سنوات الخوف

قضية المختفين قسرياً في سورية:

17 ألف مفقود وإهمال حقوقي مذهل..

طلاس وقع على إعدامات..الأخوان اهتموا بالإحصاء وأهملوا القضية

نقاط رئيسة في التقرير:

- حوالي 17 ألف مفقود، ألف قضوا في مجزرة تدمر (1980)، و16 ألف يُعتقد أنه تم تصفيتهم في إعدامات دورية منظمة.

- المرأة أبرز ضحايا الاحتفاء القسري المباشرين.

- إهمال حقوقي مذهل رغم تكاثر أدبيات السجن وانكشاف طرق التعذيب والقتل المروِّعة.

- طلاس وقع على كل الإعدامات التي كانت تتم بموجب محاكمات صورية بين عام 1980-1989.

- الطريق إلى المحاكمات الدولية مفتوح.

- جميع المفقودين لا يُعلم الأهالي مصيرهم بشكل مؤكد، والحكومة تتجاهل المطالب.

- ليس هناك حل لقضية المفقودين إلا عبر تدويلها.

- الحكومة ترفض تسوية الملف، وتعاقب الذين قدموا مساعدات مالية بقانون 49 الذي يقضي بالإعدام.

- أكثر من مليون سوري (4.3%) يعانون من التمييز الحكومي خلال 30 عاماً، ويخضعون لإجراءات عقابية بسبب قرابتهم من المفقودين.

- من أصل 17 ألف حالة فقط 24 حالة مبلغ عنها للمقرر الخاص بالاختفاء القسري في الأمم المتحدة حتى عام 2007.

- الأخوان المسلمون اهتموا بالإحصاء وأهملوا القضية، وتعاملوا معها على أنها مسألة حزبيِّة.

- السوريون يطالبون بالحقيقة والعدالة بصمت!

- بعد ثلاثين عاماً الأهالي أصبحوا يخشون معرفة الحقيقة التي كان يتلهفون لها ثلاثين عاماً.

- الخبراء النفسيون: أثار نفسية معقدة وتدمير اجتماعي منظم ومستمر يعانيه أهالي الضحايا لتعميم الخوف وقمع أي مقاومة للنظام.

- السوريون أخفقوا بالتعريف بقضيتهم في الإعلام والمحافل الدولية.

التقرير أنجزه باحثون وخبراء سوريون في حقوق الإنسان وبالتعاون مع "برنامج العدالة الانتقالية في العالم العربي" وبدعم من منظمة "فريدم هاوس" (بيت الحرية) في واشنطن، وهو أول تقرير دولي وشامل لقضية المفقودين (المختفين قسرياً) في السجون السورية، التقرير تم إطلاقه في واشنطن الخميس 10 حزيران/يونيو ضمن ندوة عن "حقوق الإنسان في سورية: بعد عشر سنوات من حكم بشار الأسد" في واشنطن بالتزامن مع إطلاقه في كل من جنيف وعمان أيضاً.

ملخص التقرير:

هذا التقرير يأتي بعد إهمال حقوقي يصيب متابعه بالذهول، خصوصاً مع تكاثر الأدبيات السورية عن ما جرى داخل السجون السورية وانكشاف طرق التعذيب الفظيعة وحالات القتل المهولة التي جرت في السجن بدون حساب ولا أي مراجعة حقيقية، وإفلات المسؤولين عنها من العقاب التي أسست لأكثر أنظمة الشرق الأوسط شمولية وانتهاكاً لحقوق الإنسان؛ فمقارنةً بملفات إنسانية عديدة مزمنة في سورية فإن قضية المفقودين (المختفين قسرياً) بشكل خاص تحولت إلى كارثة وطنية؛ فضحاياها بالآلاف، وآثارها المباشرة تمتد لتشمل ما يتجاوز مليون مواطن سوري ممن جردوا من حقوقهم السياسية، وأكثر حقوقهم المدنية، فضلاً عن التدمير النفسي والاجتماعي والاقتصادي، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً. هذا ويعتمد التقرير على نتائج أبحاث لخبراء نفسيين واجتماعيين تعاملوا مع القضية بشكل مباشر، وعاينوا حالات عديدة.

