المقامة الاكتئابية
عبد الرحيم صادقي
حدثنا كئيب بن سواد قال: دخلت بيت حامد بن شاكر، الفاضل الطاهر. فإذا هو بين عياله منشرح الصدر، عالِيَ القدْر،هانئ البال، مستور الحال. معافى البدن، لا يشكو الحَزَن. فقلت: لِيَهْنِئْكَ العيشُ الكريم يا حامد! فهلا أبنت لي كيف أدركت بُغيتَك، وحصَّلت مُرادَك، مع سَتْرِ الحال، ويُسْرِ المال؟ فإني لا أرى عندك سُرُراً مرفوعة، ولا زرابي مبثوثة.
قال حامد: أعطاني ربي فحمدتُ ومنعني فشكرت. فقلت: فما الذي أعطاك، وما الذي منعك؟ قال: أعطاني الرضى ومنعني الجزع، فأنا بين حمد وشكر، قد صَرَفْت الهلع. فلست هلوعا ولا جزوعا. قال كئيب بن سواد فقلت: فإنه لَتَمُرُّ بي سُوَيعات النهار، أشقَّ من الظِّهار، وأمرَّ من المُرار، وأشأم من حفار، وأهونَ من الكُسَار، وأضرَّ من الضرار، وأبخسَ من دينار، وأنكرَ من صوت الحمار، وأجْدَبُ من القار، لا أمان فيها من العِثار. وأخسَّ من الشِّسْع، وأحقر من الرَّقْع، وأرخصَ من النَّقْع. وأحرَّ من نار الغَضَى، وأَلْظَى من اللَّظى. وأثقلَ من طَوْد، وأذلَّ من وَتَد، ومن بيضة البلَد. فما ترى يا حامد؟
قال: أفَمِن عُدْمٍ ما بك؟ أم من قلة الولد؟ أم من سَقَم؟ قال: كلا، فلستُ سقيماً ولا عديماً ولا قليلَ ولد. قال: وما سببُ كَأْبائِك إذن؟ قال: فعَن ذلك أسأل، ولو كنت أعلمُ ما بي، لأدركت طبابي. ولقد ضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، وأفْنَت عمري وما فنِيَت، ورمتني بالبلايا فَوَنَيْتُ وما وَنَت. ولقد وجدت الدنيا كخضراء الدِّمَن، تسُرُّ الناظرين وفي بَواطِنها الإِحَن. إذا لانت يوما قَسَت طول الزمن، وإذا جادت سويعة شحَّت بالمِنَن. وإذا منحت أسرعت بالمِحَن. وكم رجوتُ لو لُفِفْتُ في كفن، ثم أُسْرِعَ بي إلى حيث أدفن. ويا رُبَّ ليلةٍ قضيتُها بلا سِنَة، ورُبَّ يومٍ كأنه سَنَة.
قال حامد: فإن كنتَ ليس لقلة ذات اليد تهتم، ولا لِفوات النعم تغتم، فليس غير الناس سبب شقائك والنقم، وما يعتريك من مَلَل وسأم. قال كئيب: مُصابي كله في الناس، وبَلِيَّتي منهم والبأس. فالناس والشر صنوان، وما أقل الإخوان! إن أكرموا فَعَن مَأْرُبَة لا حَفاوة، وإن أنفقوا فرِياء وعِلاوة.
قال حامد: لا تَنْفُرْ من الناس كما يُنْفَرُ من الجمل الأجرب، ولا تأنسْ بصُحبَتهم كما يُؤْنَس بالأم الرَّؤوم. ولكن أحبَّ حبيبك هَوْناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغضْ بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما. واذكر قول القائل:
ولستَ بمُسْتبقٍ أخا لا تلمه على شعث، أي الرجال المهذب؟
وصاحِبِ الناس بالمعروف، ولا تَرْجُهم رجاء الملهوف. فإني أراك تشكو إلى غير مُصْمِت، وويلٌ للشَّجيِّ من الخَلِيّ. وارْضَ من الوفاء باللَّفاء، تجد العوض والشفاء.
ولا تُرِيَنَّ الناس إلا تجمُّلا ولو كنت صفر اليدين خاويا
وإياك أن تُكاشفَ الناس عيوبَك، وصدرُك أوسع لسرِّك. واصغ لقول القائل:
أسيرُك سرُّك إن صُنتَه وأنت أسيرٌ له إن ظهر
واذكُرْ أنك فارٌّ من أمِّك وأبيك يوم العَرْض، يخِفّ أساكَ على مَن في الأرض.
قال كئيب فقلت لحامد: أفلا تتحسَّرُ يا حامد على مالٍ فاتَك، وتتوق إلى ما لَمْ يَأَتِك؟
قال: وكيف أتحسر على ما لو ملكتُ منه مثاقيل الجبال، لصار كله إلى الزوال. وما لو حزتُ منه ما ينوء بالعصبة أولي القوة، لما أخَّرَ أجَلي ولا نِلْتُ منه حُذْوَة، ولا أعلى مقامي ولا أكسبني حُظوة، إلا حظوة وَهْمٍ وحقيقتُها شَقْوَة. ولا رافقني إلى رمسي، ولست أجد في المال أُنْسي، متى أُصْبِحُ أو أُمْسِي. كيف ولكل شمسٍ مغرب، والمالُ مُوَدِّعٌ ومفارق، ولو كنزتَه في نمارق. ومالُكَ سِيَّان كَثُرَ أو قَل، وشَرْعُك ما بلَّغَك المَحَل. وكيف أتوقُ وقد وجدتُ الدنيا عارية، وعلى سُنَّتِها جارية. يوماً تشرقُ ويوما تغيب، ودَيْدَنُها التقَلُّبُ يا كئيب.
قال كئيب: فإني أستنصِحُك يا حامد، فدُلَّني وأنت الراشد! قال حامد: عليك بالبلاء الحسن، ودَعِ التأسف والشجن. واعلم أن الدنيا ساعة، فاجعلها لله طاعة. ثم أنشأ يقول:
يـا شاكياً أمْضى إنْ عشْتَ فالعيشَ الكريـ أوْ مـتَّ فـالـكلُّ انعدَمْ والـمـوتُ حقٌّ قد لزِمْ اللهُ يـقـضـي بـيننا | زمَنْ قُمْ وانتفضْ يكفي مَ الـحُرَّ لا عيشَ الوَسَنْ هـل دام إلا ذو مِـنَـنْ لا يخشَ الموت مَن ذَهَنْ يـومـاً فـيَجْلو ما بَطَنْ | الوَهَنْ