الوحدة اليمنية أنجاز أم حالة طارئة
FEED BACK
سامي الأخرس
الحلقة الأولى
لا تصاغ النهايات دون الاستناد إلي البدايات أو المقدمات ، فالأخيرة هي التي تحدد الملامح الرئيسية للأولي ، حيث تستند عليها وفق مؤشرات ودلالات يمكن استنتاجها من خلال عملية المزج بين ثلاث عوامل رئيسية يمكن الاستناد إليها كمرتكزات في عملية ال FEEDBACK (التغذية الراجعة) ، هذا المصطلح الذي يمكن مزجه بالواقع ، والارتهان عليه في عملية الاستمتاع الإجمالية للمحلل والقارئ والمتأمل ، وخاصة في عالمنا العربي الذي يتجاهل ذلك وفق طبيعة الثقافة المكتسبة التي تَعود أن يتعامل بها مع الإحداثيات العلمية ، فالتغذية الراجعة أو ما يسمي بالمصطلح اللغوي الانجليزي Feedback يضعك أمام متعة ونشوة عميقة إن استطعت أن تعيد للعقل حيويته ونشاطه ، وتجعله يذهب بعيداً في عملية مخاض طبيعي للماضي وإحداثياته ، لتقاربه مع الحاضر الذي من خلالهما تبدأ ببناء وتأسيس قواعد المستقبل وفق عملية تنبؤ استقرائية شمولية ممنهجه ، لم نطرق أبوابها بعد ، أو لم نواكب متغيراتها وإحداثياتها العلمية نتيجة إملاء ثقافي قسري يفرض علينا أن ننحو دوما باتجاهه ، والسير وفق مؤشر البوصلة أو الساعة الرملية الزمنية التي لم يتحرك مؤشرها للأمام بعد ، يتراوح ويتأرجح بين الماضي وأحيانا ينتابه الحنين للحاضر ، ولا زال يحمل جفاء نحو المستقبل ، فعواطفه العاصفة تشكل حاجزاً مانعاً للمستقبل ، يلقي بالورود الحمراء بعيداً عن حركته المنتظمة ، فأتراسها التقليدية لم تؤثر بها عمليات التطور التكنولوجي ، ولم تنساق للحركة التاريخية البشرية وفق تسلسل تطورها الطبيعي المتزامن مع عمليات ال feed back .
هذا الجانب الفلسفي في الشق الآخر من حياتنا سيدفع العديد من القراء للقول بملء ألفاه " هات من الأخر" وذلك لأننا لم نتعود على القراءة بعمق وتأمل وغادرنا الصبر منذ فترة طويلة ، وعليه فدوما نجد عبارة " هات من الأخر" هي الأسهل والأيسر والأفضل لتستمر وتتواصل مع ثقافتنا التي شرعت لنا تردداتها لاستقبال تذبذباتها في لواقطنا الاعجازية المتكونة في خلايا المخ والدماغ ، والتي لا تجيد سوي عملية الالتقاط ، والترجمة الجاهزة ، رافضة لعمليات التحليل والرصد والتتبع ومن ثم التنبؤ . فالحالة ليست فردية شاذة عن القاعدة العامة ، وليست عبثية غير متكررة ، وإنما هي حالة أخذت شكل الظاهرة ، والعمومية في آليات التفكير والعمل ، والبناء ، ولا أبالغ إن قلت عملية منهجية وديمومة اقتحمت كل مجالات حياتنا ، وأصبحت أحد العوامل المًشكلة في النهج الحياتي والتي تصيغ لنا توجهاتنا .
فعملية التغذية الراجعة الfeed back المقصودة هنا هي عملية الاستمتاع والمتعة التي تفرض علينا أحيانا البحث عنها ، والتوقف أمامها لكي نستطيع الترفيه النفسي والثقافي عن أنفسنا التي أصابها الشقاء والكلل من الوجبات الجاهزة والسريعة ، والتي لا زالت تضع قدمها عند رأسها ، وتبول مكان ما تتناول طعامها ، وذلك ليس تجني على هذه الأمة العربية التي يعتبر الانتماء لها شهادة فخر نحملها معنا منذ أن نستقبل أولي نبضات الحياة ، وإنما هي من باب الألم والآسي على ما به هذه الأمة من حال ، فهناك من يجد في العظماء الذين يستقبلوا الدنيا بالبكاء ومن حولهم يضحك ويبتسم ويفارقوا بالابتسام ومن حولهم يبكي ، وهذا قمة الانتصار الذي يمكن أن يحققه المرء في السلم التدريجي لرحلة حياته من صرخة الميلاد حتى ابتسامة الوداع الأخير.
