معارك حقيقية وأسلحة وهمية

د. سلمان محمد سلمان

د. سلمان محمد سلمان

أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية

قلقيلية – فلسطين المحتلة

أحاول وان  بعجالة   إثارة بعض القضايا التي تمثل معارك حقيقية بفروق جوهرية بين مواقف أطرافها وتستحق المعالجة من نفس المستوى. لكنها تعالج عادة بمواقف أو وسائل يمكن وصفها بأسلحة وهمية لا ترتقي لمستوى الاختلاف لتحقق فرقا في النتائج مع من تختلف معهم.

سأتطرق لثلاث قضايا توضح كيف ينتهي الأمر بالطرفين النقيضين تحقيق نفس النتائج بل في بعض الأحيان خدمة أجندة العدو المشترك. وهذا منتهى الفشل والعجز.؟؟!!

آمل أن يتعمق الطرفان في ما يطرح هنا دون القفز للتبني أو الرفض بمجرد التقاء أو اختلاف مع جزء من المطروح من مواقفهم ولتكن قراءة متأنية تهدف إلى تعديل ما يلزم من خلل بالطرح لخدمة مصلحة الوطن والمجموع دون قوالب مسبقة.

التطبيع السياسي والمدني

يقود المعركة طرفان الأول يعتقد أن إقامة علاقات مع إسرائيل تمثل تجاوزا خطيرا يخدم إسرائيل ويضعف الفلسطينيين ويفتح الطرق لتغلغل إسرائيلي في المنطقة العربية. الثاني يعتبر أن تسهيل الطريق لاندماج إسرائيل بالمنطقة سوف يضعف الدافع العدواني لديها ويعتبرون التطبيع أقل الطرق تكلفة لحماية الأمن القومي والقطري لكثير من الدول العربية.

وبحكم عمق إيمان الطرف الأول بمعتقده وجدية هذا المعتقد وصحته من الناحية المبدأية يتجذر الطرح ويتوسع لتعريف التطبيع بأي مظهر من مظاهر التعامل غير الإجباري مع العدو بحيث يمتد لمناطق تؤدي في بعض الأحيان إلى خدمة أمور لا علاقة لها بالتطبيع مثل منع الفلسطيني من زيارة الدول العربية بسبب حمله لوثيقة إسرائيلية أو معتمدة منها أو التوسع بإدانة من يريد زيارة الفلسطيني في الضفة و 48 باعتباره يتم بموافقة إسرائيل وبالتالي فهو يخدم مصالحها.

ويتجذر طرح الفريق الآخر ويتوسع ليصل إلى اعتبار من لا يريد زيارة الفلسطينيين ضمن ظروفهم الحالية مشاركا بحصارهم وداعما لانفراد إسرائيل بهم وتهديد بقائهم بل يصل الأمر أحيانا لاعتبار معارضة تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الدول تهديدا للأمن القومي لتلك الدول وما يعادل الخيانة العظمى في أقصى الأحوال.

وهذه أمثلة لنتائج المبالغة في التعميم والاسترسال في توسيع التعريف دون قيود. هناك حكمة مهمة تقول أن التوسع بالقياس والتعميم ربما يؤدي للتهلكة في كثير من الأحوال.

ومع أن المعركة بين الموقفين حقيقية وأن هناك فرقا جوهريا بين من يدعو لتطبيع العلاقات مع إسرائيل ومن يريد حصارها الا أن نتائج هذا التصارع في كثير من الأحوال تنتهي فقط بالأذى والارتباك ولا تحقق شيئا تقريبا من أهداف الطرفين.

فلا المعارضون للتطبيع يحاصرون إسرائيل فعلا أو يمثلون بذلك ضغطا عليها ولا المطبعون بغرض حفظ الأمن القطري يحققون أمنهم بل يزدادون تعرضا للابتزاز الإسرائيلي والاتهام الشعبي لهم بالتهافت أمام العدو بل ربما بالخيانة أيضا.

وهذه حالة مميزة من الفشل العربي المزمن فالمعارك حقيقية لكن وسائل معالجتها غير عملية  وتبدو وهمية لا علاقة لها بخدمة ذوي المصلحة بالمعركة.

