هيمنة الثقافة وحريّة التعبير
أسعد أبو خليل *
هناك شيء مقيت في الثقافة العربية الرسمية هذه الأيام. هناك نزعة غير مستترة لتقييد حرية التعبير وشلّها والتفكير باسم الليبرالية، وحتى باسم حرية التعبير. ليست النزعة فريدة في تاريخ أساليب التسلّط المتنوّعة في القرن العشرين، لكنها ربما كانت قد بدأت أو تجلّت وتجسّدت في لبنان في ما كُتب من خطب لسيّد المنابر الرمضانية سعد الحريري أثناء انتخابات الشمال والبقاع (تلك الانتخابات التي أتت بإرادة وإصرار تيري رود لارسن ـــــ مفوّض الإدارة الأميركية لدى الأمم المتحدة). عندها، بدأ سعد الحريري الحديث عن منع أفكار وأصوات وآراء ووصمها، لأنّها، بحسب المفكّر نفسه، تتساوى مع القتل والإجرام. فالصوت والرأي الخطأ، يتساوى مع فعل القتل والاغتيال، ويصبح المُقترع والكاتب البريء (قانوناً وأخلاقاً) متّهماً بالجرم، وتجب ملاحقته وإسكاته اذا لم يُماشِ آل الحريري في خططهم في لبنان. وقد ذهب بيان لـ14 آذار أخيراً إلى حدّ تقديم طلب رسمي لمقاضاة من يجرؤ على «التحريض على التظاهر» (كأنّ حق التظاهر يستقيم من دون تحريض لحشد المتظاهرين)، مع أن اسم 14 آذار مأخوذ من تظاهرات عرمرمية طائفية مشهود لها، كما أن السلالة الحاكمة في لبنان امتهنت التحريض على التظاهر (الطائفي) لمدة سنتين متواصلتين (ولم يعدّ جهاد أزعور يومها جردة بالضرر الاقتصادي الذي لحق لبنان من جراء احتكار الساحات العامة والشوارع والحارات من أجل إهراق الدموع ـــــ المدفوع في جزء منه على الأقل).
أدعياء الليبراليّة
هذا الاتجاه لمنع النقد وتحريمه (ومساواته بالقتل والاغتيال إن لم يتفق مع أهواء الحكومة) ليس جديداً بالطبع. كل الأنظمة التسلّطية عبر التاريخ لجأت إلى تخوين وتجريم من يُعارض ومن يخالف ومن يعترض، وهذا أسلوب الانظمة المُكرّس في المنطقة، أسلوب تلك الأنظمة التي تنضوي في ما يُسمّى بـ«الحلف السوري ـــــ الإيراني»، وتلك التي تنضوي في ما يجب أن يُسمّى «الحلف الأميركي ـــــ الإسرائيلي ـــــ السعودي»، وأن أخفوا الجزء الإسرائيلي في التحالف، مع أنه ركن أساسي، لكن حزب الله لا يجرؤ على الإقرار بذلك خشية الإضرار بالتفاهم الخبيث بين السعودية وإيران، وهذا التفاهم كان أساسياً في تهدئة الوضع في العراق ليهنأ بال الاحتلال الأميركي (الذي لا يريد إلا منع العنف، كما أفتى بذلك (الصديق) اليساري السابق بشّار حيدر في جريدة اليسار السابق المملوكة من أمير اليسار السابق، خالد بن سلطان).