وحتى نقتحم عملية التغذية الراجعة التي نحن بصددها والابتعاد عن الروحانيات (والكهنوت) –إن جاز التعبير – لا بد وأن نصوغ ملامح ومعالم القاعدة التي يجب أن ننطلق منها دوما في كيفية الترويح والترفيه عن الذات ، والتخلي عن التكلس الثقافي الذي طمس معالم الإبداع التي شكلت لدينا معلم حضاري في زمن غابر لا زال ماثلا أمام أعيننا حتى كتابة هذه المقدمة الفلسفية التي يبحث القارئ عن سبب منطقي وواقعي لها ، مترقبا بابتسامة غيظ عما يريده الكاتب ، ومستعجلا الغيث من الفكرة ، وأن يصل للزبد ، والطرف الأخر يتنبأ بجملة توقعات للقادم في هذا المقال الذي تورط به وقرأ بداياته أو عنوانه فأخذه الفضول لاستكماله ، فوجد نفسه منتقلا من سطر لأخر دون أن يفهم لأين سيصل به نهاية المطاف . ولسان حاله يقول وبعد .
فالتاريخ شيء هام ، وفصوله تعتبر وجبه روحانية – ثقافية لا بد وأن يتناولها كل امرئ على وجه الجغرافيا المتكورة أو البيضاوية ، فهو الزاد الذي لا يمكن أن نملئ منه أمعائنا والماء الذي لا نرتوي منه أبداً. ولذلك وجدت أن اقتحم أحدي بقاعه الواقعة علي الخريطة العربية ، هذه الخريطة التي أعيد صياغتها بألوان مغايره للألوان التي لا زالت تتكرر على مسامعنا في كتب التاريخ التي درسناها في المراحل الدراسية المختلفة والتي حاول واضعوها رسم مستقبل مشيد على قواعد الماضي وإرثه البعيد.
لا أدرك حقيقة ما حدث لي فجأة حيث تغلغلت لأعماقي مشاعر الملل ، والضجر ، والقنوط ، وضيق الخلق ، وعصبية المزاج فاتخذت قرار لم أتمني في يوم أو لحظة أن أتخذه ، ولو خيروني ألف مرة حتما لم ولن أتخذه ، ولكنني قررت أن أسير معه ، وفجأة اقتحمت أحد الأماكن السيئة في نفسي ، والتي ينبع سوئها من غلاظه الأفكار التي تسمعها ، اخترت أحد مواقع الحوارات العربية ذات الطابع السياسي ، وبدأت بتلقائية صوب موقع للشباب اليمني دون أي دوافع مسبقة أو تعمد في الاختيار ، فوجدت نفسي أجلس مستمعا بأدب وصمت وهدوء لما يتناوله هذا الشباب من حوار ، ومن حسن الحظ أو سوء الحظ لا أعلم كان موضوع الحوار قضية في غاية الأهمية والحيوية ، والتي تتعلق ليس بمصير اليمن لوحدة فقط ، وإنما بمصير الأمة ، بل وهي محور يحدد مستقبل الأمة سواء علي صعيدها القطري اليمني أو القومي العربي ، وقبل الخوض والتعمق في جدلية الحوار السياسي الحماسي الذي كان يطغو بوتيرة مشتعلة بين هؤلاء الشباب لا بد من وقفة موجزة أمام لمحة عن منجزات الأمة العربية وإخفاقاتها في التاريخ الحديث .هذه الوقفة التي تعبر ضرورية في الموضوع الذي سنطرقه لاحقا .