لنحاول معرفة أين يقع الخطأ عند بدء تنفيذ المفاهيم وتطبيقها. وهنا نفترض إيمان الأطراف بمواقف حقيقية لخدمة المصلحة الوطنية مع أن ذلك غير صحيح في الكثير من الأحيان لأسباب خاصة أو مشبوهة.

طبعا إذا كان الهدف والدور مشبوها وكان من يتخذ الموقف عميلا فلا داعي عند ذلك لإقناعه لأنه يخدم أجندة تهدف لغير ما يعلن ويصبح حديثنا غير ذي علاقة لناحية إقناعه لكن ربما يصبح وسيلة لكشف تهافته وتمييزه عمن يقومون بدور مشابه رغم وطنيتهم. والنجاح بالفرز الدقيق يمثل خدمة كبيرة للموقف الوطني بغض النظر عن أي معسكر نتحدث.

سيحتج الفريق الأول أن أي سلوك له علاقة بالتطبيع يمثل سوء نية وخيانة بالضرورة وعلى الأقل خدمة مصالح شخصية مع معرفة الخلل. وعليه لا يقبلون المقارنة ويعتبرون التقييم غير منصف.  وهذا الاحتجاج حتى من موقف وطني حقيقي يمثل انغلاقا يتطلب إعادة نظر عميقة.

بالمقابل لن يكون مفاجئا أن نسمع من الفريق الثاني اتهامات بالتخوين والمغامرة لمن يرفض مبدأ التطبيع تحت شعار تهديد الأمن القطري أو القومي.

لا بد من وضع أسس لتعريف الموقف الوطني تضمن حماية موقف المخلص إن كان صحيحا وتصحح الخلل إن كان مخطئا وتكشف زيف من كان منافقا. هل يمكن إيجاد أسس مانعة لا تحتمل التأويل: نعم

1-  يعترف جميع المخلصين أن الإسرائيلي يمثل عدوا وفي أحسن الأحوال تهديدا للمنطقة وان دوره العدواني قابل للتمدد والتقلص بحسب مصالح الإسرائيلي ولا يأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين احتسبوا أصدقاء أو أعداء.

 2-  يعترف الجميع أن الموقف العربي ضعيف وغير قادر على هزيمة الإسرائيلي (بالمعنى الفعلي وليس الصمود فقط) ضمن موازين القوى والتقسيم الحالي لكنهم يختلفون في الاستنتاج: الموقف الأول يعتقد أن النصر ممكن لو اتحد العرب ضد إسرائيل والموقف الأخر يعتقد أن تحييد الدور الإسرائيلي ممكن لو اتحد العرب في قبولهم للسياسة المهادنة.  يتفق الطرفان رغم اختلافهما أن اتفاق العرب يمثل شرطا لتحقيق الهدف وهذا يجعل النقطة التالية هامة.

 3-  أي موقف عربي ينال إجماعا مهما كانت قيمة متجهه صغيرة سيمثل خدمة للموقف العربي وإضعافا للموقف الإسرائيلي. والشرط الوحيد أن يظل بالاتجاه الذي يحقق مصالح العرب المجتمعة. ومعنى ذلك أن يتم جمع المصالح القطرية والقومية والإقليمية فإذا كانت المحصلة موجبة فسوف يخدمهم. وهذا طبعا موضوع شائك التعريف لكنه ممكن الحساب. المهم في الأمر أن الاتفاق العربي مهما كان ضئيلا يظل أفضل من التنافس العربي مهما كانت القضايا عظيمة.

 4-  فإذا كان هناك موقف يمكن أن يهزم إسرائيل تماما لو اتفق العرب لكنه لا ينال إجماعا بأكثر من 40% من العرب فهو يعتبر اضعف من إجماع عربي على عدم الحرب مع إصرار على الصمود وعدم التنازل عن الحقوق.  لكن بالتأكيد اختلاف عربي كامل بمحصلة صفرية يظل أفضل من اتفاق عربي كامل أو جزئي لخدمة موقف استسلامي يتنازل عن الحقوق القومية أو القطرية لأن أي قيمة موجبة أو حتى الصفر أفضل من السالب. ولا يمكن اعتبار الاتفاق العربي على موقف سلبي مفيدا لأنه يضاعف سرعة الانهيار وعملية السلام منذ كامب ديفيد 1979 تؤكد هذه المقولة دون شك.

