حرب الإحباط ودورها في تدمير الذات والمجتمعات
حرب الإحباط
ودورها في تدمير الذات والمجتمعات
د. عصام مرتجى- غزة
أول ما خلق الله عز وجل وضع ضمن ناموسه الكوني قانون العدل أساسا للملك ، ووضع للعدل الميزان {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن-7). وميزان الخالق سبحانه متجلي بعدة أوجه في الكون و في المخلوقات، في كنهها وفي نسق عملها، وفي علاقاتها فيما بينها.
فكان كل شيء في الأرض وفي الكون يمشي وفقا لهذا الناموس، ضمن عملية توازن، تـُبقى حياة الكائنات وحركة الجمادات ضمن هذا التوازن . فكل شيء له معيار ونسق يمشي فيه ضمن حركة متقنة بشكل رهيب وعجيب.
فعلى صعيد أدق ما عرف الإنسان في الموجودات، كالالكترونات، فهي في بعدها الذري، تدور في نطاق الذرة حول النواة بتجاذب أزلي بين سالبيتها و موجبية النواة ضمن قوانين فيزيائية دقيقة مذهلة وتوازن لو اختل لنتج عنه خلل يخرج من الحجم الذري ليحرق البر و البحر والجو !!!
وعلى صعيد البعد اللا محدود في الفضاء و السنوات الضوئية البعيدة المديدة، يبدو النسق العجيب في دوران حركة المجرات بين تجاذب أقمار وشموس في قوانين غاية في العظمة و الرهبة، لو اختلت لاحترقت كواكب و دمرت مجرات واندثرت من على الأرض الحياة !!!!
عظمة الخلق من عظمة وجلالة الصانع الخالق. تتعاظم كلما تناهيت في الدقة في أصغر الموجودات وتتعاظم أيضاً كلما تدرجت من الأنجستروم (جزء من عشرة مليار من المتر) وسافرت عبر الفضاء بسنوات ضوئية إلى ما لا نهاية.
وفي جسم الإنسان فسيولوجية عجيبة {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }(الذاريات-21) حركة تسبيح وتعظيم يتجلى فيها عظمة الخالق مع حركة الهواء، دخوله وخروجه، وحركة السوائل وديناميكية عمل المركبات و الإنزيمات و المستقبلات. كون آخر ما زال فيه غابات من المجهول يبحث فيها مئات الباحثين و ما اكتشفوا سوى بوابات على حدود هذا الكون الرهيب. كما يقول الإمام على رضي الله عنه (تحسب نفسك جُرمٌ صغير وفيكــَ انطوى العالم الأكبر).
كل شيء يعمل بتوازن وله ميزان . لكن إذا اختل هذا الميزان ووقع أي خلل في هذا التوازن ينشأ أمراض لا تزول إلا برجوع هذا التوازن إلى فطرة التوازن التي فطرها الله الخالق المبدع سبحانه !
وقد يقع الإنسان في خلل الميزان في نفسيته وهذا الخلل النفسي تتعطل فيه لدى الإنسان كفتا الميزان في قياساته للأمور وقد يصبح جميع الأمور متساوية من وجهة نظر هذا الإنسان معطوب الميزان، ويتساوي لديه العمل وعدم العمل، و بالتالي يتساوى لديه الحزن و الفرح ويتساوي لديه الإنجاز وعدمه ويقد يتساوى لديه الموت و الحياة فيسير ببطء نحو تدمير ذاته وقد يستعجل الأمر فيقتل ذاته و ينتحر. تلك هي أبسط صورة قد يعرف بها "الإحباط" والذي يكون باب الولوج في الاكتئاب حتى الانسحاق.
فتلك من سنن الله في كونه، تماما كما يتدمر أصغر عنصر حي (الخلية) تسري به الروح ، والتي عند موتها تنفجر إحدى عضياتها (الليسوسومات) فتعمل أنزيماتها على تحليل محتويات الخلية (الخلية تهضم نفسها). وتماما كما يتدمر الكون في النهاية الآخرة، حيث تنشطر جزيئات الماء فتغدو نارا ولهيبا !!! فالبحار حينئذٍ سُجرت، والشمس كورت وذهب نورها ولهيبها.!!!
ولكلمة الإحباط أصل لغوي، من حَبـِطَ ، ( حَبِطَ عملُهُ حَبْطاً بالتسكين، وحُبوطاً: بطَلَ ثوابه. والإحْباطُ أن يذْهبَ ماءُ الرَكِيَّةِ (البئر المحفور) فلا يعودَ كما كان.