بدأ القرن الماضي ( العشرين) بانتكاسات وهزائم مؤثرة جدا في التاريخ العربي ، لا زلنا نعيش آثارها وتوابعها ، وألقت بظلالها علي حاضر ومستقبل أمتنا العربية وعلي مستوي الفكر العربي عامة ، هذه الانعكاسات أخذت شكلين :أولهما حالة التقسيم التي فرضت من القوي الاستعمارية وأصبحت واقعا لا بد من الاعتراف به ، وتحويل الوطن العربي لأقطار ضعيفة واهنة ، لا تمتلك من مقومات البقاء والاستمرار والنهوض سوي الاسم فقط ، وثانيهما ضياع فلسطين وتحقيق الحلم اليهودي بإقامة وطنهم المزعوم التي خططت له الحركة الصهيونية العالمية.
هاتين الانتكاستين أذابتا معظم المنجزات التي شهدها القرن العشرين والتي إن تم البحث عنها وسط الهزائم المتتالية فلن نجد سوي " الوحدة اليمنية " المنجز الأهم والحقيقي الذي يمكن رصده وتحليله ، كأحد المنجزات التاريخية والذي لا زال قابلا للنجاح والاستمرار .
وإن كان القرن العشرين بدأ بانتكاسات وهزائم فظة فأنها عمليا قادتنا لعملية ميلاد قسرية لنفس البدايات التي حملها القرن الحالي "الواحد والعشرون " وكأنها عملية لا بد وأن نعيشها مع بدايات كل قرن ، منتجة لنا أيضا انتكاسات وهزائم تحمل نفس البصمات ، فزادت حدة التقسيم للمقسم والمجزئ ، وها نحن نتابع آليات تقسيم السودان لثلاث دول ، ولبنان لدولتين ، والصومال ، والعراق الذي ضاع كما ضاعت فلسطين .
فالملامح لبدايات القرنين واحدة تتمثل في التقسيم الشامل والمخطط والممنهج المتكامل ، وضياع فلسطين والعراق .
وعودة علي مجمل الحوار الذي استمعت له من حوارية الشباب اليمني الذي كان حواره عبارة عن معركة شجاعة لم أشهدها بكتب التاريخ التي صورت لنا شجاعة عنترة بن شداد ، فهذه الحماسة والشجاعة أنصبت كلها في اتجاه الانفصال ، وضرورة وحتمية- مع التأكيد – علي حتمية خوض عملية التحرير من براثن الوحدة . وأي وحدة التي يريدون التحرر منها؟
هذه الحالة التي عشتها خلال ثلاث ساعات من الاستماع والتركيز أكدت أن هناك هجمة وحملة شديدة الضراوة يتم نسجها وشرعنتها من خلال فيروس يصيب عقولنا العربية ، وخاصة فئة الشباب المتحمس المندفع خلف الشعارات البراقة الساحرة ، عنوانها التلقين وتحويل الآدمي إلي أداة تحقق أطماع مشبوهة ، وأن الفكر الاستعماري لا زال يغزو عقول أجيالنا مستغلا الحيز الهامشي الذي خلقته حالة اليأس والإحباط من الواقع الحالي .
في الوقت الذي عاشت به الأمة العربية وهي تناضل من أجل الوحدة الهدف الأسمى لإعادة الكرامة ، والخروج من حصار الهزيمة ، والنجاة من مخالب الاستعمار ، هناك من لا يزال يريد الانفصال وتكريس الانقسام والتبعية والتشرذم ، وإحقاقا للحق وحتى لا تتجني علي الشباب اليمني فهذه الهواجس الفكرية منغرسة في عقول جميع العرب وبمختلف جنسياتهم ، وبين فئات وقطاعات واسعة من شباب العولمة .
