بين تركيا.. وإيران
كثيرون يربطون بين تركيا وإيران في المأساة السورية.. وأنهما متشابهان في أهدافهما إزاء بلادنا، وهناك من يركّز على تركيا ويحمّلها مسؤولية ما يجري عندنا، وكأنها هي التي أمرت المجرم بالقتل، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وهي من يقوم بالقصف بالبراميل، واستخدام الكيماوي، وعمليات الاغتيال والاغتصاب والفعل الطائفي المبرّمج، وتدمير البلاد، وتهجير أكثر من نصف سكان سورية.. وكثير مما يحكى عن دور لتركيا في تنشئة داعش وقوى التطرف... ثم الخروج بنتائج مقررة سلفاً...
لا شكّ أن الدول ليست جمعيات خيرية" لوجه الله" وأن الدول المستقرة التي تحكمها قيادات وطنية أول ما تفكّر بمصالح بلدانها وكيفية تحقيقها، وإن كانت لغة المصالح غير كافية لتفسير مختلف العوامل التي تصنع قرارات ومواقف الدول، حيث تتضافر مجموعة أخرى من العوامل المتشابكة كالعلاقات التاريخية، والبعد القومي، والديني، والجواري، والإنساني، وحتى المبدئي، والتقارب السياسي والإديولوجي ..إلخ ..
بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى أرضية تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الكبار، وتجزئة الوطن العربي بتلك الطريقة التي كانت " اتفاقية سايكس ـ بيكو" عنوانا لها، وصعود امريكا بديلا للاستعمار القديم، والعمل على تطويق " المعسكر الاشتراكي"، وربط الدول التابعة بالأحلاف، وإيلاء منطقتنا تلك الأهمية الخاصة المعروفة الأسباب.. نهضت في المنطقة ثلاثة دول كانت تسمى المثلث الذي يمدّ أضلاعه للوطن العربي عموماً، ومشرقه بوجه الخصوص : إيران وتركيا، وإسرائيل كيان الاغتصاب الذي ظلّ أمنه يشكل الأولوية الأولى في الحسابات الأمريكية والأوربية الغربية .
ـ كانت الأهداف واضحة، وفي جوهرها تقويض مشروع النهوض القومي، التحرري، التوحيدي للعرب بكل الوسائل .. وتجنيد نظم التبعية في تلك العملية، ثم عدوان إسرائيل في الخامس من حزيران الذي كان الضربة القاصمة لذلك المشروع، ورموزه.. وبقاياه ..وتدشيناً رسميا لعصر الردّة المولود من رحم تلك النظم، وإخفاقاتها ..
ـ إيران الشاهنشاهية التي بدّلت اسم الدولة من فارس لإيران كنوع من التقرّب بالعنصر الآري.. أقامت مشروعاً قوميا لها يستلهم روح امبراطوريتها التي أسقطها المسلمون بحركة الفتح، والأسلمة الشاملة التي حولت الشعوب الفارسية، بمعظمها، إلى الإسلام، لكنها لم تنه ذلك الحنين للماضي، ولا الحقد على العرب المسلمين الذين أطاحوا بتلك الإمبراطورية، ولا النظرة الدونية للعرب، خاصة من قبل الاتجاهات العنصرية القومية الفارسية، وحتى ضمن مخزون الثقافة المتوارث.. وكان التعاون مع الصهاينة كبيراً، ويشمل جميع المجالات، خاصة الأمنية منها واللوجستية .
ـ إسرائيل الكيان حكاية كاملة من التآمر الدولي على العرب لاحتلال قلب القلب، ومنع توحده، وضرب اتجاهاته الاستقلالية ـ التوحيدية، واستنزافه.. وكان الانتساب لحلف الناتو، والمشاريع الخارجية قاسماً مشتركاً بين أنظمة ذلك الثلاثي، على اختلاف درجات الحقد، والفعل، والمستوى .
***
وجرت مياه كثيرة في وديان المنطقة..تراجعت فيها إرادة الاستقلال العربي والتوحيد.. وتأبّدت نظم الاستبداد والفئوية تلتهم حتى الكيانات القطرية وتنهبها وتنهشها.. وترفس إمكانية قيام مشروع نهضوي عام، مستبدلة ذلك بسياسة التوسل والتسول، والاعتماد على أمريكا : حماية ومدداً.. بينما تعزز دور الكيان الاستيطاني مسلحاً بالتفوّق في مختلف المجالات، وفارضاً الصلح المهين على دول الجوار ..ثم التغلغل في نسيج المجتمعات العربية بكثير الصور، والوسائل والممرات .
