الإسلام ليس هو الحل

نوال السباعي

[email protected]

(1)

تَمور الساحة الفكرية والثقافية والصحافية العربية منذ أعلن «إخوان مصر» برنامجهم لانتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى 2010، بالدراسات والنقاشات بالغة الأهمية حول الإصرار على اتخاذ «الإسلام هو الحل» شعارا انتخابيا للجماعة، علما بأن هذا هو شعارها المرفوع منذ ربع قرن في إطار تحركاتها السياسية، وقد أكدت – في موقعها الإلكتروني 9/5/2010– أنها تخوض الانتخابات تحت هذا الشعار إيمانا منها بضرورة القيام بالواجب الشرعي لتحقيق الإصلاح الشامل، وإزالة التعارض المزعوم بين مبادئ الشريعة وبين الدولة المدنية الحديثة، وترسيخ مبدأ الحرية لكل إنسان، والدعوة إلى قيام حكم رشيد قائم على العدل والمساواة بين جميع أفراد الأمة»، وهي أربع نقاط لا تخرج عن كونها أسسا لتقديم مشروع فكري إسلامي نهضوي لا علاقة له بالسياسة ولا بالانتخابات.

لا خلاف على الدور التاريخي الذي لعبته جماعة الإخوان المسلمين في مصر والمنطقة العربية والعالم الإسلامي في إحداث الصحوة الإسلامية المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها، كما لا خلاف على أحقية كافة الأحزاب السياسية والتكتلات الوطنية في خوض الانتخابات في بلادها تحت الشعار الذي تريد، ولكن الخلاف يَنْصَبّ على استخدام هذا «الشعار» بالذات سياسيا وانتخابيا، وعلى المفاهيم الأربعة السابقة التي حددتها الجماعة في إطار شرحها للهدف من استخدام هذا الشعار، وعلى دور الحركات الإسلامية في الحياة السياسية، وتركيزها على الوصول إلى الحكم باعتباره -من وجهة نظر معظمها- الوسيلة الرئيسة لتغيير الأوضاع في المنطقة العربية، كما ينصب الخلاف على الموقف بالغ السلبية للجماعة نفسها من حركة النقد والنقاش التي تقوم حول هذا الشعار وغيره مما يتعلق بقضايا ما يسمى «الإسلام السياسي».

راجع مقالات كبار الأعضاء في الرد على ما كُتب ومن كَتَب حول الموضوع، فضلا عن الخلاف القائم المحوري الأساس والمتركز حول ما إذا كان «الإسلام» هو الحل؟ فعن أي «إسلام» نتكلم؟ وكيف يكون «الإسلام « هو «الحل» أو «حلاً»؟ وما هي بالضبط المشكلات التي يمكن أن يكون «الإسلام» حلاً لها اليوم بالشكل الذي يطرحه هذا الشعار؟!

بالضبط كما فعل «حزب الله» اللبناني إذ ادعى أنه حزب الله، وبدا بذلك وكأنه قد أخرج كل من سواه إلى دائرة حزب آخر مذكور اسمه في نفس الآية القرآنية التي اشتق منها اسمه!!

فقد ادعى الإخوان في مصر بأنهم القيّمون على حل مشكلات الأمة اليوم باسم الإسلام الذي ينتسبون إليه «حزبياً».

كان ينبغي لمن يرفع مثل هذه الشعارات أن يعرف مسبقا أنه إنما يتعامل مع شعارات تهمّ الأمة، بل هي ملك للأمة، ولا يحق لأحد كائناً من كان أن يحتكرها في مناسبة تنظيمية أو انتخابية أو سياسية أو حتى دعوية، من حق الأمة بكل طوائفها ومذاهبها واتجاهاتها الفكرية والسياسية والدينية أن تبحث في هذا الشعار وتفند مصداقيته وأهلية استعماله في هذا السياق أو ذاك، من حق الأمة أن تقبل أو ترفض استعمال هذا الشعار، لأن هذا الشعار لا يمكن أن يكون حكرا على أحد، إنه ملك لأمة، بمعنى «الأمة» الممتد بشُعبه الثلاث، العقائدي والتاريخي والإنساني.

