الإنسان أولاً

الإنسان أولاً

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

فى منتدى القناة الثقافية المصرية شاركت ثلاثة من الأساتذة الجامعيين الأجلاء . كان الموضوع عن الأصالة والحداثة والتغريب ، وكان المحور الأخير من الندوة عن " الأسس التى يمكن أن يقوم عليها مشروعنا النهضوي المستقبلي " . وطرح من هذه الأسس استغلال طاقاتنا الاقتصادية, والأخذ باساليب التقنية الحديثة, والاهتمام بالتعليم على أوسع نطاق، والعمل الجاد على زيادة الإنتاج ... الخ .

تحرير الإنسان من عبادة غير الله إلى عبادة الواحد العادل القهار .

وتحريره من الموبقات والأغراض الدنيا من طمع وحقد وأنانية .

وتحريره من الجهل والنزوع إلى الشهوة والتخريب .

وينقل لنا التاريخ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يزحف بجيش المسلمين من المدينة إلى مكة لفتحها رأى (كلبة) تُرضع أولادها، فخشى أن يَسحقها الزاحفون دون أن يشعروا، فأمر "جعيل بن سراقة" أن يقوم حذاءها ؛ حتى لا يعْـرِض لها أولأولادها أحد من الجيش ، وأمر المسلمين أن يدخلوا مكة بروح الموادعة والرحمة والمسالمة بلا قتال .

**********

 والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه.

 وبهذا المفهوم الشامل للعقل، تحريرًا له من الجمود والتوقف والتخلف عن التفاعل الحي مع ما يرى من مظاهر الكون والحياة، دعا الإسلام إلى النظر والتفكير والتأمل، ونعى على الذين لا يفكرون، ولا يتأملون خلق الله، ولا يعملون عقولهم خلوصًا إلى اليقين (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)) [سورة الذاريات].. (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الروم: 8].

 وفي عشرات من الآيات القرآنية، بل مئات منها تتكرر كلمة "العقل" وما ارتبط بها من ألفاظ "الفقه" و"العلم" و"التفكير" على النحو الآتي:

أ ـ "عقل" ومشتقاتها (عقلوه ـ تعقلون ـ تعقل .. الخ) ذكرت 48 مرة.

ب ـ "علم" ومشتقاتها (علم ـ يعلم ـ يعلمون .. الخ) ذكرت 866 مرة.

جـ ـ "فقه" ومشتقاتها (تفقهون ـ تفقه ـ يفقهوا ـ يفقهوه .. الخ) ذكرت 20 مرة.

د ـ "فكر" ومشتقاتها (فكر ـ تتفكروا ـ يتفكرون ... الخ) ذكرت 87 مرة.

هـ ـ "وعي" ومشتقاتها (تعيها ـ أوعى ـ واعية ... الخ) ذكرت 4 مرات.

 ومجموع هذه المواد التي ذكرتها 1043 (ثلاث وأربعون وألف) لفظة، وكلها تدور على تقدير القرآن للعقل والنظر والتفكير. وهذه المواد التي عرضنا لها هي المواد المباشرة، وهناك مئات من الألفاظ تدور حول العقل والتفكير بطريقة غير مباشرة لم نعرض لها.

 والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".

**********

 وهذا ماعبرت عنه سورة من أقصر السور المكية وهى سورة قريش يقول تعالى " لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" .

والنظر المتأني في هذه السورة يقودنا إلى تبين الحقائق الاتية :

1-  أن المذكورات فيها جاءت على سبيل التمثيل لا الحصر , فذكر الطعام جاء تمثيلا للحاجات المادية , وذكر الأمان والشعور بالطمأنينة جاء تمثيلا للحاجات النفسية ؛لأن هناك آيات أخرى ذكرت نعما متعددة كالماء والزراعة والبحر وسيلة للتنقل ومصدرا للطعام والحلي .

2-  أن الآيات ربطت بين تحقيق هذه الحاجات وبين العمل والسعى والتنقل وذلك على سبيل الإشارة إلى رحلة الشتاء والصيف

3-  أن الآيات ربطت هاتين النعمتين المادية والنفسية بقيمة عليا هى العبادة .. عبادة الله دون سواه , ويستأنس لهذه القيمة بان الله سبحانه وتعالى قد جعل البيت مثابة وأمنا .

 ومن ثم يكون العدوان على الإنسان بحرمانه من حقوقه الطبيعية فى الحياة... المادي منها والنفسي يعد عدوانا على الدين والوطن , وحكما على الشعب بالتخلف والتوقف , بل عدوانا على السنن الكونية وطبيعة الأشياء .