ولها معنىً شرعي، فقد وردت كلمة "حبط" في القرآن الكريم 16 مرة:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } (التوبة- 17)
وجميعها دلت على بطلان العمل وما بذله الإنسان المحبط عمله من مجهود وتساوى العمل والمجهود المبذول فيه مع عدمه:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } الفرقان23.
وللإحباط النفسي معنا إكلينيكي، وله أثر واضح في الخلل بالميزان العضوي ، حيث انه يظهر خلل في توازن مركبات كيميائية هرمونية تعمل في الدماغ كانت تعمل ضمن توازن فطري خلق الله الإنسان به. من أهم هذه المركبات ما تسمى بأحادية الأمين (دوبامين، سيروتونين، والنورابينفرين) حيث أنها تلعب دور رئيسي في نفسية الإنسان ومِزَاجه.
وللإحباط مجموعة من مشاعر مؤلمة ولها علامات (ضيق ، توتر ، كدر ،غضب ، قلق ، شعور بالذنب ، شعور بالعجز ، شعور بالدونية ، صرف انتباه ) تنتج عن الاستسلام لعائق يحول دون إشباع حاجة من الحاجات أو معالجة مشكلة من المشكلات.
وكما للإحباط خلل في الميزان العضوي (الكيميائي) وخللٌ في الميزان النفسي، أيضا له خلل في الأصل الروحي (الميزان العقائدي).
فالمحبطون هم دوما قانطون يائسون وغالبا ملحدون!! فهم لا يؤمنون بثمرة عملهم ولا جدوى لفعلهم ولا قيمة على كفة الميزان لمجهودهم ، فالميزان لديهم معطوب، والصانع الخالق غائب عن ذهنهم وتفكيرهم، فلا يخشون عذاب و لا يرجون ثواب، وتقطعت بهم الأسباب و سددت في وجوههم الأبواب، فإلى أين المفر!!!؟؟؟
تسعة عشر مليون أميركي يعانون من الاكتئاب سنوياً !!!! وقد سُجِّلَ الإحباط كعنصر وسبب رئيسي في نصف حالات الانتحار !!!
فالإحباط يأس وقنوط :
{لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ }فصلت49
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }الحجر56
فالمحبطون هم أناس كانوا قد بنوى أحلاما و أمالا وتوقعوا نتائج كانوا يرجوها ويتمنوها، وإذا بهم يجدونها بدون جدوى و ما هي سوى أوهام !!! وعلى عتبات الصفر وقفت بهم الأحلام!!!
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف103 – 104
فمن يبني أحلاما في دنياه ولا معتقد له بآخرة يرجو فيها ثواب ربه ويخشى فيها عقابه، يصبح في دنياه بلا قيمة و بلا جدوى إن هو فقد فيه أمانيه، فيغدو يائسا محبطا و يوغل في حرق الذات.!
فقد تجد أن أكثر المكتئبين و المحبطين هم ممن فقدوا عملهم بعد سنوات خدمة كالمتقاعدين وتعاظم شعورهم بفقدان القيمة المعنوية لوجودهم بعد التقاعد ولتقلص مساحة تأثيرهم الفاعل في الحياة فيبدأ يتساءل عن جدوى وجوده ؟!
كذلك العشاق النرجسيين الذين يشعرون بدمار رهيب بعد رحيل المعشوق أو التخلي عنه أو رفضه فتتساوى لديهم الحياة و الموت فيؤثرون الموت و الفناء لتساوى كفتي ميزانهم المعطوب !!!
وكذلك نجد نسبة كبيرة فيهم من حالات الطلاق و فقدان البيت الأسري بعد أن كانوا سببا في تدميره، فيدخلوا في إحباط لعدم المقدرة على بناء بيت جديد وتعاظم الأسف والندم يصير ساحقا فتبدأ الذات بسحق نفسها بالإحباط حتى الاكتئاب و من ثم ميول النفس و نزعتها للفناء لعدم جدوى الوجود !!
وهكذا تتكاثر الأمثلة والمعيار واحد، ميزان الفطرة معطوب و الكفتان متساويتان بلا اتزان!!!
ولكن الخطر أن المحبطون ليسوا خطرا فقط على أنفسهم ولكنهم يكونون أشد خطرا وفتكا بمن حولهم ، وخاصة القريبين منهم.