حازم صاغية ـــــ الذي دعا المسيحيّين في لبنان إلى تأييد الحريري والسعودية، لأن البديل هو بن لادني ـــــ مع أن الشعب العربي يبدو نابذاً للاثنين معاً، والبديل الثالث موجود ويجب أن يكون مُرتجى ـــــ دعا مثلاً كُتّاب جريدة «الأخبار» إلى الامتناع عن نقد السائد وعن إزعاج الحكومة حتى لا يساندوا القتَلة في لبنان. وهو كان يقدّم النصيحة من باب الإرشاد والموعظة الحسنة، ليس إلا لأنه حريص جداً على سمعة خصومه السياسيّين وصدقيتهم، يا للحنان. وهذا المنطق استُعمل في أواخر القرن الثامن عشر عندما سنّت الحكومة الاميركية قانوناً يمنع انتقاد، أو »التعبير عن احتقار أو عدم احترام» ـــــ كما تضمّن نصّ القانون آنذاك ـــــ نحو أي مسؤول حكومي أو أي عضو في الكونغرس (يُراجع هنا الكتاب الجديد لأنتوني لويس عن تاريخ (تقييد) حرية التعبير في أميركا). صحيح أن فريق الحكم مهدّد بالاغتيال، مثلما يُهدِّد الاغتيال الفريق الحاكم في أكثر من بلد في العالم. لكن هل يعني هذا أن الشعب يجب أن يتوقّف عن انتقاد الحاكم مخافة المشاركة في القتل إذا كان الحاكم مهدَّداً؟ وهل يعني هذا أنّ الحاكم المعرّض للخطر يجب أن يكون في منأى عن النقد؟ وهل هذا المنطق إلا محاولة من السلالة الحاكمة في لبنان للحكم من دون إزعاج أو اعتراض؟ طبعاً، إنّ هذا المنطق يسمح لكلّ طاغية بمنع نقده لأنّه مهدَّد، وكل طاغية هو بالفعل مهدَّد.
وإذا كان الانتقاد يتساوى بالقتل ـــــ ويبرع أقطاب 14 آذار في إعادة الاستشهاد بتصريحات أطلقها خصومهم ضد سياسيّ معيّن بعد اغتياله، وذلك للربط بين تصريح معيّن، مهما كان حادّاً أو مبتذلاً، وفعل الاغتيال، للمساواة بين الانتقاد والجريمة ـــــ فلتُمنع الصحف باستثناء «الشرق الأوسط» و«المستقبل» و«النهار». حتى زياد الرحباني أصبح متّهماً. لكن ليس الجميع من طينة ذلك اليساري السابق الذي يحلم بخلافة جورج بكاسيني في التهليل لآل الحريري، لعلّ هاني حمود يطري عليه لأنه يحترف التشهير بكل من يجرؤ على رفع الصوت ضد سمير جعجع أو سعد الحريري... لكنه يجب أن يكون مشغولاً بناءً على همومه الدينية والطائفية المستجدة بتطويب يعقوب الكبوشي وبإطلاق النعوت والأوصاف الشنيعة على طائفة بحالها. حازم صاغية
هناك أيضاً خطر حقيقي داهم في الإعلام والثقافة في العالم العربي. فتعدد وسائل الإعلام والمحطات الفضائية يمكن أن يخدع الرأي العام ويعطي صورة مزيفة عن التعددية في الوقت الذي تعاني فيه وسائل الإعلام العربية وحدانية في التمويل قاتلة: عائلة حاكمة واحدة، مع متفرّعاتها وشركائها وعدلائها (إذ إن نصف رجال العالم العربي عدلاء لملك السعودية الذي كرّست له مجلة «تاريخ العرب والعالم» عدداً خاصاً تضمّن تقريظاً من الجميع، من سليم الحص إلى نبيه بري إلى... طبعاً، فؤاد السنيورة، حتّى لا ننسى إبراهيم شمس الدين الذي تريد عائلة الحريري أن تنصِّبه زعيماً على الشيعة في لبنان، مع أن باسم السبع يسكن في قلوب كل اللبنانيين واللبنانيات لشدة سحره الجماهيري) تسيطر على أكثر من 95% من وسائل الإعلام العربية الفنيّة منها والفتاوويّة، هذا من دون أن نحسب وسائل الإعلام الحريرية المتحالفة مع تلك العائلة المالكة. والمصالحة السعودية ـــــ القطرية (كنتُ أدعو