الحلقة الثانية
الوحدة اليمنية من منظور تاريخي :
كما وسبق وتحدثت أن الانجاز العربي الوحيد الذي ربما يمكن الاعتداد به في القرن العشرين هو تحقيق الوحدة اليمنية التي شكلت مدخلا ومحورا رئيسيا في عملية إنتاج طبيعية بروح الجدلية الإنتاجية الحقيقية بعيدا عن وسائل وأدوات الاستهلاك . فالوحدة اليمنية تحققت وأنجزت في بقعة جغرافية عربية لم يتوفر بها من مقومات النجاح سوي الشيء النذير بالتفاؤل مقارنة مع مناطق أخري ، وعليه لم نقارن الانجاز الوحدوي بالاتحاد الإماراتي وذلك للعديد من الدوافع والأسباب التي لا يمكن تناولها هنا ، ولكن عندما نتحدث عن ضعف مقومات النجاح اليمني في ترسيخ الوحدة فهذا لجدلية التطور التي عاش اليمن أحداثها ، وعملية النمو الاجتماعي والسياسي بشقه الذي خضع لحكم الأئمة الانعزالي ، وعلي وجه الخصوص فترة حكم الإمام يحيي الذي عزل اليمن كليا عن محيطه الإقليمي والدولي ورفض أي محاولات للانفتاح علي العالم ومعايشة عملية التطور التي كانت تخوضها الشعوب سواء العربية أو الدولية ، والتي لا زال أبناء اليمن يعانون من عواقبها حتى اليوم في شتي مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية ، فمقياسا وقياسا بمنحني التطور للشعوب العربية لا زال اليمنيين متأخرين جدا ، ناهيكم عن الفرق الشاسع في الثروات الطبيعية ما بين اليمن ونظرائه من الأقطار العربية ، وخاصة الدول النفطية (الريعوية) ، إذ هنا عاملين هامين وهما العزلة التي عاشها اليمن ، والثروات الاقتصادية ، وذلك إضافة إلي الحرب التي شكلت حاضنة الثورة اليمنية ، هذه الثورة التي ومنذ أن تم الإعلان عنها تم مواجهتها من الداخل سواء من حكم الأئمة أو من القبلية والعشائرية وبعض الشرائح الاجتماعية التي أرهبتها عملية الانفتاح التي ربما ستحققها الثورة ، إضافة لمحاربة دول الجوار للثورة اليمنية سواء من حكم آل سعود ، أو الحكم الهاشمي في الأردن في بداياتها ، والحرب الدولية التي تمثلت بالقوي الاستعمارية وعلي وجه الخصوص (بريطانيا) ، ورغم كل ذلك استطاعت اليمن أو الثورة اليمنية التحدي والاستمرار ، كل ذلك والجزء الجنوبي من اليمن بعيدا عن هذه التطورات والعوامل حيث كان يعتبر أحد المحميات البريطانية ولا يدور في عجلة التطور الذي يشهده اليمن بشقه الآخر.
انقسم اليمن الواحد ذو الأصول العائلية والعشائرية إلي يمن شمالي ، ويمن جنوبي ، أو يمن عدن ويمن صنعاء بنظامين أيديولوجيين مختلفين رسخا عملية الانقسام التي شهدت صراع طويل وشاق ، تقاذفته القوي دون مسميات منها العربية ومنها الدولية ، وبعد عملية مخاض طويل وصعب لا يتسع المجال هنا للحديث عنه – عملية الأمل –نجحت الوحدة بين اليمن المنقسم ، هذه العملية التي تطلبت لانجازها نزيف من التضحيات البشرية والاقتصادية ، والاجتماعية ولا يضار كونها جاءت كثمن لانتصار "الفكرة" وتحقيق الحلم الذي لا بد وأن يفتخر به كل يمني وكل عربي .
ورغم عملية الوحدة التي أنجزت إلا أنها لم تستطع مقاومة شهوانية وآفة الانفصال التي كانت تتغذي باستمرار بمطامع استعمارية انتهازية ، وإشعال فتيلها كلما خمدت ، حتى تم الحسم بمعركة صراع يمنية – يمنية عنيفة انتهت لصالح الفكرة ، وهنا لن نحاكم أحداً ، ولن نحاكم هذه المرحلة بايجابيتها وسلبياتها ، ولكننا حتما لن ننحاز سوي لانتصار الفكرة ، فأي انحياز بعيدا عن هذه الفكرة والحلم ما هو سوي ضرب من الإسهاب في الخيال ، وانحياز لمعسكر حاول تمزيق الحلم الذي نتمني أن يكون أشمل وأعم ، وتتسع دائرته . هذا المعسكر الذي غرس فينا جاهلية القطرية ، والحدود ، والحواجز.
وبدأت اليمن بصياغة مرحلة ذات معالم الانجاز الأكبر ، وتضع على خارطة الوطن العربي شاهدا ونموذجا يعتبر الأروع والأكثر أهمية وحيوية ،عملية اندماج وانصهار في القرن العشرين ، هذا الاندماج الذي لا زال يعيش فينا ، ويحيي معنا ، ولكنه لم يكتمل بعد ، ولم يتم الحكم عليه نهائيا ، والسؤال الملح كيف يتم ترسيخ دعائم الوحدة ثقافيا ، واجتماعيا ، وسياسيا ، واقتصاديا ؟!