ولا ينبغي والحال هذه على جماعة الإخوان المسلمين في مصر أن ترفض النقد ولا أن تعتبره مُرُوقا وفحشا وجورا يقوم به «أصحاب الأقلام المأجورة من أعوان السلاطين»! فمن استعمل شعارا عاما من «أملاك» الأمة كان من حق الأمة عليه أن تحاسبه على استعمال هذا الشعار وتناقشه فيه، وتشاركه في مهمة استيعاب استعمالاته وأبعادها السياسية والفكرية وحتى الدينية منها.

وعودة إلى البرنامج الانتخابي للإخوان فإننا نجد في صحيفة «الشروق» ونقلا عن الجماعة: «لقد جاء خوض هذه الانتخابات تأكيدا لاحترام إرادة الأمة، وتحقيق الفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة.. استقلال القضاء.. حرية تكوين الأحزاب.. حق إصدار الصحف.. محاربة الفساد والاستبداد... رفض القوانين المقيدة للحريات.. تخفيف الأعباء عن المواطنين» كما نجد أن هذا البرنامج يناقش ملفات مقومات الإصلاح من وجهة نظر الجماعة: «السياسة الداخلية والخارجية، الأمن، القضاء، الاقتصاد, الفقر والبطالة، الصحة، التعليم، البحث العلمي، الاتصالات، السياحة، الزراعة والصناعة، المؤسسات الدينية». والسؤال الذي يجب أن يطرح نفسه في هذا المقام وعلى كل أحد، ليس «ماذا يجب أن نعمل»؟! فما يجب أن نعمل من خلال هذا البرنامج الانتخابي الذي يعتبر صورة طبق الأصل من كل البرامج الانتخابية في المنطقة العربية – على الأقل - فما ينبغي أن نعمله ينحصر في كلمات: كالترشيد، والإصلاح، والتفعيل، والتبني، وإعادة النظر، والتحسين، والإعمال، والتقديم.

السؤال الذي يجب أن يطرح ليس «ماذا يجب أن نعمل»؟ ولكن « كيف نعمل»؟ وما هي الخطط العملية الواقعية العلمية التي يجب أن يتبعها حزب من الأحزاب أو جهة من الجهات لنقل الشعارات والأطروحات إلى الواقع الملموس المعاش؟ والسؤال الآخر هو: «ما علاقة الشعار المرفوع من قبل أي حزب من الأحزاب السياسية ببرنامج الحزب المطروح على الشعب»؟ وفي حالتنا هذه ما علاقة شعار «الإسلام هو الحل» ببرنامج مثل هذا البرنامج؟!

لا يختلف اثنان على أن مما يطلبه الجميع في المنطقة العربية - على سبيل المثال - «إعمال الزكاة والوقف بشكل حضاري وإعادة توزيع الدخول» ولكن ما لا يعرفه ولا يفهمه ولا يستوعبه أحد هو كيف يمكن تفعيل موضوع الزكاة اليوم في مجتمعات تقوم على الطبقية والعنصرية والاستئثار والرشوة والنهب؟ ويقوم اقتصادها على مسخٍ متولدٍ من زواج سِـفاح بين اشتراكية مشوهة ورأسمالية متوحشةٍ خاصةٍ بواحد في المليون من المواطنين الذين لم يفيدوا من ميزات الاشتراكية ولا تمتعوا بمردودات الرأسمالية.