خلص التقرير قضية المفقودين في سورية على أنها حالة مأساوية وطنية بأتمّ معنى الكلمة يتداخل فيها الجانب الإنساني مع الحقوقي والسياسي، فما تزال آلاف الأسر التي فجعت باختفاء أبنائها لا تعلم مصيرهم، والمصير المجهول أقسى ما يمكن أن يحتمله ذوو المفقودين لأن الأمل المتجدد بظهور أبنائهم مهما كان ضعيفاً، يبقيهم في حالة من العذاب النفسي وفي ترقب مستمر وبانتظار يفتت الأعصاب أكثر مما يبعث التفاؤل في نفوسهم.

يتابع هذا التقرير قضية المفقودين ومساراتها الإنسانية والحقوقية والسياسية من منظور "العدالة الانتقالية" في ثلاثة عقود (1979-2009) بوصفها قضية وطنية تتعلق بحقوق الإنسان أولاً والتغيير الديمقراطي ثانياً محاولاً تلمس سبل إخراج القضية إلى العلن والتعامل معها بشكل جدِّي، وتقديم اقتراحات بغية تحويلها من كارثة وطنية مزمنة إلى قضية قابلة للحل من منظور وطني ودولي وإنساني، عبر معرفة الحقيقة (حقيقة ما جرى للمختفين) والبحث عن طرق العدالة.

سنوات الخوف وظاهرة الإخفاء القسري:

محاولة استفراد الرئيس الراحل حافظ الأسد بالسلطة بعد استيلائه عليها بانقلاب عسكري في أكتوبر عام 1970 بالاعتماد على ممارسات طائفية أدت إلى مناخ سهل نمو الأصوليات وتصاعد الاحتجاج الإسلامي السياسي (الذي يمثله بشكل رئيس الإخوان المسلمون) والذي انفجر بمجزرة المدفعية في تموز 1979، وانتهى بحرب شبه أهليه، أدت إلى عشرات الآلاف من القتلى المدنيين وعدد واسع من المجاز في عدد من المدن السورية الرئيسية، كان أفظعها مجزرة حماة الكبرى التي ذهب ضحيتها قرابة بين 15000- 35000، وخلال سنوات الخوف اعتقلت أجهزة الأمن ما يزيد عن مائة ألف سجين، كان حافظ الأسد الأب ينفي دائماً أمام وسائل الإعلام العالمية وجود أي سجين سياسي بالمرة، وقد صدر قانون 49 القاضي بعقوبة الإعدام وبأثر رجعي لكل منتسبي الأخوان، وأصدر حافظ الأسد عدداً من المراسيم التشريعية بإنشاء المحاكم العسكرية الشكلية والتي تفتقر إلى أدنى شروط العدالة، وأحال جميع المعتقلين السياسيين إليها، حيث جرى تصفيتهم بشكل إعدامات جماعية منظمة خلال سنوات طويلة روى فظائعها الناجين منها والذين قضوا في الغالب أكثر من عشر سنوات، التي اعترف بها وزير مصطفى طلاس (رئيس المحاكم العسكرية) في مقابلة لمجلة لدير شبيغل 2005.

ومنذ مجزرة تدمر 1980 تم عزل السجناء السياسيين عن العالم الخارجي وإخضاعهم لأشكال التعذيب والإعدامات المنظمة، وقد أكد التقرير أنه على الرغم من أن ظاهرة الاختفاء القسري، وهو أحد أسوأ أشكال إرهاب الحكومة بدأت مع وصول حزب البعث إلى السلطة (ظاهرة بعثيَّة)، إلا أنه لم يتحول إلى عملية ممنهجة واسعة النطاق إلا في عهد حافظ الأسد بدءاً منتصف عام 1980. وفيما خضع للإخفاء القسري الحكومي جماعات تنتمي إلى الأخوان المسلمين والأحزاب الشيوعية ومنظمات فلسطينية ومواطنون لبنانيون وأردنيون وبعض العراقيين، فإن معظم الضحايا هم من الأخوان المسلمين والناس العاديين الذين ذهبوا كرهائن أو بسبب شبه وعلاقات قرابة، وكان في بعض الأحيان حالات اختفاء لعائلات كاملة بما فيها من نساء وأطفال، مثل عائلة "جولاق" (اللاذقية) التي أخذت كرهائن.

