حزيران .. ليل الوطن الطويل
د. لطفي زغلول /نابلس
ها هو حزيران/ يونيو الثالث والأربعون ينقضي، تاركا وراءه شجونا وأشجانا لا تمحي من الذاكرة الفلسطينية. غمامات قاتمة تظلل الوطن المحتل. الصمت العربي المريب يؤكد أن الوطن الفلسطيني قد فقد عمقه القومي. الحصارات والإغلاقات تحيط به من كل حدب وصوب. الإجتياحات، الإغتيالات، الإعتقالات، الإستيطان، التهويد، مجزرة أسطول الحرية، إنقسام الوطن إلى جناحين، لا يعلم إلا الله أيان يلتقيان. لكن اليأس لم يجد له طريقا إلى الصامدين على ترابه. هناك فسحة من الأمل، لشعب لم يفقد إيمانه بالله ووطنه.
انه حزيران/يونيو الثالث والأربعون يحمل مرة أخرى حقائبه المثقلات بالشجون والأشجان . يرحل عن فضاء الوطن. يغادره ولا يغادره. يغادره رقما، ويبقى ساكنا إياه هما مستداما. وها هو حزيران الرابع والأربعون يدخل أجندة القضية الفلسطينية بكل إفرازاته الإحتلالية الكارثية المأساوية، مشكلا واحدا من أخطر مفترقاتها التاريخية والجغرافية.
هو في حكم الزمن ماض، إلا أن هذا الماضي ما زال حاضرا حتى اللحظة الراهنة ، وعلى ما يبدو إلى ما بعدها . وإذا كان الخامس عشر من أيار/مايو 1948، قد خط في سفره مأساة شعب اقتلع من وطنه ظلما وعدوانا، وبغير حق ، فقد جاء حزيران/يونيو 1967 بعد تسعة عشر عاما، ليكمل فصول المأساة، وليفرز آثاره السالبة على الشعب الفلسطيني بخاصة، وعلى مجمل الحياة العربية بعامة.
لقد شهد العالم العربي نكسات وهزائم على مدار تاريخه. إلا أن هناك حقيقة واحدة ظلت قائمة، وتتمثل في أن هذا العالم العربي لم يرض بهذه النكسات والهزائم. وظل يستجمع قواه الذاتية إلى أن تمكن في كل مرة من الرد على التحديات الخطيرة التي فرضت عليه، وأعاد ما كان له من مكانة واقتدار.
إلا إن هذه الأعوام الثلاثة والأربعين من عمر القضية هي الأخطر على الإطلاق. فكثيرة هي إفرازاتها على كافة صعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بخاصة، ويصعب الوقوف عند كل واحدة منها في هذه العجالة. إلا أنه وبرغم هذا البحر المتلاطم من الأحداث في أكثر من اتجاه متعاكس، فبالإمكان الوقوف عند محطات معينة بحد ذاتها، تركت بصماتها التي لا تمحي على مسيرة القضية الفلسطينية ومسارها.
في اعتقادنا أن المحطة الأولى كانت هي احتلال بقية التراب الفلسطيني، وما أحدثه ذلك من صدمة أيقظت الشعب الفلسطيني من إغماءة النكبة الأولى، فأعادته إلى بؤرة الحدث الذي يخصه وجها لوجه مع المحتل لأرضه التاريخية بعدما هيء للكثيرين أن هذا الشعب قد خرج من خارطة وطنه، أو أنه تم تغييبه عنها تحت ظروف جغرافيات ومسميات فرضت عليه غداة نكبته الأولى في عام 1948. وفي حقيقة الأمر فقد كانت تسعة عشر عاما عجافا عاشها الشعب الفلسطيني على ما تبقى له من وطنه وفي منافي الشتات.
والمحطة الثانية تمثلت في قصر نفس مشاركة العمق العربي لسبب أو لآخر. وقد ترجم هذا التوجه عدم استعداد الأنظمة العربية وبخاصة ما سمي آنذاك بدول الطوق الإستمرار في لعب دور"هانوي القضية" في الوقوف مع النضال الفلسطيني، ورفض البعض الآخر أصلا فتح حدوده أمام تبني أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية.
إلا أن رفع الستار على مسلسل معاهدات السلام والتطبيع مع إسرائيل غداة حرب الخليج الثانية وحتى ما قبلها، قد جرف القضية الفلسطينية بمجملها لتقف مذهولة عند المحطة الثالثة التي كانت أخطر المحطات، حيث تساقطت الثوابت والمواقف واللاءات والآليات العربية الواحدة تلو الأخرى والتي دون أدنى شك كانت تشكل الظهير والسند القوميين لها.
لقد كانت هذه المحطة الثالثة ككرة الثلج المتدحرجة التي جرفت معها الأخضر واليابس، فعرت القضية وجردتها من الكثير من سواترها القومية. وفي لحظات كثيرة وقف الشعب الفلسطيني وحيدا إلا من رحمة ربه مذهولا لا يكاد يصدق هذا الصمت العربي المريب مستقرئا من خلاله معاني عمقت جراحاته وزادت من مساحة مأساته.
