذا اشتغلت ـ وهي اليوم أكثر من ألف يحتاج تقليبها إلى 45 دقيقة ـ توقف العقل عن العمل، واشرأبت الأعناق، وإذا العيون طمست تتلقى بدون نقد ومراجعة، وانفتحت الأفواه فيمكن أن يمر فيها قطيع من الذباب فلا يشعر بها صاحبها، وتنشف العيون من فرط التحديق، ويتعرف الطفل على حياة مزورة من قتل وضرب وكذب وافتراء من نوع أفلام العراب والمنهي والقاتل والمصفي والذباح بسواطير من مناشير؟ وهي كلها تزوير لحقيقة ما يجري حول هوليوود.
وأكرر في كثير من الأحيان ليتني لم أر الفيلم؟
وعندي فلسفة إذا زرت عائلة ففتحوا قناتهم قلت لهم إنني جئت لزيارتكم وليس التلفزيون وكنت في زيارة صديقي العزيزعماد فكان منهمكا في متابعة حلقة برنامج تركي ـ موضة عثمانية جديدة، من شباب منهمكين في فيلم مضيع للوقت كاذب في الحقائق مماري فيما يحدث في الحياة الفعلية فلم يكن أمامي إلا أن أصبر على رغبتهم في متابعة الحلقة؛ فلما انتهت انصرف الممثلون الكاذبون، وودعت أنا فقد انتهى وقت الزيارة.
إن الممثلين أصبحوا كعبات تزار، فالممثل كلينت است وود (Clint Eastwood) يزور مثواه في قرية كارمل بدون قبر مليونين من الزوار سنويا في حج أصغر، ويذهب مندوب مجلة الشبيجل الألمانية فيسهر على باب حانته الليالي ذوات العدد حتى يحظى منه بشبه مقابلة مع قدح عرق!، يسجلها على عجل وهو عجوز في الثمانينات، والرجل يعتلي سيارة فارهة بعد أن تحول إلى ملياردير في مدينة كارمل في كاليفورنيا المسلوبة من الهنود الحمر المساكين.
إنني أذكر المؤرخ البريطاني جون آرنولد توينبي جيدا في مقابلة معه عن التلفزيون، أنه مصيبة ثلاثية من تزوير الحقائق، والبعد عن الواقعية من عنف وإباحية وسفك دم، وتضييع الوقت الثمين الذي هو رأسمال بناء الفكر، ومرحلة انحطاط عقلي وارتداد إلى عصر الكهوف باعتماد الصورة دليلا، ونبذ الكتاب المرشد إلى سواء السبيل ثقافة وبناء معرفيا، فليس مثل الكتاب الجيد نورا على نور.
وأنا شخصيا أصغيت لقول المستشار الألماني المتقاعد والمؤرخ توينبي فلا أفتح التلفزيون إلا نادرا لتسلية عابرة من أفلام هادفة وبرامج وثائقية أو استعراض الطبيعة وعجائب الحيوان أكثر من كذب الإنسان، أما الأخبار فتأتيني بالنت لقناة (BBC) بعد أن لم نعد نصدق أخبار قنواتنا ولو عن درجات الحرارة المتوقعة؟
أما بقية الوقت فهو للبناء المعرفي بالمطالعة النهمة لحقول معرفية موسوعية لاتكف عن الاتساع، فالحياة قصيرة، والعلم محيط، والطاقة قاصرة، والعين تعشى، والذاكرة تذوى، ونرجع إلى الله فينبئنا بما كنا نعمل، وسع علمه كل شيء، وهو الولي الحميد.