 5-  عند تقييم موقف معين أو سلوك لا بد من أخذ مختلف جوانبه وحساب محصلته. ولا يوجد مبرر لأي جهة أن تتخذ موقفا متعصبا ضد جهة أخرى دون تقييم دقيق لواقع الحال ولا يفيد حساب قيمة السلوك سلبا أو إيجابا على مقياس "فيما لو حصل ما يأمله الطرف في خياله دون اعتبار لواقع الحال".

 6-  فمثلا لا يحق للمطبع رفض موقف المعارض للتطبيع بذريعة أن سلوك المعارض يمكن أن "يهدم نتائج قومية كبرى فما لو نجحت استراتيجية التحييد القائمة على التطبيع". هذه مسخرة طبعا وهي سهلة الكشف. بالمقابل يبالغ الموقف المعارض للتطبيع أحيانا في تعريف السلوك التطبيعي البسيط ليشمل مواقف لا علاقة لها بالتطبيع ويتعامل معها بإدانة كبرى وكأن موقف المقاطعة ناجح تماما وتكاد إسرائيل الانهيار ولم يبق الا هذه الخطوة الصغيرة لتحقيق الهدف.  ربما تفيد بعض الأمثلة توضيح هذه الحالة الصعبة.

أمثلة فلسطينية:

 العمل في المرافق الإسرائيلية: عندما تم احتلال 1967 تعامل الناس مع من يعمل في إسرائيل معادلا للخائن وفعلا استمر ذلك الموقف لما يقارب السنة. وعندما فشل الناس في إيجاد بدائل للعمل وبدأ عدد المندرجين ضمن العمل يزداد أصبح الموقف من العمل في إسرائيل حياديا. وعندما ازداد عدد من يعملون ليتجاوز نصف القوة العاملة أصبح العمل سلوكا وطنيا. وأخيرا عندما قررت إسرائيل منع وتحديد عدد العاملين بها من العرب بدأت الشكوى بالتمييز العنصري مع أن حقيقة الأمر لم تتغير فعلا. ففي كل الأحوال يبقى العمل في إسرائيل ( وليس المستوطنات فقط) محققا لخدمة مصالح إسرائيلية. لكن قدرة المواجهة هي ما حدد الموقف ممن يمارسها سلوكا.  

شراء البضائع الإسرائيلية من قبل الفلسطينيين تحت الاحتلال خدمة للاقتصاد الإسرائيلي وضرورة المقاطعة. وعندما بدأ ذلك كان كل من يشتري البضائع مدانا. وبعدما تبين صعوبة إيجاد البدائل تمت الاستثناءات. وعندما تبين أن معظم الصناعات الوطنية تشتري موادها أصلا من إسرائيل تبينت سخافة مجمل الموقف.

 فرغم أفضلية شراء بضاعة وطنية بسبب رأس المال وقيمة العمل المضافة فلسطينيا الا أن المبالغة في وضع التعريفات سخيفة إذا كان الجميع يعمل تحت الاحتلال وضمن همينته الاقتصادية. لا يعني هذا طبعا تشجيع عدم التمييز بين المنتج الوطني والإسرائيلي ولكن احترام عقول الناس والتعامل بأصول وطنية وليس خدمة لمصالح وكالات تجارية تعمل مع الاحتلال أصلا. طبعا هذا لا ينطبق على الاقتصاديات العربية فهناك مجالات أوسع للمقاطعة لكن أيضا من الضروري التقييم بواقعية.

 اادانة التعامل مع بضائع مصنوعة بالمستوطنات: باعتبار أن ذلك من صلب مقاومة الاحتلال لكن بنفس الوقت لا يخجل بعض ممن يقودون هذه الحملات من الترحيب بالبضائع الإسرائيلية من أراضي 48.

