أخلاقيات التكنولوجيا
د. نعيم محمد عبد الغني
لا أحد يستطيع أن ينكر ما توصل إليه العالم اليوم من تقدم في مجال التكنولوجيا التي جنى منها ثمارا كثيرة، وتجرع بسببها أيضاً كؤوس الخراب والدمار والمشكلات التي تتفاوت في تأثيرها على الإنسان والأكوان؛ فكلما تقدم العلم وتعقدت الحياة يصبح الناس في رخاء تصاحبه مشاكل تكدر صفوه.
ومن المشكلات التي تصاحب التكنولوجيا في عصرنا الحاضر مراعاة البعد الأخلاقي في استخدام التكنولوجيا التي من الممكن توظيفها لهدم الإنسان والبنيان كما يمكن استخدامها للعمران أيضا، والهدم – كما هو معروف -أسهل بكثير من البنيان.
ويؤكد هذه النظرة الدكتور أحمد زويل في كتابه عصر العلم الذي يتناول في طياته التحديات التي تواجه العلم، المتمثلة في التدخل الأجنبي والإرهاب وعلاقة العلم بالدين، وهذه الثلاثية تدور حول الأخلاق التي تحرص على احترام خصوصيات الآخرين وعدم التدخل في شؤونهم، وتحث على عدم ترويع الناس وإرهابهم، وتكتشف من خلال بيان علماء الدين العلاقة بين العلم والدين، تلك الجدلية التي تمتد جذورها لمئات القرون ولم يتم الفصل فيها حتى الآن.
وأتناول ثلاثة نماذج للتقدم في محال التكنولوجيا مبينا الاستخدام السلبي والإيجابي لها، لأطرح في النهاية رؤية لحل هذه الإشكالية الأخلاقية التي لا يقتصر أثرها على الأفراد بل يمتد خطرها ليشمل الشعوب، ويلتهم الحضارات.
أولا: في مجال الهندسة الوراثية:
من فوائد الهندسة الوراثية في زيادة الإنتاج من الغذاء والكساء والدواء، وهي حاجات ضرورية للإنسان، فمن خلالها استطاع الأطباء مثلا أن يوفروا الأنسولين لمرضى السكر عن طريق استخراجه من العجول الرضيعة ومحاولة استنساخ كميات كبيرة لإنقاذ مرضى السكر.
والبعد الأخلاقي يتمثل في استطاعة القائمين على الهندسة الوراثية أن يضروا الإنسان، فعن طريق الهندسة الوراثية من الممكن أن تنتج نباتات مسببة لأمراض كالسرطان، وعن طريقها من الممكن استنساخ بشر على غرار النعجة دوللي، وذلك ما حدث منذ أيام عندما أعلنت العالمة الفرنسية بريجيت بواسولييه العضو في طائفة الرائيليين التي تعد الاستنساخ أساس الإيمان الرائيلي؛ بغية خلود البشرية في الأرض عن ولادة أول طفلة عبر تقنية الاستنساخ البشري في ميامي بالولايات المتحدة.
وهناك في الولايات المتحدة وأوربا بنوك للجينات حتى يستطيع الأطباء استنساخ بعضها التي تحمل صفات وراثية معينة وزرعها في رحم أم لولادة طفل ليس لأبيه حاملا صفات وراثية لشخص قد يكون قد مات منذ فترة طويلة.
وهذا شبيه بما كان يحدث في الجاهلية بنكاح الاستبضاع الذي كانت تذهب فيه المرأة إلى رجل قوي البنية وسيم الوجه لكي تنجب منه طفلا يحمل هذه الصفات. وقد جاء الإسلام لتحريم مثل هذه الأخلاقيات الفاسدة التي تهلك الحرث والنسل.
ثانيا: في مجال الاتصالات والإعلام
في مجال الإعلام نلمس ذلك التطور المذهل الذي حول العالم قرية صغيرة، وأصبح التواصل سهلا ميسورا، وغزا الإنسان الفضاء، وكل هذه إيجابيات لا شك كانت لها فوائدها الجمة، ولكن في الوقت نفسه ألغيت كلمة"ممنوع من النشر" من القاموس؛ فكل شيء متاح، الحسن والقبيح، النافع والضار، فالإنترنت والتلفيزيون قد سيطرا على عقول كثير من الناس واستغلت هذه الوسائل في هدم الأخلاقيات؛ فأنفقت الأموال الطائلة لتصميم مواقع وقنوات تنشر الفساد وتحض على الرذيلة، ضمن حرب شرسة يشنها أهل الشر على أهل الخير، وأصبحت التربية الأخلاقية شيئا صعبا للغاية؛ فرب الأسرة لم يعد قادرا على مراقبة السلوكيات بشكل مناسب كما مضى فوسائل إخفاء الفساد كثيرة، وطريقة اكتشافها شيء عسير خاصة على الذين لا يعرفون طريقة استخدامها أو كان استخدامها لهذه الوسائل ضعيفا –كما هو واقع كثير من الناس اليوم-
ثالثا: في مجال استخدام الطاقة النووية:
أما في مجال الطاقة النووية التي من الممكن توظيفها في الطب لعلاج المرضى واستخدامها لإنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر واستخدامها كمصدر جديد للطاقة التي تتناقص مواردها واحتياطياتها فإننا نجدها تستخدم كسلاح يهلك الحرث والنسل كما حدث في هيروشيما ونجازاكي في اليابان، وكما حدث في العراق وأفغانستان.
إن النماذج المقدمة كانت آية على طريقة استخدام التكنولوجيا بشكل يضر بالمجتمع، ومن السهل تعلمها في عصر السماوات المفتوحة؛ فمن السهل جدا التوصل لكيفة تصنيع قنبلة أو أي شيء يضر الإنسان من أسلحة كيماوية وبيولوجية عن طريق المواقع الإلكترونية؛ مما يجعل المشكلة تدق ناقوس الخطر لمعالجتها، التي أرى أنها من الممكن أن تعالج بالوسائل التالية:
أولا: الاهتمام بالبعد الأخلاقي في التربية؛ حتى يكون عامل الردع داخليا عند الإنسان فهو أقوى من تعيين شرطي عليه.
ثانيا: أن يقوم المسؤولون عن التكنولوجيا في مختلف تخصصاتها بصنع ميثاق شرف يرقى إلى دستور يلتزم به بحيث يتتبع كل من يخالفه وتصدر ضده عقوبات رادعة.
ثالثا: أن يراقب أهل كل بلد ما يصدر إليهم من معلومات ويحاولوا إيجاد طريقة لحظر ما يرونه ضارا منها، وهذه صعبة ولكنها ليست مستحيلة.
تلك مشكلة أطرحها حتى يتفاعل معنا من يهمهم الأمر لإبداء الرأي ومعالجة الأمر بأقصى سرعة.