كيف يمكن في مجتمع كهذا «تبني سياسات تهدف إلى حل مشكلة البطالة تتلخص في إعادة تشغيل الطاقات المهدرة؟» علماً بأن هذه الطاقات المهدرة تقدر بعشرات الملايين، ما هي هذه الوسائل والسياسات؟ وكيف يمكن لحزب أو جماعة تطبيق هذه السياسات؟ ما هي الخطوات الواضحة والعلمية والمنطقية -أي التي تتطابق مع العقل والقدرة والإمكانات والواقع- التي سيتبعها هذا الحزب أو ذاك في سبيل الوصول إلى هذا الهدف أو ذاك ضمن إطار برنامج انتخابي ما؟ وما هي علاقة «الإسلام» كدين وشريعة بأن يكون حلا لمثل هذه المعضلات المطروحة على الساحة العربية اليوم؟! وما هي طريقة الوصل بين الشعار والبرنامج والتي عليها المُعول للخروج من الأزمة؟.

ليس الهدف من هذه التساؤلات توجيه الاتهام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وإن كنت قد أشرت إلى برنامجها الانتخابي كمثال للدرس، لأنها الجماعة الأم التي تولدت عنها كل الحركات الإسلامية المعاصرة بكل توجهاتها، وليس القصد القيام بمهاجمة الجماعات والحركات الإسلامية التي ترفع هذا الشعار الإسلامي «الخطير» في برامجها وحملاتها الانتخابية، وليس الغرض التشهير والتشكيك والتعريض، ولكنها الرغبة الصادقة في تفنيد صلاحية شعار «الإسلام هو الحل» كراية انتخابية للجماعات والحركات الإسلامية، لأنه وكما يُقدم اليوم وبهذه الطريقة ليس إلا شعارا «فضفاضا» وكلمة «فضفاض» هنا تؤدي نصف المعنى الشرعي؛ فهو ساتر سابغ، لكنه يشِفّ ويصِف، فهو يصف فقرنا المدقع إلى التفكير ملياً في دور الحركات الإسلامية في هذه المرحلة الخطيرة والدقيقة التي نعيشها، وصلاحية استعمال شعارات بمثل هذا البريق للإعلان عن الرغبة والنية في إصلاح مشهد مثل المشهد الذي يرسمه واقع المنطقة العربية اليوم.

«الإسلام هو الحل» شعار براق في سياق شعارات براقة أخرى فشلت في تحقيق شيء للمواطن والوطن والمنطقة والأمة، لأن هناك خللا ما في فهمنا ورفعنا للشعارات، شعار براق يُعمي بريقه عن واقع مصداقيته، ليس لأننا لا نؤمن بأن الإسلام هو الحل، ولكن لأننا لا نؤمن بقدرة رفع الشعارات -كائنة ما كانت- على إحياء الأمم دون خطط مدروسة حقيقية واقعية منطقية عملية علمية تدل الشعوب على الخطوات التي يجب عليها السير فيها لإحداث التغيير.

حول شعار (الاسلام هو الحل )

( 2 )

وماذا بعد اجتياح الحركة الإسلامية للعمل السياسي؟

تساءل «عريب الرنتاوي» في مقاله في الدستور الأردنية المنشور بتاريخ «21/6/2010» عمن سيملأ فراغ ما أُسمي «إسلاماً سياسياً» وقد أخذ طريقه للتراجع، بعد أن ملأ أرض المنطقة وفضاءها منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، وأضاف: «لكن ما يثير الاهتمام أن تراجع حركات الإسلام السياسي لا يعني تقدم خصومها التقليديين، فلا الأنظمة التي حاربت الظاهرة الإسلامية نجحت في بناء علاقات ثقة مع شعوبها، ولا التيارات السياسية والفكرية اليسارية والقومية والليبرالية تبدو مؤهلة لملء الفراغ، فأزمة هذه التيارات لا تقل تفاقماً عن أزمة الإسلام السياسي». هذه الملاحظة الدقيقة -التي كنت قد فندتها في سبعة مقالات فيما بين السياسي والاجتماعي هنا في صحيفة العرب 2008- تعبّر عن واقع تعيشه المنطقة يكشف عن أزمة خطيرة في ركوب الموجات السياسية، من يركبها؟ ولمَ يركبها؟ وكيف يركبها؟ وقد خرج الجميع بخُفي حنين منها في ظل: التفسخ الأخلاقي، والفساد الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والدمار الاقتصادي، والغزوين الثقافي والعسكري، خمسة أمراض تنخر في جسد منطقة مُنهكة.