وأشار التقرير إلى أن الصراع السياسي على السلطة في سورية أوجد أرضية للمستولين على السلطة للقيام بعمليات الإخفاء القسري الواسعة النطاق، والتي بنيت جميعها على قانون الطوارئ 8 آذار 1963، مروراً بقانون 49 عام 1980 والقاضي بالإعدام على منتسبي الأخوان بأثر رجعي، والمرسوم التشريعي رقم 32 في 1-7-1980 والذي جعل المحاكم العسكرية تشمل الاضطراب الداخلي، والمرسوم 14 لعام 1969 الخاص بإدارة المخابرات العامة الذي ينص على عدم جواز ملاحقة العاملين في الإدارة عن جرائمهم التي ارتكبوها أثناء عملهم. وأشار التقرير أن المسؤولية في عمليات الإخفاء القسري تقع بشكل مباشر على رئيس الجمهورية (القائد العام للجيش والقوات المسلحة، الآمر العرفي) ووزير الدفاع، ثم من يليهم في المناصب ممن قاموا بالمحاكمات العسكرية.

أشار معدو التقرير إلى أن جميع أقرباء المفقودين حتى الدرجة الرابعة ممنوعون من الحصول على أية موافقة أمنية، وبالتالي فهم محرومون من أي وظيفة حكومية، ذلك أن جميع الوظائف الحكومية وكثير من الأعمال الخاصة تستوجب الحصول على موافقة أمنية بالضرروة، وأن هناك ما يقارب مليون شخص هم أقارب ضحايا الاختفاء القسري يعانون من التمييز الحكومي الممنهج منذ عام 1980 إلى اليوم، وأن المثير للصدمة أن الاهتمام بهذا التمييز لم يرد في أي تقرير حقوقي وطني أو دولي على الإطلاق، وبرغم هذا التمييز الواسع الذي يشمل 4.3% من المواطنين السوريين فإنه لا توجد حالة إبلاغ واحدة في مجلس حقوق الإنسان الأمم المتحدة! بما أنهم يعانون بصمت فمعظم السوريون لا يشعرون بمعاناتهم، كما أن السلطات عاقبت من ثبت مساعدته لهم مالياً بقانون 49 القاضي بعقوبة الإعدام بتهمة الانتساب للإخوان المسلمين.

ووفقاً لخبراء نفسيين فإن ضحايا الاختفاء القسري (وهم حسب التعريف المختفي وأقاربه المباشرين) غالباً ما يعانون مشاكل نفسية عديدة، نتيجة تعليق حياتهم لسنوات طويلة جداً بانتظار عودة الغائب الذي لا يعود غالباً، وأبرز هذه المشكلات هي "الاضطراب النفسي"، ومعظم الأثر يقع على النساء والزوجات بشكل خاص، اللاتي يعانين من ضغوط المجتمع السوري المحافظ ويتحملن أعباء مادية مفاجئة لكامل الأسرة في الغالب هن غير مهيئات لها، وممنوعات من التوظيف والعمل في إدارات الدولة ومؤسساتها بحكم كونهم أزواج لمعتقلين سياسيين مختفين، والأمر الذي ينتهي في كثير من الحالات إلى انتشار الاكتئاب وفي غالب الأحيان يكون لذلك الوضع أثر مباشر على تفكك الأسرة وحرمانها من التعليم واللجوء إلى عمالة الأطفال.