الوحدة اليمنية لا زالت في مراحلها الأولي ، لم يشتد عودها ، ولم ترفع ساعدها القوي في وجه المتآمرين عليها ، ما دام هناك من يردد مصطلح الانفصال ويبحث عنه ، وهذا وزر لا يتحمله دعاة الانفصال لوحدهم ، بل هو وزر جماعي مشترك تشارك به الجماعة السياسية والمتمثلة بالنظام السياسي ، والجماعة الاجتماعية المتمثلة بالجماعات الأثنية ومؤسسات المجتمع المدني ، والجماعة الاقتصادية التي لم تستطع أن تحقق معدلات التنمية والنمو الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل المواطن اليمني يميز بين منجزات الوحدة ، ومآسي الانفصال والانقسام ، أضف إلي ذلك التكوين الثقافي الذي فشل حتى راهن اللحظة في قيادة عملية التغيير والتحول الشمولية للمفاهيم والثقافات الفرعية وتحويرها ، وخلق أبجديات متجددة ومتغيرة لتقبل المستقبل ، ولفظ الماضي بمفاهيمه ومخلفاته الاصطلاحية .
فالبداية لا بد وأن تنطلق من عملية إحلال وإبدال (تغيير ) وفق تسلسل منطقي وطبيعي ، بعيدا عن سياسة الفرض ، والإرهاب الثقافي ، والإجبار الفكري ، فطبيعة المواطن اليمني تختلف وتتميز عن باقي البلدان العربية بما أن هذا المواطن عاش عزلة كاملة ، وعاني من حالة إقصاء قهرية نضجت في واقع منعزل عن البيئة الإقليمية والدولية لفترة طويلة نسبيا ، وكذلك التركيبة السكانية أو التكوينات الاجتماعية (الأثنية) التقليدية التي تشكل الجزء الأكبر من المجتمع اليمني التقليدي بطبعه وانتماءاته ، من هنا المعركة كانت ولا زالت مستعرة ، ولا بد من الاستجابة لمتطلبات الفعل الواقعي الذي أصبح من ضروراته إلقاء البندقية وحمل مشعل التنوير الثقافي ، والتوازي بأبعادها (الثقافية – السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية) فهذه الأبعاد متكاملة متناغمة منسجمة تتكامل ببعضها البعض ، ولا يمكن عزل إحداها عن الأخرى ، فهي قواعد أساسية يتم البناء علي فرضياتها .
فعملية التغيير الثقافي لا بد وأن تنسج خيوطها ضمن إلغاء المفاهيم الانفصالية وترسيخ مفاهيم التلاحم وليس الوحدة فحسب ، وعند القول تلاحم فأنني اعني الكلمة بمعناها الاصطلاحي واللغوي ، فالوحدة اليمنية ما هي إلا إعادة للتلاحم الذي تفكك قسرا وفرضا ، وليس وحدة بين قطرين طارئين ، وهذا لا بد من الانطلاق وفقه ،وترسيخه في ذهن الأجيال . أن اليمن واحد غير قابل للقسمة علي أثنين ، وأن اليمن التاريخي هو هذا اليمن الذي يوجد اليوم بوحدته الجغرافية، والاجتماعية، والسياسية ، يمن المصير الواحد . يمن التضحيات .
هذا كله يجب أن يصاحبه خوض غمار معركة متوازية ومترافقة ومتوائمة بأضلاعها . تبدأ من معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، لتشكل القاعدة الأصيلة لأي عملية تغيير مستقبلية.