 نعم هناك بعض فرق لأن بضائع المستوطنات تشجيع على الاستيطان في أراضي 1967.  لكن علينا الا نبالغ في التفريق بين المستوطنات وإسرائيل لأن ذلك يعني تكريس اعتراف بالحق لإسرائيل في تلك الأراضي.  فوق هذا من الصعب فعلا تمييز المنتجات لأن من السهل على الشركات الإسرائيلية وضع المنشأ في تل أبيب لما يصنع في المستوطنات.  فمقاطعة منتجات المستوطنات مثل المقاطعة الأوروبية لا تعني كثيرا رغم أنها تظل أفضل من قبولها طبعا. الأمثلة أعلاه تمثل معارك حقيقية لكن وسائل مواجهتها لا ترتقي لمستوى المسائل.

الحل الجذري للأمر يتلخص بإيجاد تمويل سخي لصنع بدائل تلغي الحاجة أصلا للعمل بإسرائيل أو شراء البضائع. وقد توفرت إمكانيات لذلك منذ عام 67 بموازنات تقل عن 10% من حجم الاستثمارات الإسرائيلية بالاستيطان. وحتى لو عملت إسرائيل على التعطيل فلن تنجح وهناك أمثلة كثيرة على صعوبة ذلك.

إقامة علاقات عربية مع إسرائيل تعتبر نموذجا للتطبيع السياسي

وهي مرفوضة مبدأيا من وجهة النظر القومية لكن يتم غض الطرف عن كثير منها تحت شعارات بسيطة تتعلق بالمصلحة الوطنية أو بذريعة فتح بوابات لحماية الفلسطينيين وكل هذا غير صحيح. فالمصلحة الوطنية لا تتحقق ومثال ذلك فشل التطبيع السياسي الذي تمارسه كل من الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية في تحقيق خدمة هامة للمصالح الوطنية لهذه الدول أو للفلسطينيين. ونقصد هنا إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية وتبادل الزيارات للرعايا فكل ذلك لم يثمر مصلحة عربية.

وخير مثال حال زيارة الأردني لفلسطين مقابل زيارة الإسرائيلي. فالأردني لا يستطيع الا باستثناءات كبيرة زيارة فلسطين 48 ومن شبه المستحيل زيارة الضفة الغربية بل يطلب من الذي يتقدم بالفيزا التعهد بعدم زيارة الضفة. مقابل ذلك يستطيع الإسرائيلي زيارة الأردن دون فيزا. مثل هذا الوضع لا يخدم مصلحة الفلسطيني بالتأكيد وهو لا يخدم مصالح القطاع الأكبر من الأردنيين أيضا.

وتنحصر المنفعة في اختيار إسرائيل لمن تقبل زيارته ومنعها من لا تريد مما يلغي حجة فتح باب الزيارات وهو التضامن مع فلسطين أرضا مقابل تنازل سياسي. فالتنازل السياسي حصل لكن حتى الثمن الصغير لم يتحقق.

مع هذا تبقى ملاحظة هامة فزيارة فلسطين في كل الأحوال تعتبر مكسبا بحد ذاتها وعليه من الخطأ التعامل مع تلك الزيارة بالرفض بسبب إساءة الاستخدام من قبل البعض واقتصار الكثير منها على شخصيات محددة تتساوق مع الرغبة الإسرائيلية أكثر من المصلحة العربية أو الفلسطينية.

فالسلبيات لا تلغي حقيقة أن زيارة الفلسطيني في أرضه هي نوع من الدعم بل أكثر من ذلك فمنع زيارة العاديين أو الداعمين لفلسطين تحت شعار منع التطبيع لن يمنع المطبعين أصلا وكل ما سنجنيه من هذه المعركة فقط تقييد مسبق للمخلصين الراغبين برؤية فلسطين أو التضامن معها.

ولو تركنا هذا الأمر لاختيار الناس سيكتشف الكثيرون أن إسرائيل تقوم بحصار حقيقي لمن يريدون الحضور للدعم فعلا وسيظهر زيف التسهيل الإسرائيلي وحماقة الاعتقاد بان (الزيارات الداعمة) ستحقق أهدافا كبرى طالما بقي الاحتلال متحكما. لكن من الخطأ بالتأكيد شن الحروب على مفهوم الزيارات بذاته فهذا جزء من التعميم الذي يؤدي للتهلكة.