وأشار معدو التقرير إلى أن ظاهرة المفقودين أصبحت ظاهرة مقلقة في نهاية التسعينات مع تفشي أنباء التصفيات المروعة في السجون للمعتقلين السياسيين، وخروج الدفعات الأخيرة قليلة العدد من السجناء وتصريح الحكومة مرات عديدة بخروج جميع ما لديها من المعتقلين! وسجل التقرير إهمال المنظمات الحقوقية السورية والدولية للظاهرة وعدم إعارتها الاهتمام الكافي، وبينما يعزو التقرير ضعف الاهتمام إلى قلة الخبرة في المنظمات الحقوقية الوطنية بسبب حداثة نشأتها، فإنه يسجل قلة اهتمام غير عادي في المنظمات الدولية، فيما إذا استثنينا تقرير "كشف سورية" 1990 الذي أعدته منظمة هيومن رايتس ووتش، وسجلت فيها بدقة الانتهاكات والمعاملة اللانسانية في السجون السورية.

وخلص التقرير من دراسة وثائق الأمم المتحدة في مجلس حقوق الإنسان والخاصة بالاختفاء القسري إلى أن مفاجأة، وهي أنه من بين أكثر 50 ألف حالة في العالم مبلغ عنها لم يبلغ في سورية وخلال ما يقارب ثلاثين سنة سوى عن 24 حالة من أصل 17000، ويؤكد معدو التقرير أن ذلك يرجع إلى عدم معرفة السوريين بآلية الإبلاغ، كما لم تُرفع ولا قضية واحدة حتى الآن في سورية في أي من حالات الاختفاء القسري، باستثناء دعوى رفعها المحامي المعتقل هيثم المالح ضد اللواء الخطيب واللواء طلاس بناء على ما ذكره طلاس لدير شبيغل، ولكن رُفض دعواه ولم تُقبل.

وأكد التقرير على أن إحصاء المخفيين قسرياً تم في على شكل تقديرات، وناقش عملية الإحصاء، وخلص إلى أنها تقديرية، وأن عدد 17000 هو عدد واقعي وقريب جداً من الحقيقة، خصوصاً مع وجود لوائح تضم أسماء آلاف الضحايا.

وخلص التقرير إلى أن تسوية قضية المفقودين تعتبر مفتاح لانتقال الديمقراطي في سورية، وأن العبور نحو نظام سياسي أكثر انفتاحاً والتدرج نحو الديمقراطية يمر عبر حل حكومي وتسوية تتضمن الاعتراف بما جرى، وتشكيل لجنة تقصي حقائق تكشف طرق وأنماط الانتهاكات التي حصلت مع المعتقلين في كل حالة، والإعلان عن نتائجها للسوريين، وتسليم جثث الضحايا لذويهم، والاعتذار الرسمي لهم، وتعويضهم، وإصلاح المؤسسات والقوانين بما يضمن عدم عودة الظاهرة وعدم إمكانية ممارستها، وبشكل أساسي المخابرات وأجهزة الأمن، ورفع قضايا قضائية لمحاكمة المجرمين.

• وأوصى التقرير بضرورة تدويل قضية المفقودين في ظل انعدام الأمل بالتعامل الحكومي معه، والعمل على تعريف المجتمع الدولي بقضية المفقودين عبر التعاون مع المنظمات الدولية لتقديم تقارير ودراسات حول هذه القضية. و إدراج قضية المفقودين السوريين على جدول اهتمام تلك المنظمات، حيث لا تزال سورية غائبة عن اهتمام تلك المنظمات فيما يتعلق بملف المختفين قسرياً.

• وإتاحة فرص تدريب ونقل خبرات إلى المجتمع الحقوقي السوري للتعامل مع ضحايا الاختفاء القسري على جميع المستويات.

• والعمل مع المنظمات الدولية للنظر في الطرق الأمثل لمتابعة هذه القضايا ورفع الدعاوى في المحاكم الدولية التي ستشكل ضغطاً قوياً على الحكومة السورية لتسوية هذا الملف.