فأي عملية تغيير لم يتم تدعيمها بتنمية اقتصادية واجتماعية ، تحقق من خلالها نهضة شاملة لن يكتب لها النجاح أو الصمود ، فالمواطن اليمني لا بد وأن يلمس منجزات الوحدة ومكتسباتها ليستطيع المقارنة والمقاربة بين نار الانفصال ، وجنة الوحدة . هذه التنمية المقصودة والتي تتجلي في توسيع التعليم ونشره ، ورفع معدلات الدخل للفرد ، ومعالجة قضايا الفقر ، والأمية ، والبطالة ، والعمل بدستور وطني يستند للقواعد القانونية وروح العدالة علي قاعدة المساواة التامة بين كل فئات وشرائح المجتمع ، والارتقاء بمفاهيم المواطنة ومعاني الولاء الوطني، والانتماء ، وغرس الذات الوطنية في المواطن اليمني ، واستقلال القضاء ، وإطلاق الحريات ، كحرية التعبير ، والمسائلة ، وإطلاق الحرية لمؤسسات المجتمع المدني وإفساح المجال لها لخوض عملية التنمية ، وتوزيع الثروات ، وبناء البني التحتية للوطن اليمني بعمومه . إضافة إلي إطلاق الحريات السياسية ، ومنح حيز من المشاركة السياسية الشعبية للمواطن من خلال انتخابات حرة وديمقراطية في أشكالها المحلي والبرلماني ، وخلق حالة توازن ما بين المعارضة والنظام السياسي المتنفذ بالحكم ..الخ.
العملية ليست معقدة ، ولا تحتاج للإسهاب ، فمتطلبات الوحدة متطلبات بديهية لن يكتب لها النجاح دون الانطلاق أفقيا وعموديا في عملية البناء ، وهنا البناء لا يتم من أعلي الهرم وقمته ، وإنما تتم انطلاقا من البني التحتية للمجتمع الذي يجب أن يجد نفسه منخرطا في حماية الوحدة والحفاظ عليها ، ومشارك في رسم الانجاز الأهم الذي يحمل آمال وطموحات التكوين القطري الضيق ، والتكوين القومي الأوسع مدارا ، وخلق حالة من الانتماء للكيان الوطني ولفظ كل مسميات ومعاني الانتماءات الأثنية ، أو للتكوينات التقليدية التي لا زالت تؤثر علي الخريطة اليمنية.
فالغرس المثمر يحتاج لعناية دائمة منذ أن يتم حرث الأرض وتهويتها ، وغرس البذور ورعايتها حتى تنبت وتصبح نبته مثمرة تحمل من الثمر الشهي ما يثير الشهوة لالتقاطه والتمتع بمذاقه . فالعلقم والصبار لا يثيران سوي الاشمئزاز . فلتكن الوحدة اليمنية النبتة المثمرة ثمرا شهيا يتذوقها اليمني والعربي باستمتاع ورغبة ملحة كحاجة ضرورية.
مقارنة غير عادلة:
نحتكم دوماً كأمة عربية عند الاحتكام للمستقبل للوقوف أمام المجهول ، وقراءة مشوشة غير مرئية، يحيطها الغموض والإبهام ، فدائما ننجذب للماضي وننبش به ، ونخضع جثمانه لعملية تشريح وعبث بمبضع لا يستطيع أداء مهمته.
لم تقتحم بعد عملية البحث عن ملامح المستقبل والتنبؤ ورسم معالمه وحدوده لنضع أجيالنا على قاعدة صلبة ينطلقوا من خلالها للأمام بخطي ثابتة ، بل نبقي دوما نلتفت للخلف ، والعودة للمربع الأول ، وهذا ما يميزنا ويمنحنا أعلي درجات في مقياس التخلف مقارنة مع غيرنا من الأمم ، هذا المقياس ليس اعتباطيا أو عفويا ، وإنما يرتكز لقياس علمي ذو قواعد أهمها الفرق الشاسع بين مراكز الأبحاث العربية ونظيراتها في الدول المتطورة ، فكل ما تقدمه مراكزنا الرسمية وغير الرسمية هو البحث المستفيض في الظواهر التي مضي علي أحداثها سنين طويلة أي أحداث الماضي ، فيبدع المؤرخين والمفكرين العرب في دراسة ووصف الماضي وظواهره ، وأبعاده ، أما عند التطرق إلي المستقبل وقضاياه يقف هؤلاء حائرون ، عاجزون ، وتتوقف لديهم لمحات الإبداع ، ويصمتوا ، في الوقت الذي لا زال غيرنا يقدموا كل ما هو مبدع في قراءة المستقبل ورسم مسلماته ، والتنبؤ المسند لأسس علمية ووقائع مترابطة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، فتقرأ هذا الترابط وكأنك تعيشه ، وتراه وتلمسه .