لقد عاش الشعب الفلسطيني أياما حالكة وعصيبة. فكل ما حوله إقليميا ودوليا تآمر على نضالاته المشروعة، ووصفها بأنها ضرب من العنف والإرهاب والتخريب. الصمت العربي المريب. الصمت الدولي الجائر. إن أقسى مشاهد ما يعانيه هذا الشعب المظلوم، لم يحرك ساكنا في ضمائر متحجرة ، فقدت مساحة شاسعة من أحاسيسها ومشاعرها الإنسانية. ويومها أدرك الشعب الفلسطيني أنه قد ترك لرحمة ربه.
وبرغم الأجواء العربية والدولية المحبطة، وتحديدا مواقف الولايات المتحدة الأميركية المنحازة قلبا وقالبا لإسرائيل، وفي ظل التعنت الإسرائيلي على الإلتفاف على الحقوق الفلسطينية وإنكارها جملة وتفصيلا، لم يكن بد للشعب الفلسطيني من أن يشد رحاله إلى المحطة الرابعة في رحلته الحزيرانية المأساوية. يومها فرض عليه خيار المقاومة الشرعية لانتزاع حقوقه، والذي تمثل في انتفاضته الثانية التي نسبت إلى الأقصى.
لم يكن أمام الشعب الفلسطيني إلا الرد على التحديات التي استهدفت مجمل وجوده على أرضه التاريخية، فخاض غمارها وحيدا في ظل مواقف عربية فقدت عنصر الوقوف القومي، مضيئة النور الأخضر للحكومات الإسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي لتصعيد ممارساتها المتمثلة في قضم الأرض الفلسطينية والتوسعين الأفقي والرأسي في عمليات الإستيطان، والإصرار على رفض تطبيق القرارات الشرعية الخاصة بالحقوق الفلسطينية، وفرض سلام بمقاسات ومواصفات إسرائيلية على الفلسطينيين، يكون لأمنها فيه مكانة الصدارة والأولوية.
في حزيران الثالث والأربعين، وها هو الرابع والأربعون قد بدأت أولى أيامه، تتأكد حقائق ثابتة على أرض الواقع. أولاها أن الشعب الفلسطيني لا يمكن قهره إلى الدرجة التي عندها ينسى ما له من حقوق، كما لا يمكن كسر شوكته أوإذلاله أو إفقاده هذه المناعة المدهشة التي يواجه فيها أعتى التحديات وأشرسها.
عربيا، إن سياسة التخلي عن كثير من الثوابت القومية وأبسط أشكال التضامن العربي، والتشبث عن ضعف "بخيار السلام الإستراتيجي"، إن كل ذلك قد أدخل العالم العربي في مرحلة انعدام الوزن على كافة الصعد. إن المحصلة هي ما نراه ونعيشه من حالات تشرذم وانقسام وتعاد في الصف العربي.
ويقينا إن سياسات التقوقع القطري التي تنتهجها أنظمة الأقطار العربية السياسية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ما آل إليه مآل العالم العربي من ضعف وعجز. وكثيرة هي القضايا العربية العالقة إلى جانب القضية الفلسطينية التي فقدت مكانتها المتقدمة على الأجندات السياسية العربية. وكثيرة هي القضايا العربية العالقة إلى جانب القضية الفلسطينية التي فقدت مكانتها المتقدمة على الأجندات السياسية العربية.
ان حزيران يختزن في طياته ذكريات أليمة وتداعيات خطيرة أفرزت الكثير من الإنتكاسات العربية على صعد شتى وما زالت. كما أنه يؤكد على حقيقة لا يستطيع أن يتهرب أحد منها وهي أنه مسؤولية عربية مشتركة يتقاسمها العالم العربي أنظمة وشعوبا. وهو وإن تقادم الزمن عليه لم يصبح بعد "فعلا ماضيا" بل هو حاضر ويزحف على ما يبدو نحو المستقبل. علاوة على أنه لا يخص قطرا عربيا بحد ذاته، بل هو غمامة سوداء تظلل العالم العربي شرقه وغربه شماله وجنوبه، وتدمغ تاريخه بالهزيمة.
كلمة أخيرة. إن مسيرة الشعب الفلسطيني المريرة والشاقة عبر محطات أفرزها ثلاثة وأربعون حزيرانا ، ومن قبلها تسعة عشر أيارا لم تنل من صموده ورباطة جأشه وإصراره على الهدف المتمثل في وضع حد نهائي لاحتلال وطنه وتحقيق منظومة أمانيه الأخرى. وقد ظل صاحب نفس لا تقوى على إخماده أعتى التحديات وأشرسها، كونه تجذرت في جوارحه عقيدة متوارثة مفادها أنه صاحب حق مشروع.
وإذا كان حزيران بالنسبة للشعب الفلسطيني يثير ذكريات مؤلمة وحزينة، فهو بالتالي ما زال يشعل نارا مقدسة في أجياله، وإصرارا على استكمال المشوار مهما طال. وهو في نفس الوقت محطة يقف عندها كل عام يستخلص منها العبر المتمثلة بالتمسك بحقه مهما كان الثمن.