فأنت قد تعجب من رجلٍ يذبح زوجته و أولاده ومن ثم يطلق النار على نفسه، كيف يجرؤ على فعل ذلك؟!
ولكنك لو فككت المعادلة لوجدت أن هذا الشخص تساوت لديه الأمور لدرجة أنه بدأ يشعر بأن وجود أبناءه وعدمهم واحد ! ووجود زوجته وعدمهم واحد !! ووجده هو نفسه وعدمه واحد !! ولا وجود لوازع ديني أو مبدأ يردعه ، فأخذ قرارا في لحظة هي الأخطر في حياته، حين تساوت لديه كل الأمور اختار الجانب الأسهل والأيسر له في كفتي ميزانه المعطوب (وهو العدمية) وأطلق عنان الرغبة بالفناء وأخذ معه من حوله بلا أدني شعور بالأسى، فالأسى والفرح عنده واحد !!!! واليأس و الرجاء واحد!!! والرحيل أو البقاء واحد!!!
والمُحبَطـُون آفة مدمرة في المجتمعات، فهم مُحبِطُون ، و أحيانا يكونون سببا لدمار اجتماعي وسببا رئيسيا لانهيار المجتمع ككل، عندما يصدرون إحباطهم لغيرهم، فيتفشى الإحباط وينهار النسيج الصلب في المجتمع.
فالإحباط أداة دمار تستخدمها استخبارات الطوائف أو الدول المتحاربة في كسر نفسية العدو ومحاولة إقناعه بعدم جدوى فعله النضالي، وإيصاله لقناعة بتساوي فعله الكفاحي مع عدمه، وبث روح الإحباط فيه.
فأنت كإنسان قد تـُُسلب منك أرضك، وقد يُسلب منك عملك وقد تخطف منك الأقدار بعض محبيك وتضيع بعض أحلامك و أمانيك ، فماذا أنت حينئذ صانع؟؟؟ أتجزع وتستسلم ؟؟؟
ملايين الناس قد شردوا وغدوا لاجئين، و عشرات الآلاف فقدوا محبيهم، وآلاف فقدوا أعضائهم، وعشرات الآلاف فقدوا حرياتهم، وآلاف سُلبت منهم وظائفهم ومصادر رزقهم وحطم كيانهم الاجتماعي ، وضُيعت أحلامهم ... ولكن هل نسمح بأن يتفشى الإحباط أو يسود الاكتئاب في المجتمع ؟؟ وما هي العوامل التي تحافظ على الصمود في مواجهة حرب الإحباط ؟؟؟
هناك عامل أساسي وهو العمود الفقري و فيه العلة وفيه الدواء، وهو المستهدف من أكثر من طرف ليحطم به صمود المجتمع ، وهو قناعته بحقه الوجودي وتقرير مصيره الوطني وجدوى كفاحه التحرري لبلوغ ثمرة فعله النضالي المرجوة منذ سنين.
فأنت قد لا تقر عيناك بتحرير أرضك اليوم ولكن قد يقر بها عينا حفيدك !! وقد لا تدرك الثمرة في دنياك، ولكن قد تجدها منك دانية في أخراك، وفقا لقناعاتك الفطرية وميزانك العقائدي الذي يسعي عدوك لتدميره.
وقد يتسلل شيطان الإحباط لروحك فتسلم بحقك لعدوك، فلا تنعم جبهة ولدك بسجدة في صحن مسجدها وقد لا تقرع فيه أجراس كانت تقرع ولا تزال منذ العهد العمري !!!
ولذا فان في حرب الإحباط مستمرة وأزلية ، يسعى بها عدوك (شيطان، جني، أو إنسان) لتدمير عنصر صلابتك، وهو ميزان الفطرة فيك وتحطيم قناعاتك وميزان إيمانك بفكرك ومبدأك.
ولذا إن سدت أمامك السُبل، وضاقت بك الدنيا ، وتخلت عنك الدنيا، وغدت أحلامك بعيدة ، وثمرة كفاحك نائية، وبدأ اليأس يسري في أوصالك، فارجع لميزان الفطرة فيك، ولميزانك الوطني وصحح البوصلة.
أي : انتهت الحرب إذا احتل عدوك نفسك، فحينئذ لن يهزمك أو يقتلك هو، ولكنك ستهضم ذاتك وتندثر.