هذه الملاحظات على الأداء السياسي في المنطقة العربية لمختلف الاتجاهات المعارضة أو غير المعارضة بشكل عام، والحركة الإسلامية بشكل خاص، تولدت لدى شريحة عريضة من أصحاب الرأي والقلم، عن رصد نتائج دخول هذه الحركات الحلبة السياسية في أكثر من قُطر، وما يعنيه ذلك من حراك جماهيري إيجابي، على الرغم مما تمخض عنه من أزمات، وما تكشف من قصور وتراجع، ولعل شرائح واسعة من الجماهير المؤمنة، تعتبر مثل هذه الملاحظات وكأنها هجوم على الحركة الإسلامية، بل والإسلام نفسه، بدل اعتبارها ملاحظات على الأداء السياسي «غير المقنع» للحركات الإسلامية في مختلف البلاد العربية، وقد أشار «عبدالله البريدي» إلى ذلك في ملاحظاته في «الجزيرة.نت» عن هوية وماهية العمل الإسلامي: «إن النزعة التزكوية في العمل الإسلامي تخلق (حساسية عالية) تجاه النقد، ذلك أن البعض يعتقد أن النقد موجه ليس (للعمل) وإنما هو موجه (للإسلام) نفسه أو (حملة الإسلام)، مما يفوّت فرصاً كبيرة للإفادة من الممارسات النقدية في المشهد الثقافي العربي لأنشطة (العمل الإسلامي)، الأمر الذي يضعف قدرته على إحداث التراكمية الفكرية ورفع إمكاناته في الاستجابة للتحديات الحضارية الكبيرة».

شيء ما يجمع بين كل هذه القوى السياسية والاجتماعية والفكرية الإصلاحية، ويجعل من الشعارات التي ترفعها بين الحين والحين خواءً في أمة ملّت من ترداد الشعارات، وقد آن الأوان لتبحث عن إجابات واقعية علمية وعملية لا علاقة لها بالشعارات ولكن بالقدرة الحقيقية على تحويل الشعارات إلى منجزات.

لقد لعب القوميون –في السلطة– على رغبة المنطقة في تشكيل كتلة إنسانية واحدة متجانسة، فرفعوا شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، صمّوا به آذاننا بأصوات دباباتهم التي رابطت على منافذ رغبات الأمة خمسين عاماً!!، ليتكشف لنا نقع غبار معركة «بغداد» الأخيرة –أربعون عاما بعد نكسة يونيو على أيديهم– عن جيش من ورق كان يرابط على حدود القمع والسحل والتعذيب والترويع والتجويع والتركيع، حتى أُتي من حيث لم يحتسب، فخرّ راكعاً يقبّل أيدي «الغزاة- الحلفاء» وأناب! هل كانت المعضلة في الشعار؟! إن شعار حزب البعث ذاك ما زال ساري المفعول حتى يومنا هذا معنىً وعقيدةً وأمنية، ولكنه ما زال مجرد شعار، لا يحل ولا يربط! لأن الذين رفعوه لم يقدموا للأمة خلال نصف قرن سوى مزيد من القمع والإقصاء والذل و»الإهانة»، وقد زادت أعداد الكافرين بالأمة «العربية» الواحدة و»رسالتها» القومية أضعافا مضاعفة! بنفس الطريقة زاد ركوب «الإسلاميين» موجة السياسة والثورة الطين بلة، حيث ظن الناس أن الخلاص قد أتاهم على يد من يرفع شعاراً لا يمكن لأحد أن يناقش فيه! كما ظن البعض أن دكّ برجي نيويورك سيحرر فلسطين، ليتكشف الأمر في ميدان «الثورات الحمقاء» عن مجموعة ممن أهلكهم عشقهم للشهادة -كما قال عبدالله بن رواحة-! ولم تكن فلسطين قط ضمن قائمة اهتماماتهم! كما ليتكشف في ميدان «السياسة القاصرة» عن فشل ذريع في تحويل النظريات والأطروحات والمثاليات إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع، لقد تبين -كما يقول الشيخ الغنوشي في «الجزيرة.نت» في مقاله «متى يكون الإسلام هو الحل؟»-: «لقد تبين أن تلك الاجتياحات القليلة التي حصلت ليست بواعثها بالضرورة دينية، بقدر ما كانت خليطا بين رفض للنماذج السلطوية السائدة التي شبعت شيخوخة وفسادا، وبين رغبات في التغيير وآمال في العدل»، ويضيف: «وبعد الاختبار رأينا تراجعا في مواقع وتقدما في مواقع أخرى، بما كشف عن حدود لما يمكن أن يمثله شعار «الإسلام هو الحل» من إغراءات عاطفية وأرصدة ثابتة لحملته».

لقد تكشفت تجربة خوض الإسلاميين معترك السياسة في المنطقة العربية عن أمور تحتاج إلى كثير نظر، أولها: أن المعضلة الحقيقية التي تعيشها المنطقة لا تكمن في الاتجاه الحاكم أو المعارض، ولكن في الإنسان نفسه، قدرته على استيعاب هويته وواقعه والعصر الذي يعيش فيه، وثانيها: أن التغيير لا يمكن أن يأتي أبداً من فوق، وأن الحكومات ليست ولم تكن إلا الإفرازات الطبيعية المنطقية لأوضاع الشعوب التي تحكمها، وثالثها أن الشعوب في المنطقة العربية تعيش اليوم حالة من التخبط غير مسبوقة في إطار إدراكها لهويتها، ورابعها: أن معظم شعوب المنطقة لا يهمها بحال من الأحوال هوية الفئة التي تعارض أو تحكم ولكن الذي يهمها هو أن تتمكن هذه الفئة من الدفاع عن قضاياها الرئيسية وعلى رأسها قضيّتا الحريات وفلسطين.

حول هذه النقطة الأخيرة، لا بد من استحضار ما قاله الغنوشي في نفس المقال: «وهذا ما يفرض عليهم أن يستيقنوا أن الحكم لهم أو عليهم لا يمكن أن يتأتى من مجرد حملهم لشعار مقدس، الأمر الذي جعل أكثر من جماعة إسلامية ترمز لنفسها برموز سياسية تعرف بها، مستمدة من قيم إنسانية كالوعد بالعدالة والتنمية والنهضة والسعادة والرفاه والوسطية والإصلاح، دون أن ينتقص ذلك شيئا من إسلاميتها باعتبار الإسلام مرجعا فكريا فلسفيا وقيميا وخلقيا، الحكم على المنتسبين له مداره ليس مجرد الخطاب والشعار، وإنما مداره على مقدار البلاء في خدمة الناس، ونصرة قضاياهم، والدفاع عنهم».

إن تجارب اجتياح الحركة الإسلامية مضمار «الساحة السياسية» بدءاً من الثورة المسلحة المتهورة في سورية قبل ثلاثين عاما، مرورا بتجربة الجزائر المريرة، وصولا إلى تجربة المقاومة الشيعية اللبنانية، وانتهاءً بما حدث ويحدث في غزة، تقدم لنا صورة عن تخبط الأمة نفسها فيما يتعلق بهويتها، كما تؤكد لنا أن الإسلاميين كالقوميين أو اليساريين، لا ينفكون عن كونهم أبناء هذه الأمة يحملون همومها وآلامها، ويتطلعون إلى الخلاص من نير الاستبداد والفساد والاستعمار، وهذا يعني أن حملهم لشعار مقدس يعبر عن روح الدين والحضارة التي تنتمي إليها المنطقة لا يمنحهم لا الحق ولا المصداقية، ما لم يكونوا أهلا لثقة القواعد الشعبية على اختلاف توجهاتها، وقد أكدت مجمل هذه التجارب، على أن المعضلة لا تكمن في الشعار المرفوع، ولكن المعضلة الحقيقية موجودة في الإنسان الذي يرفع الشعار، والذي أخطأت الحركة الإسلامية -كما فعل غيرها من الحركات والتوجهات– في اعتباره مناصرا لها دون قيد أو شرط ما دامت ترفع شعارا يؤمن القاصي والداني في هذه المنطقة بأحقيته ومصداقيته، كما أخطأت يوم تجاوزت مهماتها الرئيسية في التربية وإعداد الإنسان قبل أن تتوجه إلى السياسة، تارة في ثورات حمقاء لم تعد على العباد والبلاد إلا بالكوارث، وتارة في تكتلات سياسية تعد الناس بالتغيير بالطرق السلمية، دون أن تستوعب أن التغيير لا يأتي ولن يأتي إلا عن طريق قواعد شعبية نالت حقها الكامل من «التربية الإنسانية»، واستوعبت بشكل لا يقبل الجدل موضوع «هويتها» وموقعها في هذا «العصر» الذي نعيش، وكلاهما قضيتان مؤجلتان -كما يبدو- في ملفات مختلف الحركات والتيارات الإصلاحية في المنطقة.

*كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا

 (3)

حركات ذات ثقل ضخم بخطوات صغيرة محددة

**تخطيء الحركات الإسلامية – كغيرها من حركات الإصلاح في المنطقة - مرتين إن هي اعتقدت أنها تتمتع بالدعم الشعبي لمجرد رفعها شعارات إسلامية تدغدغ بها عوطف الناس والشباب منهم بشكل خاص ، مرة لأن الشارع في المنطقة العربية ينتمي إلى الإسلام حضارة ويؤمن بالإسلام دينا ويوقن بأنه لاخلاص إلا بالعودة إلى المنظومة الإسلامية الأخلاقية في السلوك والمجتمع والحكم ، ولكنه لايثق في أية جماعة تبدو وكأنها اختطفت الإسلام لتجعل منه راية لثورات مسلحة الهدف منها تغيير الأنظمة الحاكمة ، أو شعارات حزبية سياسية بأهداف توحي بأن هذه الحركة أو تلك يمكنها أن تحل مشاكل الوطن والمواطن عن طريق رفع هذه الشعارات، وتخطيء مرة ثانية لأن المواطن العادي في المنطقة العربية يتمتع بقدر من الوعي السياسي يمكنه من فهم ملابسات اللعبة السياسية المعاصرة في المنطقة ، ولايود هذا المواطن أن يرى اسم "الاسلام" ملوثا بالدم أو بالسياسة المقترنة في أذهان الجميع بالفساد والعمالة والتبعية .

هذه النقطة الخاصة بنمط  تفكير الشارع في المنطقة العربية لاعلاقة لها بكون الإسلام "دين ودولة " ، وبأنه عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات ، لكن مفهوم الحاكمية الذي ظهر قبل ستين عاما في المنطقة العربية وأُسيء فهمه وتأويله في ظل قمع الأنظمة الحاكمة الوحشي للحركات الإسلامية في باكورة انطلاقاتها بشكلها الحديث ، شجع على جرّ "الإسلام" إلى ساحات حروب طويلة مع هذه الأنظمة الدموية التي تحكم المنطقة العربية منذ انهيار الخلافة ، ولم تستفد الحركة الإسلامية شيئا ذا بال -على المستوى السياسي أو الاجتماعي - من ركوبها موجات التكفير والتفجير والتدمير ، لسبب بسيط جدا هو أن المنطقة كانت ومازالت أولا بحاجة ماسة إلى موجة من إعادة التعمير وإعادة الإيمان ، إعادة بناء الوطن ومؤسساته الدستورية وهياكله الاجتماعية ، وإعادة الإيمان إلى نفوس الناس بربهم بحضارتهم بأنفسهم ، بقدرتهم على النمو والاستمرار والثبات والصمود والتحدي ، وثانيا لقد كان الهمّ القومي الأول في المنطقة محاربة العدو المستوطن المتغول في فلسطين ، وقد أدت هذه الصراعات الدموية الداخلية بين الأنظمة والحركات الاسلامية المسلحة إلى أمرين أولهما الانشغال عن هذه المعركة المصيرية ، وثانيهما انتشار موجة عارمة من تبادل الاتهامات بالعمالة للأجنبي والتعاون مع المحتل والرضوخ لإرادته ، الشيء الذي لم يكن بهتانا كله ، خاصة فيم تعلق بالأنظمة!.. أنظمة لجأت إلى لجم وسحق شعوبها بالاجتثاث والتشويه والإقصاء والتعذيب والقتل والتجريد من الحرية والكرامة ، عامدة متعمدة وهي التي امتلكت وسيطرت واستبدت واستأثرت وخلال نصف قرن بسطوة الإعلام وسلطة السلاح ومفاتيح التربية والتوجيه!!.

**من جهة ثانية ، لقد كانت الحركة الاسلامية على درجة كبيرة من الشعور بالمسؤولية حملها على إعادة النظر بكل جرأة وصدق  وإجراء مراجعات كبيرة وشاملة في توجهاتها السياسية والاجتماعية والتنظيمية ، لكنها وقفت عاجزة أو مترددة أمام فتح ملفات المراجعات الفكرية والأخلاقية والمرجعية.

 لقد قامت الحركات الإسلامية ليس في المنطقة العربية فحسب ، بل في طول العالم وعرضه ، بإعادة النظر في قضايا حساسة وهامة ، كالجهاد ، وقضية المرأة ، والمشاركة السياسية، ولكنها وقف عاجزة أومتخبطة أو مترددة أمام نقاشات  شديدة الحساسية داخل هذه العناوين الكبرى التي جرت مراجعتها ، كمكافحة الأعداء الغزاة والمستوطنين بين الكفاح المسلح والطرق  السلمية . وترسيخ مفهوم ثابت واضح عام مؤصل شرعا لمفهوم الجهاد باعتباره أحد أعمدة الحياة الإسلامية ، بكل ماتعني هذه الكلمة من "بذل الجهد وأقصاه لإحقاق الحق ورد الباطل وتبليغ كلمة الله ، حسب الزمان والمكان والإنسان ، بهدف سعادة الإنسان وخلاصه" . وكإعادة بناء الصياغة الحضارية للرؤية الإسلامية للمرأة المسلمة في بنية المجتمعات وعقول الأجيال في المنطقة العربية ، وهذا يختلف جذريا عن الحديث المتواصل عن دور المرأة المسلمة ، وانتداب هذه السيدة أو تلك ليكن ناطقات رسميات أو مسؤولات عن هذه الحركة أو تلك الجماعة هنا وهناك!. وكإعادة النظر في قضية التربية ، التربية الفردية والاجتماعية ، مفهومها وماهيتها ، بالاستناد إلى النظريات الحديثة لتربية  الإنسان والمجتمع ، وترسيخ الجدليات الأخلاقية في أساس بنائهما ، والتخلص من الشقاق بين العقيدة والأخلاق ، وبين العبادات والمعاملات في حياتنا "الإسلامية" المعاصرة ، وفهم الدورالخطير والمغيب في هذه القضية للثلاثي ( المسجد. المدرسة.وسائل الإعلام).

