نخب يحتملها السيل

الطرب لأصوات الوعيد والتهديد

زهير سالم*

[email protected]

 مقال أخير وصل إلي يحمل عنوان (انتهت الحقبة العسكرية الإسرائيلية). كثير من رجال النخبة العربية يطربون اليوم لأصوات الوعيد والتهديد  تصدر عن رؤساء وزعماء ضد العدو الصهيوني..

 يجلس واحدهم في صدر مجلسه، وقد التف حوله رهطه تلامذة وأتباع فيذكر بانتشاء ما قاله الرئيس أو الزعيم ويعلق: (حاجة تفتح النفس) بتعبير الأخوة المصريين، أو هذا هو الموقف القومي الرجولي بلغة العرب الفصحاء. رجالات العلم وثقافة ومحترفو إصلاح وسياسة انتهوا أشبه بالمطيّب يرافق المغني الشعبي.

 ويحمل طبالون محترفون طبلهم خلف أولئك وهؤلاء: ليزيدوا من حدة الحمى الجماعية التي تجعل الناس يمعنون في ثرثرتهم (فوق النيل) أو (فوق الفرات). يعيدون تجربة التحليق بالجماهير على أجنحة الكلام، الخطابات والتصريحات والتعليق على الأنباء. دون التفكر في خطورة التحليق على جناحي كلام لا أحد يدري حجم نصيبه من الجدية أو من المصداقية أو منهما على السواء.

 ليس لنا أن نعترض على خطاب رسمي أو شعبي يثير الحميّة، ويرفع المعنويات، ويبعث الثقة في نفوس الناس شريطة أن نكون قادرين على تلمس قسمات المصداقية والجدية في مفاصل هذا الكلام. جميل ما يصدر عن الرئيس أحمدي نجاد بشأن دولة العدوان الصهيوني. وجميل ما قاله له وليد المعلم وزير الخارجية السوري بأن جواب أي عدوان صهيوني هذه المرة سيكون مختلفاً. وأجمل من هذا و ذاك ما يرفع به صوته السيد حسن نصر الله وهو يقول: المطار بالمطار، والمدينة بالمدينة، والحي بالحي، والسفينة بالسفينة. كل ذلك جميل شرط ألا يكون هذا الكلام طيراناً على جناح الوهم. نؤكد أننا هنا لا نشكك ولا نخذل.

 لقد سبق لأبناء جيلنا أن حلّقوا عاليا على أجنحة الوهم، وهم الزعامات العربية، ثم الهويُّ في الوادي السحيق الذي حدث بعد السابعة والستين. تلك الأيام التي كانت فيها الجماهير والنخب العربية هائمة ببذل الولاء والتأييد والتصفيق. لم يكن أحد، في ذلك الزمان كما في هذا الزمان،  معنيا بمقارنة الحال بالمقال، أو بالبحث عن مصداقية القول ومقتضياته، أو تفسير قوله تعالى ( لم تقولون ما لا تفعلون). النخب العربية لم تكن تدرك، وهي اليوم لا تريد أن تدرك،  أن للقول القاصد الجاد مقدمات ومقتضيات. وأن قادة مثل شمس بدران وصلاح نصر ليسوا صناع نصر أبدا.

 هل اشتاقت أسماعنا في زمن اليباب العربي إلى معازف أحمد سعيد ( اسمعوا يا عرب..)، هل أحسسنا بالظمأ إلى حديث قائد أطل علينا من إحدى شرفات القاهرة ليخبرنا بأنه مستعد لأزالة إسرائيل في ثمانية وأربعين ساعة. فيجيبه رفيق من دمشق في خطاب مشهود بأنه مستعد لإزالتها في أربع وعشرين ساعة.

 بعد ذلك الدرس البائس والأليم أجمّت الأمة العربية وصمتت، ولم يعد أحد من قادتها ولا من نخبها يقارب هذا الخطاب، حتى استيأست النفوس، وتشققت القلوب، ها نحن اليوم نطرب للخطاب الظاهرة من جديد.

 لا نطالب القادة الذين يرفعون أصواتهم في مواجهة العدو بالصمت، بل نطالبهم أن يعطوا هذا الخطاب الضروري، والذي تبقى الأمة والجماهير في أمس الحاجة إليه، حقه. أن يرتفعوا إلى مستوى الكلمة التي يطلقونها. والشعار الذي يرفعونه.

 وبالمقابل فإن المطلوب من النخب العربية والإسلامية، أن تكون أكثر رصانة وأكثر ثقلاً في مجلس الطرب هذا الذي يلعب بالرؤوس ويستميل القلوب. المطلوب من هذه النخب أن تتفحص مفاصل الخطاب، وأن تتوقف عند سياقاته وحقائقه ومآلاته. فجماهير الأمة لا تتحمل صدمة أخرى بعد سياق الصدمات من السابعة والستين مرورا بسقوط بغداد، والحصار العربي على غزة العزة والأمجاد. جماهير الأمة لا تتحمل بعد أذى أكثر من أذى أسنان نتنياهو أوليبرمان وهي تقضم القدس قضمة بعد قضمة، وتجوف الأقصى، وتذهب بكل شيء اسمه فلسطين...

 الذي يريب في هذا الخطاب الجماهيري المستعلي والحامي ليس فقط منطلقاته وآفاقه في خنادقة الأنانية الضيقة هنا وهناك وهنالك، وإنما أيضاً مجيئه معلقاً على شروط فاتت متعلقاتها. فالوجود الصهيوني في أصله وفرعه عدوان. وكل نفس يتنفسه غاصب من فضائنا سرقة في وضح النهار. فهل بعد هذا العدوان يبقى مبرر لتعليق وعيد أو انتظار مزيد.

واهاً لطواحين الهواء ثم واهاً

              

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجي

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية