فضيلة الجنرال .. والمسجد الجريح
أ.د. حلمي محمد القاعود
لا أقصد بالمسجد الجريح المسجد الأقصى المبارك الذي أسرى الحق سبحانه وتعالى برسوله – صلى الله عليه وسلم – إليه ، وتحتله القوات النازية اليهودية الغازية بدعم من المؤسسة الاستعمارية الصليبية الغربية بقيادة الولايات الأميركية المتحدة .. فهذا المسجد له رب يحميه ، ويرد عنه كيد الغزاة المجرمين ، بعد أن تقاعس عن نصرته من ينتمون إلى الإسلام ، وقعدوا عن الجهاد ، وقالوا لا طاقة لنا اليوم بالعدو وجنوده ..
كلامي عن المسجد في مصر على إطلاق _ مطلق المسجد الذي أممه فضيلة الجنرال وزير الأوقاف ، وعزله عن أداء مهمته الدعوية ، ومنعه أن يكون مثابة للناس وأمنا ، وعلما ومعتكفا ، وفرض عليه الإغلاق ، عقب الصلوات مباشرة ، مع فتحه قبلها بوقت قليل ، وحارب مكبرات الصوت التي تنقل الأذان ، وأهمل بناءها وصيانتها ، وصار معظمها لا يليق بأمة الإسلام في أرض النيل!
فضيلة الجنرال آثر أن يكون رجل أمن للسلطة ، مع أنه ليس وزيرا للداخلية ، وفضل إرضاء السلطان على الولاء للقرآن ، وراح يحارب في جبهات ليست من اختصاصه ، وبدلا من أن يقوم بواجبه الدعوي الذي يعرف الأمة بصحيح الدين في المجالات المختلفة ، آثر أن يهجو الجماعات الإسلامية على اختلاف ألوانها وتعدد اتجاهاتها ، ولم يبق منها نصيرا له ، حتى جماعات الدراويش ، وأرباب الموالد دخل معهم في صراع غير مفهوم ليس على فهم الدين ، ولكن على فتح المساجد لهم أو إغلاقها دونهم !
ومع أن الرجل يبلغ الآن السابعة والسبعين ( مواليد 1933م ، أطال الله عمره ) وعمر في الوزارة قرابة عقدين من الزمان ، ونال من مناصب الدولة وخيرات النظام وجوائزه ما تقرّ به عينه .. فما زال فيما يبدو يطمع في الكثير ، مع أن المفترض أن يكون مستعدا للقاء الله بعمل يبيض وجهه ، ويمحو ما مضى من سيئات سياسية وحكومية وغيرها .
على كل حال ، كنت أتمنى أن يتمثل فضيلة الجنرال ببعض فلاسفة الألمان الذين يحبهم ، وتعلم فلسفتهم ، وعاش في ديارهم أجمل فترات عمره ، لدرجة أنه صاهر قومهم ، وكانت ألمانيا وجهته دائما لقضاء العطلات وحضور المؤتمرات ، بل إن اهتماماته كانت نابعة من اهتماماتهم ، فمعظم المؤتمرات التي حضرها في ديارهم ؛ كانت حول العلاقة بين الغرب والإسلام أو ما يسمى حوار الأديان أو صورة الإسلام في الفكر الغربي ..
تمنيت أن يكون مثلا صاحب موقف مثل ماكس فيبر الفيلسوف الألماني ((1864 ـ 1920) ، أحد أهم روّاد علم الاجتماع ومؤسسيه ، وكان موقفه من الانحياز إلى الدين ودوره في تفسير السلوك البشري ، وأحداثه قويا وواضحا ، ففي حين ركّز مواطنه كارل ماركس على العوامل الاقتصادية في ظهور الرأسمالية، أعطى فيبر أهمية كبيرة للمعتقدات الدينية والقيم في نشوء وظهور هذا النظام الاقتصادي.
وإذا كان فيبر ؛ رائد علم الاجتماع قد ألّف أعمالا كثيرة، فإن أبرز هذه الأعمال وأكثرها تأثيرا في الفكر الاجتماعي الألماني ؛ كان كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" ويعدّه المؤرخون، أهم قراءة لدور القيم الدينية في ظهور قيم العمل وأخلاقه في المجتمعات الصناعية الجديدة التي كانت أساس ظهور النظام الرأسمالي. . ومن أهم المصطلحات التي أثرى بها علم الاجتماع وتعدّ جزءا مهما منه ، ومرجعا كبيرا للمهتمين بهذا العلم الإنساني هي : "العقلانية" و"الكاريزما" و"الفهم" و"أخلاق العمل".
ويحسب لماكس فيبر موقفه الوطني العظيم في مؤتمر فرساي ، ففي عام 1919 رافق فيبر الوفد الألماني إلى باريس لحضور مؤتمر فرساي الذي وضع حدا للحرب العالمية الأولى. وبعد أن تبين لمستشار الوفد الألماني أن الحلفاء ـ حسب المؤرخين ـ لا يرمون من خلال المؤتمر إلى إحلال السلام ، بل إلى استغلال ألمانيا وإذلالها، غادر المؤتمر احتجاجا على ذلك. حيث توفي في عام 1920 .
لم يرض الفيلسوف باستغلال بلاده وإذلالها ، فلماذا يرضى فضيلة الجنرال الوزير بقبول الاستغلال والذل من جانب المؤسسة الاستعمارية الصليبية التي تريد تجريد شعبنا المسلم من إسلامه ، وتحويله إلى مجرد كائنات حية تبحث عما يشبعها بيولوجيا ؟ لماذا تريد يا فضيلة الجنرال أن تفرغ المساجد من مهمتها التي يفترض أنها تصنع السلوك الإنساني ، وتبلور أفكاره تجاه الحياة ، ونشاطاتها المختلفة – بعد أن نجح الأشرار في تفريغ التعليم والثقافة من الإسلام ؟
إن الفيلسوف الألماني كان وفيا للمبادئ البروتستانتية من اجل بلاده ، فلماذا تريد تغيير الخطاب الديني الإسلامي من اجل المؤسسة الاستعمارية الصليبية وإرضائها ؟
هل المؤسسة الاستعمارية الصليبية أكثر إنسانية من عقيدتنا وشريعتنا ؟ بالتأكيد : لا . سوف تسألني : عن كيفية تجريد المساجد من الإسلام ؟ أخبرك بما يلي :
في مصر قرابة مائتي ألف مسجد . قمت بتأميم أكثر من مائة ألف مسجد ( أربعة آلاف ومائة ألف مسجد ) والباقي يتبع الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية . فمن يخطب في هذه المساجد ويؤم المصلين فيها ؟
هناك حسب كلامك وتصريحاتك في أكثر من مكان 48 ألف إمام وخطيب يتبعون الوزارة ، ومعنى ذلك أن ستة آلاف وخمسين ألف مسجد بدون خطيب وإمام . كيف ؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن تجيب عليه .
لقد كنت مدفوعا بدوافع غير دعوية ، وفي حمى شديدة ومرتفعة لتأميم المساجد الأهلية والزوايا الصغيرة ، وضمها على غير استعداد إلى ملكية الوزارة حتى لا يصعد إلى منابرها خطيب يقول كلمة الحق ، ويصدع بكلمة الله . فأكثرت من الضم والتأميم حتى لم تجد من يخطب أو يؤم ، اللهم إلا من المصلين الذين قد لا يحسنون قراءة آية ، او يفقهون معنى جملة قرآنية . وحصاد ذلك كما تعلم يا فضيلة الجنرال زيادة في جهل الجاهل ، وتغييب حكمة الدين ، وإبعاد معنى الشريعة وغايتها .
ثم إن المساجد التي تحظي بثمانية آلاف وأربعين ألفا من الخطباء والأئمة تعاني من هؤلاء الأمرّين ، فمعظمهم أو كثير منهم لا يحفظ القرآن ، بل لا يحسن تلاوته ، ومعلوماته ضحلة ، وقدراته اللغوية محدودة ، وثقافته العامة في الحضيض .وهؤلاء بالطبع يريحونك ، ويريحون أجهزة الأمن ، فلا خوف منهم أو عليهم ، وليقولوا ما يشاءون ، ولو كان عكس مفاهيم الإسلام وقيمه وأخلاقه ، ولا باس أن تجد منهم نماذج عجيبة وغريبة ، تمارس أعمالا لا تليق بمن يفترض أنه إمام أو خطيب ، و، وبعضهم قد لا يحضر إلى المسجد إلا لماما ، لأنه مشغول بقيادة التوك توك الذي يملكه ويدر عليه دخلا إضافيا فوق مرتبه الشهري ، أو يمارس مهنا أخرى مثل السباكة ، والجزارة ، والتجارة ، والسمسرة ،غير ذلك .
وسبق أن عرفنا أن كثيرا من هؤلاء قد وصل إلى وظيفته بطرق غير مشروعة ، لا داعي للحديث عنها مرة أخرى ، فضلا عن أن المسابقات التي تجريها الوزارة للمتسابقين لا تفرز إلا نحو عشرة في المائة ينجحون بالطرق المشروعة وغير المشروعة ، بشرط الرضا السامي الأمني . فالمتسابق المتفوق ؛ الذي يشتبه أنه سيصدع بالحق يلفظه الأمن وتلفظه الوزارة ، ويخسر الناس إماما جيدا ، وخطيبا صالحا .. ولكن فضيلة الجنرال ، ومعه الأمن بالضرورة ، لا يعنيهما أن يخسر الناس أو يكسبوا . فالمسألة مسالة إخضاع وإذلال ، وسيطرة شاملة ، ولا مجال هنا للدعوة أو القيم الدينية المؤثرة التي تحدث عنها ماكس فيبر الألماني الوطني الذي يحرص على استقلال بلاده المهزومة وكرامتها المهدرة أمام جبروت القوى الاستعمارية الكبرى !
ثم إن المساجد التابعة لجمعيات ومؤسسات غير حكومية ؛ يشترط فضيلة الجنرال أن يحصل خطباؤها على تصريح من الأمن ، وإلا صارت مهددة بالإغلاق ، ومعاقبة من يخطب دون تصريح ، مثلما يعاقب من يخطب دون تصريح في المساجد المؤممة ومن يساعده على ذلك !
لا مجال هنا للمقارنة مع الكنيسة التي تشرف على تعليم الرهبان والكهنة ، وتختارهم بنفسها ، دون أن يستطيع الأمن أو السلطة بأكملها ، فتح الفم أو العين ، ولا تقدر أية جهة في الدولة أن تغلق كنيسة ولو لدقائق ، حيث تستمر الكنائس في أرجاء المحروسة مفتوحة على مدار اليوم والليلة ، بل إن الكنيسة تظل مفتوحة لتظاهرات الطائفة ، في أي وقت ، ولا يستطيع أحد – أيا كان هذا الأحد – أن يطبق على المتظاهرين الطائفيين ؛ قانون منع التظاهر الذي صاغه وقدمه فضيلة الجنرال إلى المجلس التشريعي ، ووافقت عليه الأغلبية ، وأقرته السلطة ويطبق في المساجد دون الكنائس مع أنه من المفترض أن يطبق ا لقانون على الجميع ! ..
وبالمناسبة فإن التمرد الطائفي حين يعلن عن شراهته لزرع مصر المسلمة بالكنائس التي تشبه القلاع ، ولا يرتادها أحد ؛ فإن فضيلة الجنرال وضع قانونا به عشرة شروط يستحيل تنفيذها لبناء مسجد يتطوع أحد الأشخاص ببنائه ، بل إنه تطرف ذات يوم ، ووضع قانونا يجيز للسلطة الاستيلاء على العمارات والبيوت التي يبنى أسفلها مساجد ؟! أرأيتم إلى جبروت فضيلة الجنرال تجاه الإسلام والمسلمين ؟
إن نشر الدعوة الإسلامية هو الطريق إلى استقلال مصر ، وتقدمها ، وانتصارها وإنسانيتها ، وتحقيق الأمن في أرجائها . وما يقوله الخطباء والأئمة الذين يصدعون بالحق وكلمة الله لن يكون أشد أو أقسى مما يقوله الكتاب والمفكرون والأدباء في الصحف والدوريات والكتب ، وبعضهم يهاجم السلطة كبيرا وصغيرا ، دون أن يسقط نظام الحكم ، أو يتغير الحكام ، فلماذا هذا الذعر والتوتر والقسوة في تأميم المساجد وحرمانها من الخطباء الصالحين والأئمة الطيبين ؟لصالح من ؟ هل سترضى المؤسسة الاستعمارية الصليبية التي تريد تغيير الخطاب الديني الإسلامي ؟ وتكف عن رغبتها العدوانية في قهر المسلمين وإذلالهم وسلب ثرواتهم وسرقة تراثهم ؟
أظن : لا !!