ومن هنا تبدأ عملية الثورة الفعلية التي يمكن أن تسترشد بها الأجيال العربية ، هذه الأجيال التي لا تقرأ سوي عن الماضي ، وينظرون للمستقبل بأفق ضيق وهامشي ، محاصرون بعوامل معلبة في إطار معين ، ونمط تقليدي ، وهو ما يترك لهؤلاء شهواني الانفصال الاستناد إلي أول تجربة وحدة عاشتها الأمة العربية وهي تجربة الجمهورية العربية المتحدة التي كانت طوق النجاة للنخب العربية الفكرية والثورية ، والتي انساقت خلفها انطلاقا من هوجة العاطفة فقط دون التريث والاحتكام للمنطق العلمي في تحليل هذه التجربة التي ذابت وتلاشت مع بزوغ أول شعاع للشمس ، فلم تصمد ، وعليه لا يمكن الانطلاق من خلالها في عملية مقارنة أو مقاربة منطقية مع التجربة اليمنية ووحدة اليمن ، فالاختلاف بين الفصلين التاريخيين كلي ، وكون أن المقارنة لا تعتمد على أسس بحثية متوسعة بكل الأبعاد فإن البعض قد وجد في عقد مقارنات هامشية مدخلا وإفرازا لحالة الفشل وأخذها كمأخذ علي فشل التجربة اليمنية .
بادئ ذي بدئ إن عوامل نشوء الوحدة المصرية – السورية فُرضت على الطرفين فرضا ، ولم يتم الاستعداد والتحضير المسبق والمعد جيدا وفق خطط إستراتيجية متكاملة ، وإنما غلب الجانب العاطفي الوحدوي الذي شكل قوة الدفع للتسرع في إعلان الوحدة المصرية- السورية دون الاستناد لأي خلفيات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، وإنما ترافقت مع مرحلة النشوة القومية والفكر الوحدوي الذي مثل سمة لتلك المرحلة التاريخية التي وجدت فكرة الوحدة خلاص مرحلي من الهزيمة ، والاستعمار ، والتخلف ، إضافة للانسياق الجارف والغير مبرر للنخب العربية الفكرية والثقافية حول خطاب الوحدة والذي اكتسي بالنبرة العاطفية التلقائية الغير مبرمجة أو مدروسة ، والعشوائية التي لا تستند لأي أسانيد إستراتيجية ، وإنما كانت كتعبير عن حالة الهروب الفكرية من الهزيمة ، ومبرر يُقدم للجماهير العربية التي عاشت مرحلة الصدمة حينذاك من هول الانتكاسات التي تعرضت لها الأمة في غابر الأيام الانهزامية ، وهو ما يختلف إجماليا عن الظروف والنواتج التاريخية التي أعلنت من خلالها دولة الوحدة اليمنية سواء من الناحية الشكلية أو الموضوعية .
والأهم الذي كان أحد عوامل فشل تجربة الوحدة المصرية – السورية والتي لو قدر لها النجاح لمثلت الأنموذج الرائع الذي احتذي حذوه العديد من الدول العربية ، سواء بالانخراط في دولة الوحدة ، أو إنضاج تجارب وحدوية أكثر اتساعا ، وأكثر امتدادا من حدود القطر المتعارف عليه حاليا ، ولكن كل مقومات الفشل والانهيار ترافقت مع إعلان هذا الكيان الوحدوي الجديد الذي وباعتقادي ولد ميتا .