ـ وحين نجح الشعب الإيراني في إنهاء نظام الشاه.. ضمن تلك الظروف المشبوهة من تخلي الغرب عن صديق ونظام مهمين.. استقبلت الشعوب العربية ذلك التغيير بالترحاب والأماني الكبيرة لدرجة الانبهار والتنظير والتعاطف الذي يصل درجة الالتحاق.. حتى في حالة سيطرة المؤسسة الدينية الشامل، وتصفية جميع الاتجاهات المعارضة من القوى الأخرى، وداخل تلك التوليفة الدينية القائمة على فلسفة" ولاية الفقيه" وشعارات الجمهورية الإسلامية.. ثم الكشف الصارخ عن توجهات، فسياسات عدوانية لخصتها شعارات" تصدير الثورة" والتغلغل في نسيج المجتمعات العربية ليس بدعم مكشوف للتواجدات الشيعية العربية الصيلة، وإقامة ما يشبه المليشيات المسلحة وحسب.. بل بتبني مشروع التشييع متعدد الوجوه، وحوامله القوية من الدعم، وترسانة الشعارات الجاذبة عن فلسطين وتحريرها، واليهود وطردهم، والمقاومة ودعمها.. وكثير من المواقف المعلنة التي اخترقت عمق المجتمعات العربية تملأ فراغاً يتسع، وتطرح نفسها بديلاً للقائم بذلك الالتباس شديد التعقيد بين القومي والديني، والديني والمذهبي ..
ـ إن العمل التطييفي ومهما كانت أقنعته، ومبرراته، ولبوسه هو شرخ عميق، عمودي للجتمعات لن يؤدي إلإ إلى إعادة إنتاج الكره، والأحقاد، والتقسيم، والحروب الأهلية.. وهو ما كان يحدث عبر السنوات القليلة التي سبقت ثورات الربيع العربي، وتفصّحت بكل جبروت الدجل في الموقف من غزو العراق وتدمير دولته، ومنحه لإيران ...
ـ على الصعيد التركي، ومن خلال مشروع طموح لحزب العدالة والتنمية.. حققت البلاد قفزات مهمة في جميع المجالات وضعتها في طليعة الدول المتطورة، والمنافسة لأعتى الدول المتقدمة في مجالات كثيرة.. وبما رشّح تركيا للقيام بدور مهم في جميع المجالات..
ـ تركيا المتطلعة إلى الانضمام للاتحاد الأوربي اصطدمت مرات ومرّات بتلك الاشتراطات المتزايدة التي توضّح فيها أنها لن تكون مقبولة حتى لو وفّرت المستلزمات المطلوبة فأخذت تتجه نحو الوطن العربي والساحات الإسلامية.. وعبر ذلك بنت علاقات قوية مع النظام السوري، وقامت بأدوار نشيطة توصلاً لتسوية بينه وبين إسرائيل، ومدّت شبكة علاقات اقتصادية قوية بعديد البلدان العربية.. رشحتها لموقع مهم في مجموعة من المشاريع، والاتفاقات، والتبادل البيني، والسياحة وغيرها..
ـ تركيا التي ترسي قواعد النظام الديمقراطي بقوة.. استقبلت بترحاب ثورات الربيع العربي، وحاولت بجهد ملحوظ أن تنصح نظام الإجرام بالتوقف عن العنف والقتل، واستبدال نهجه بالمصالحة والإصلاح.. وفشلت.. والنظام يمعن في سياسته، ويصعّد من وتيرة الإبادة والتدمير.. فانحازت حينها إلى جانب الثورة بكل ما نتج عن ذلك من أعباء كبيرة كانت الدولة الأكثر ترحيباً، ورعاية، ومساعدة للشعب السوري في نكبته ومأساته..
ـ تركيا.. ورغم كل ما يقال من اتهامات عن مرور التطرف والإرهاب من أراضيها، وبتسهيل منها.. لم تنشيء، وترسل مليشيات طائفية لقتال الشعب السوري، ولم تمنع لاجئا من الدخول لأراضيها، بل قدّمت اقصى التسهيلات الممكنة.. بينما توغل إيران في حقدها على الثورة وحقوق الشعب السوري، وتمعن في تعميق شروخ الصراع الطائفي، والإثني وتدفعه نحو الاستبدال والحرب الطويلة..
ـ وكما يجري في العراق من تطهير مذهبي، وأعمال انتقامية مريعة، ودفع للصراع المذهبي بديلاً لجوهر الصراع مع نظام عميل بهدف وحدة وتحرر وحرية العراق.. تقوم بدور مشابه في بلادنا وهي تعرّضه بتدخلها السافر لكل المخاطر التي تتجاوز إنجاد نظام طائفي مجرم، ومنع سقوطه..إلى توتير مناخات الحقد الطائفي، ودفع قوى محسوبة على الثورة للانخراط به بموجب سذاجة سياسية، وردود فعل لا ترى ابعد من اقدامها ..
ـ نعم لكل دولة من تلك مشاريعها القومية.. ومصالحها التي تعمكل لتحقيقها ولو على حساب حقوق الشعوب الأخرى ووحدة كياناتها المجتمعية والسياسية.. لكن شتّان للمقارنة أن تكون موضوعية بين الدور التركي والدور الإيراني في الأهداف، والوسائل، والواقع ..