بعد مرور قرن على نشوء الحركات الإسلامية بشكلها الحديث نجد أنفسنا أمام تحديات جديدة وضرورية لهذه الحركة، بعيدا عن خوض المعارك السياسية تحت شعارات ضخمة تؤدي المعنى الشمولي العابر للقرون ولاتفي بالغرض الآني المرحلي ، لأن هذه هي المعركة الحقيقية التي يجب أن تدخلها، معركة البناء والتعمير لا التفجير والتدمير ، معارك الحياة في سبيل الله لا مهاوي "الانتحار" "في سبيل الله" في المكان الخطأ والزمان الخطأ!! .

حركات ذات ثقل اجتماعي كبير جدا ينبغي عليها أن تبدأ العمل على محاور قليلة محددة بالغة الخطورة ولكنها لاتمسّ بالأنظمة ولاتزج بشبابها في أتون الثورات الحمقاء ، دون إعداد فكري ولاأخلاقي ولامادي ، ودون معرفة بأرض المعركة ولاطبيعة العدو ولاأبعاد الحرب!، ودون دعم جماهيري ، لايمكن أن تستمده إلا من خوضها مجالات العمل الاجتماعي لخدمة الاسلام عن طريق المساهمة ببناء المجتمع وإنقاذ الإنسان من بؤسه وشقائه.. وهذا هو الرهان الذي تمتحن به الحركة الإسلامية اليوم في المملكة المغربية والتي سبقت الحركات الإسلامية في المنطقة العربية في التقدم خطوات واسعة في فهم الواقع والتنظير للمستقبل ، وكذلك بعض الحركات الإسلامية النسائية في بلاد الشام ، وبعض التوجهات في الحركة الإسلامية الكويتية، ومعظم الحركات الإسلامية العاملة في الغرب بعد تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن .

إنها بمثابة أحزاب صغيرة تبحث عن أهداف ضخمة محددة جدا لخدمة المجتمع :* كتقديم دراسات بحثية علمية فقهية واسعة النطاق مدعومة بالدراسات الاجتماعية والنفسية لتغيير قوانين الأحوال الشخصية ، *وكالدعوة إلى توحيد هذه القوانين في مختلف دول المنطقة ،* قيادة حملات إعلانية هائلة مدعومة بحلقات البحث والنقاش الجماهيري تستند إلى آراء كبار الفقهاء حول إصلاح وضع المرأة المسلمة في المجتمعات في المنطقة العربية ، وإنصافها ومنحها حقوقها الإسلامية المسلوبة منها ،* حملات مشابهة حول معاملة الأطفال وحمايتهم ورعايتهم وتوجيه الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام إلى اتباع أنجع الوسائل لتربية أجيال معافاة تعرف معنى الكرامة والحرية ، كما حقوقها وواجباتها ، * التأسيس لنشر فكر العمل التطوعي بين الشباب في منطقة 75% من سكانها يعانون من أمية ثلاثية الأبعاد ، في اللغة ، والدين، والتأهيل ، * إعادة توعية الشباب لقيادة حركة اجتماعية الهدف منها استصلاح الأراضي الزراعية الهائلة في المنطقة ، وإعادة ثقافة "في العمل شرف الإنسان..وفي الزراعة مستقبل الوطن".

لعل إمعان النظر في التجربة التركية والماليزية يمنح الحركة الاسلامية في المنطقة العربية بعض الأوكسجين الذي تحتاجه لتتنفس تحت طغيان مياه الغرق في التخلف الإنساني والفكري والأخلاقي ، وقد آن الأوان في زمن المراجعات الكبيرة والخطيرة هذا الذي نعيش ، لكي نشمر عن ساعد الجد لإحداث علامات فارقة في مجال الأهداف الصغيرة – والكثيرة- التي تبنى على أساسها الأمم ، وقطعا لم يكن الوصول إلى الحكم واحدا منها!.. بل لقد كان ودائما أحد أسباب الدمار الكبير الذي أصابنا في ظل انصرافنا إلى البحث عن الحل الأسهل للتغيير  !.