من المفروض أن يقاس كل تحرك بذاته دون وضع وصفات عمومية تقع بالخطأ أكثر من الصواب. من السهل قول أن التطبيع خطأ ويجب إدانته لكن من الصعب تعميم ذلك على كثير من السلوكيات. وإذا كانت نية معارضة التطبيع منع خدمة العدو فمن المفروض كشف الحالات التي  تخدم الاحتلال دون مقابل لفلسطين ولا يحل الأمر بإدانة من يزور القدس لدعمها أو للصلاة بها بشعار انه يمارس سلوك المطبعين.

زيارة القدس ليست ماركة خاصة بالمطبعين بل هناك الكثيرون ممن استغلوها لخدمة فلسطين واستغلها الفلسطينيون أنفسهم وحتى بالتصاريح لزيارة القدس. هل علينا الامتناع عن زيارة الأقصى حتى ولو بتصريح لإثبات معارضة التطبيع (سكان الأراضي المحتلة). من السهل الوقوع بالخلل عند التطرف بالتعريف.

لكن الواضح أن زيارة المسئولين من الدول الأخرى تمثل بشكل عام خدمة للتطبيع مع إسرائيل مع أن ذلك لا يعتبر موقفا شاملا. فزيارة المسئولين الدوليين ومنظمات الإغاثة وحقوق الإنسان لا تمثل تطبيعا وتقاس درجة اعتبارها تطبيعا أو غير ذك بمقياس المنفعة المحققة لإسرائيل مقابل فلسطين.

 زيارة المواطنين العاديين لا تمثل تطبيعا إذا كانت تهدف زيارة المواقع العربية والفلسطينية لكنها تصبح كذلك إذا اقتصرت أو تداخلت مع خدمات لإسرائيل أكثر منها لفلسطين.

 وهكذا يصبح تعريف الموقف تطبيعا أو دعما بمدى الإنجاز لإسرائيل مقابل فلسطين. من الضروري التعامل مع الأمر بهذه الدقة ولا داعي للتطهر الزائد فلن يطول الأمر حتى تحاول إسرائيل منع كل المخلصين وتبقي على ما عدا ذلك.

حماس وفتح والسلطة

معركة كبيرة تدور بين حماس وقوى المقاومة من جهة والسلطة الفلسطينية في الضفة وقيادة فتح بشكل عام من جهة أخرى. المعركة أساسها انفصال الموقف بين من يقول انه يتمسك بشرعية المقاومة والحرية للوطن دون التنازل عن أي ثابت فلسطيني أو الاعتراف بالعدو وبين من يعتبر هذا التمسك شكليا ما دام لا يحقق تقدما على الأرض ويطرح أفضلية تحقيق بقاء الناس على الأرض حتى لو كلف ذلك الاعتراف بإسرائيل وتعامل معها بالحد الأدنى الإجباري.

لكل من الطرحين منطقه ومبرراته لكن المشكلة تبدأ حين يتمادى كل طرف في تعريف حدوده ومقاييسه التي يتم تعميمها بشكل مستهتر في أحيان ومحشور في أحيان أخرى ليبدأ في اعتبار كثير من السلوكيات العادية تناغما مع موقف الآخر المدان والذي أصبح ضمن خانة التآمر على الوطن أو خدمة الأحلاف الإقليمية.

 المعركة حقيقية وهناك بالتأكيد فرق بين موقف من يتمسك بالمقاومة لتحرير الوطن أو على الأقل يتمسك بالثوابت ولا يتنازل عن أي منها وبين من يعتقد بان إرضاء الاحتلال يمنعه من التمادي وربما يحقق بعض المكاسب لمصلحة بقاء الناس.