الوحدة السورية-المصرية جاءت كنوع من عملية الهروب إلى الأمام التي وجدت قادة الجيش السوري آنذاك أنفسهم محاصرين بالضغوط الداخلية المحلية المتمثلة بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية,والضغوط الإقليمية سواء من العراق أو لبنان أو تركيا,أو الضغوط الاستعمارية الخارجية ومنها الفرنسية والبريطانية والضغط الإسرائيلي المتمثل بالدولة العبرية التي كانت تمثل أهم أوجه التهديد لسوريا,وتحيطها بالخطر المتمثل بسيادتها ونظامها ووجودها,إضافة للعامل الحاسم وهو وجود الزعيم جمال عبد الناصر هذه الشخصية التي استقطبت كل أحرار العرب,أي أن الوحدة ارتبطت بشخصية الزعيم عبد الناصر أكثر ما شكلت قناعة ايدولوجية ومتطلب ضروري وتأريخي.واستناداً على ما سبق تم إعلان الوحدة المصرية –السورية بعجالة دون التأسيس السليم,ودون إرساء قواعد راسخة لنجاح هذه الوحدة التي انطلقت فعلياً,والتي خلال عمرها القصير لم تضع التمايزات الطبقية والاجتماعية والسياسية والجغرافية والاقتصادية والثقافية نصب أعينها في إصدار القرارات والقوانين الناظمة لهذه الوحدة,فلم تراع الاختلافات القطرية والحزبية ولم تأخذها بعين الاعتبار,رغم أن القارئ والدارس لتأريخ مجمل الأوضاع المصرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية,والتركيبة السكانية للمجتمع المصري يدرك أو يلمس حجم الاختلاف الكبير والشاسع عند المجتمع السوري,وذلك يعتبر من أهم عوامل الفشل لهذه التجربة,والتي ظهرت منذ بدايات إعلان الوحدة,إضافة لكل ذلك حجم المؤامرة التي تعرضت لها هذه التجربة سواء من العديد من الأنظمة الرجعية العربية التي رأت في الوحدة تهديداً لمصالحها ولسياساتها,وخاصة تلك السياسة التي أطلق عليها سياسة الأحلاف التي كانت احد أسباب إعلان الوحدة,إضافة للحرب التي شنتها القوى الاستعمارية ضد الوحدة المصرية-السورية,والعامل الأخطر الذي تطرقت له وهو الدولة العبرية التي وجدت بهذه التجربة اكبر أداة ممكن أن تهدد وجودها الذي لم يكن قد تبلور بعد,ويشتد عودة قوة. إضافة لعوامل اقل أهمية كالبعد الجغرافي حيث شكل احد العوامل في فشل وانتهاء الوحدة المصرية-السورية.
عند عقد مقارنة مابين التجربة المصرية-السورية والتجربة اليمنية فإن هذا يتطلب الإسهاب والبحث مطولاً,ولكننا نعطي هنا ملامح عامة للمقارنة يمكن أن يجد بها المطلع مرشداً للبحث بأكثر تفصيلية,ولكننا أمام مقارنة سريعة لإيضاح أوجه المقارنة,والاختلاف بين كل من التجربة اليمنية والتجربة العربية الأولى,والتي لا يمكن مقارنتها سواء من حيث التكوين,أو العوامل المكونة والدافعة..
نعم نتفق أن التجربة اليمنية أيضا جاءت دون الإعداد الراسخ والاستراتيجي بضمان عوامل النجاح بنسبة مائة في المائة,ولكن التجربة اليمنية تكتسب كل عوامل النجاح من الواقع الذي تستند إليه وحدة الأراضي اليمنية, ووحدة العادات والتقاليد,والجذور العشائرية للأسر اليمنية,والوحدة الجغرافية لليمن التاريخي والتأريخ والمصير المشترك لليمن,والعديد من عوامل النجاح,وحقيقة لا يمكن لي أن أطلق على التجربة اليمنية تجربة وحدوية لأني هنا أتجنى على اليمن أرضا وشعباً وتأريخاً وإرثاً,ولكن المسمى الصحيح هو إعادة التلاحم الوطني لليمن الواحد,وتحطيم جدار الفصل القسري الذي فرض على الأسرة اليمنية وعلى العشيرة اليمنية الواحدة,وليس على الوطن اليمني جغرافياً فحسب.
إذن,بإيجاز فان عقد أي مقارنة بين تجربة الوحدة المصرية-السورية,وتجربة التلاحم اليمني هو ضرباً من ضروب التجني,وتغذية لتبريرات أصحاب الشهوات الاستعمارية الانفصالية,الذين يجدوا في الانفصال أداة للتعبير عن شهواتهم وأطماعهم,وإزكاء لروح الانقسام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي,والثقافي,وعلية المقارنة أو المقاربة هي وسيلة عبث في فكر وثقافة أبناء اليمن والعرب عامة.