 وينتج عن الاختلاف استراتيجيات مختلفة ومتعارضة في كثير من الأحيان. وبنفس منطق الثوابت العام والمعايير لتقييم الحالة نجد أن الإجماع الفلسطيني على أي من الموقفين يحقق مصلحة الوطن أفضل من معركة عدمية تكون محصلة الموقف فيها مقاربة للصفر مع دمار القدرة على المبادرة وفتح المجال للتفرد الإسرائيلي بكثير من القضايا بسبب الانشغال بالحرب الداخلية.

 طبعا نفترض هنا إخلاص وحسن نية كلا الطرفين في الاجتهاد وألا تصبح المصالح الشخصية أو الرعب أمام العدو معيارا للأداء فذلك خارج المقارنة.

 ليس من السهل حسم المسألة وتبسيطها بفرضية تنازل وعمالة من يفاوضون مقابل طهارة أهداف من يطرحون المقاومة. فالمسالة أكثر تعقيدا وأصعب تطبيقا ولكل موقف مقومات قوته وضعفه.  ومع أن من الأسهل التصويت للمقاومة بشكل عام الا أن ذلك لا يترجم بالضرورة لفعل كاف لهزيمة العدو حتى لو تحقق إجماع وطني وهذا ما حصل بالانتفاضة الأولى والثانية تقريبا. 

 وبنفس الوقت فقد أثبتت التجربة المريرة منذ اوسلو أن التفاوض المفتوح يمثل اهتراء مستمرا في نسيج الموقف الفلسطيني ويصنع استمراء ليس له حدود دون إحساس واقعي بالتدمير المتصل.

 الموقف العملي بالتأكيد يقع بين الاثنين فهناك لا شك حاجة لحد أدنى من المقاومة الفاعلة لمنع التنازل ولجعل ثمن الاحتلال غاليا.  وهناك حد أقصى للتعامل والتفاوض المدني والسياسي مع العدو لمنع الحصار والعزلة. المسألة تصبح أكثر نفعا واقل ضررا لو تمكن الفلسطيني من توزيع الأدوار المختلفة لخدمة الغرض الوطني أو وضع خطة وسطية يقبلها الطرفان. وقد مثلت وثيقة الأسرى محاولة صحيحة من ذلك النوع.

 فشلت المبادرات التقريبية وتمترس كل فريق وراء موقفه واستطاعت قوى متطرفة ربما عن انغلاق وغباء وربما عن خبث وعمالة ودهاء من تقسيم الناس بين موقفين لا يلتقيان:  فإما أن تكون "مقاوما تدهور ليصبح عبثيا مع حماس الظلامية" أو تكون "مفاوضا تحور ليصبح عميلا عبثيا مع سلطة رام الله المحكومة بدايتون". ومن زاوية أخرى أن تكون "حامي الثورة مع حماس المطهرة" أو "حكيم الوطن مع رام الله العبقرية" أو ما شابه ذلك من توصيفات لا تخدم غرضا حقيقيا.

 هذا الفصل القسري ترغبه إسرائيل ويحقق لها أكبر المنافع. وأي موقف يرسخ هذا الدور ضرره أكثر من نفعه مهما كانت الشعارات. نفهم بالتأكيد حساسية التعامل مع طرف تعتقد انه خائن أو مرتبط بدوائر غير وطنية فهذا يعني نهاية الطريق ومن الصعب التفاهم بين أبناء الوطن بهذا المنطق.

 نجحت إسرائيل في صنع وضع يجد فيه أبو مازن التنازل لإسرائيل أقل ضررا وأسهل تنفيذا من التقارب مع حماس وبنفس الوقت آمنت حماس أنها المقاومة الوحيدة وان معسكر رام الله حسم نفسه مواليا لإسرائيل مما يمنع التقارب وهذا فقط يفسر المعركة المفتوحة دون نهاية قريبة.

 المعركة حقيقية لكن الوسائل والأسلحة وهمية وفاشلة ولو اعتبر كل طرف أن مصلحة الوطن أهم لاستطاعت حماس صنع اختراق كبير مع فتح التنظيم ولكونت علاقة مميزة في غزة أثبتت فيها أنها الأقرب للوطن وأظهرت مبالغة أبي مازن في الرهان على الموقف الأميركي.

 ولو كان موقف السلطة والمحيطين بأبي مازن يهدف فعلا خدمة الوطن دون اعتبار للمصالح الشخصية لاستطاعت إيجاد صيغة تجند فبها أبناء حماس في الضفة للضغط باتجاه مصالحة حقيقية. لكن كلا الطرفين تجاوز هذا ونحن الآن في مرحلة جني الخسائر المؤكدة والشوك فقط.

 البرامج النووية وتهديدات ضرب إيران

 يكثر الحديث عن صراع إيران مع الغرب بسبب المشروع النووي الإيراني الذي تعارضه إسرائيل وتصر على إزالته. ويبزغ التصعيد بين كل فترة وأخرى بأن إسرائيل ستكون مضطرة لضرب إيران وأن على أميركا تسهيل الأمر. ويتردد بالمقابل أن إيران سوف تدمر الخليج وإسرائيل إن حاولت ضرب إيران.

 ويتشعب الحديث أن أميركا تصبر لكن صبرها سينفذ مع إيران. وتعيش المنطقة حربا نفسية ومادية دون نهاية. ويعيش العرب حالة الخوف من تدمير إيران لأراضيهم إن وقفوا مع أميركا ويخافون أكثر أن تنجح أميركا بسحق إيران. ويعيشون هاجس الإدانة في جميع الأحوال وقفوا مع أميركا أو ضدها كما حصل في العراق.

 المعركة حقيقية بين الموقفين:

 الموقف الأميركي والإسرائيلي يريد السيطرة على المنطقة ويفضلها إن أمكن بطريقة عقلانية تحافظ على مصالحها ضمن منظومة الهيمنة الأميركية وهم يعتبرون حصول إيران على التكنولوجيا النووية تهديدا لمشروع الهيمنة الأميركي وعليه لا بد من وقفه.

 الموقف الإيراني يؤمن فعلا بالدور الإقليمي لإيران ويعتبر محاولة أميركا الهيمنة على المنطقة عدوانا عليها وعلى أبناء المنطقة المختلفون مع أميركا عرقيا ودينيا ولا بد أن تحارب. وان الطريق لوضع حد للهجمة الأميركية يتم بالتحريض ضدها وكسب حلفاء جدد واستراتيجيين( تركيا والعرب) وتوفير الحد الأدنى من الدعم المناوئ لأميركا من خلال توفير مظلة حماية جزئية من قبل الصين وروسيا. ويعتقدون أنهم إذا حققوا التوصل لصناعة السلاح النووي سيوفرون حماية أنفسهم وتحديد مستوى الهيمنة الأميركية.

 إيران تبحث عن حلفاء أينما تستطيع وهي أميل لإيجاد صيغ من التفاهم مع العرب وبالتأكيد فهي لا تريد خوض معارك مع أميركا وإسرائيل لأنها في مرحلة النشوء ولم يشتد عودها لتبادر بفعل الحرب.

 بالمقابل من غير المرجح مبادرة إسرائيل بالضربة لأن قدراتها لا تمكنها من ذلك وبدون دعم أميركي استراتيجي ستكون الحركة خرقاء. ومن المستبعد أيضا أن تبادر أميركا بالضرب فلو أرادت ذلك لحصل أيام بوش وفي ذروة الهجوم الأمريكي على المنطقة.

 ورغم وضوح حدود المعركة الا أننا نرى الحديث معظم الوقت يقع خارج هذه الحدود. يستمر الحديث الأميركي أو الإسرائيلي بالتهديد بالويل والثبور لأهداف أهمها إبقاء الضغط على إيران وتخويف العرب لإبقائهم ضمن الولاء وطمأنة إسرائيل نسبيا.

 وهذا يعني أن تحوصل العرب وخوفهم غير مبرر ومن الأفضل لهم بناء علاقات استراتيجية مع إيران وتركيا توازن الموقف الأميركي وتضعف المطامع الإيرانية بنفس الوقت. من المهم أن يكون محور اللقاء مع إيران دعم فلسطين ونقطة المساومة الموقف في العراق للوصول إلى صيغة تحمي وحدة العراق واستقلاله. وإيران تحتاج العرب كثيرا وأكثر مما يعتقد معظم العرب.