للخلاف بين الدولتين بطول العمر أو حتى بالأبدية) ستزيد من تقييد المُتاح في وسائل الإعلام العربية، أو ما يسميه فخري كريم «النقد المُباح» ـــــ هو يقرّر وحده ما هو المُباح من النقد وإلا شهر تقارير سريّة واتهامات ـــــ على طريقة الصحافة الصفراء ـــــ بحقّك، وقد اتهم في حديث إلى محطة العربية ـــــ وهي تستضيف وتكرّم كل التائبين عن الشيوعية ـــــ كل من ينتقده باعتناق البعثية الصدامية وتأييدها (وهو يسمح لنفسه بأن يكون من مؤيدي البعثيّة الأسديّة، إذ يحق له ما لا يحق لغيره من دعم التسلّط في العالم العربي). وبالمناسبة، لم يتنطّح أي من أدعياء الليبرالية في الإعلام العربي للردّ على هذا المفهوم الستاليني أو حتى الغوبلزي بعد، لكن »ملحق النهار» مشغول بغياب الحرية في بلد عربي واحد فقط، إذ إن بوش حرّر لهم كل العالم العربي، ولم يبقَ إلا الشام بانتظار التحرير البوشي. ثم مَن يُحدِّد المُباح، ومَن يحدِّد المُحرَّم؟ هل نترك الأمر لهيئة الأمر بالمعروف في ممالك القهر العربية؟ أم أن جيش الاحتلال ومكتب دعاية الاحتلال في دبي هو الذي سيقرر من الآن فصاعداً حدود المسموح؟ وعليه، مرّ خبر وفاة المناضل العظيم جورج حبش مرور الكرام في الصحافة العربية، باستثناء مقالات الشماتة التي مثّلها خير تمثيل مقال لحازم صاغية في جريدة الغد الأردنية (وهي، بالإضافة إلى نشرها مقالات اليمين العربي، تزوّد القراء بملاحق خاصة بصور ملك الأردن وعائلته، وذلك تعميماً للفائدة).
ردّ على تساؤلات عباس بيضون
ومقالة صاغية تصلح لأن تكون مقدّمة لردّي على تساؤلات مشروعة طرحها عباس بيضون في «السفير». فصاغية يمثّل التناقضات التي يزخر بها الإعلام العربي، وهي تعبر عن مكنونات انتقادي الذي يبدو أنه فات بيضون. فصاغية يسخر من حبش في جريدة تبجّل الملك الأردني وتعظّمه من دون تحفّظ. واستغلّ صاغية فرصة وفاة حبش للدلالة على صوابية الحاكم الأردني وحكمته، إلى درجة أنه رأى أن سكن حبش في الأردن انتصار للخيار الأردني، مع أن حبش كان يتنقّل بين دمشق وعمّان، وإن كنّا لا نعتقد أنّ صاغية سيعدُّ أيّام إقامة حبش في دمشق دليلاً على حكمة الحاكم السوري. ولفخر حبش أنه اعتُقل في الأردن وفي سوريا في حياته. والمقارنة الصارخة تكمن في عدم ملاحظة صاغية أن جريدته الأردنية أشارت إلى سنوات عمر الملك (في عدد خاص عن عيد ميلاده) بـ46 «شمساً تنير المستقبل». يبدو أن شموس الملك الأردني باتت تنير طريق صاغية، وغيره من التائبين اليساريين. هذه الأسئلة ضرورية للردّ على مجموعة من الأسئلة طرحها عباس بيضون في مقالته عن حرية الفكر. من حقه طبعاً أن يطرح أسئلة مشروعة عن بعض نقاط وردت في مقالة لي قاسية عن الثقافة وصنعها في لبنان. لكن بيضون أساء فهم منطلقاتي النظرية. إن شكواي عن عدم عفوية الذوق أو فطريته (أظهرت دراسة جديدة أن نسبة الكافيين في عباس بيضونقهوة «ستاربكس» ـــــ وهي شركة ظالمة لمزارعي القهوة الفقراء، بالإضافة إلى غرام صاحبها بإسرائيل ـــــ هي نحو ضعف النسبة الموجودة في القهوة العادية في مقاهٍ مشابهة، ما يدفع المستهلك إلى الإدمان المفرط لمقهى وشارة صنع معيّنة) لا تعني أن هناك بديلاً مُحبَّذاً للذوق، لكن يجب أن نُخضع الذوق السائد للنقد والمساءلة، وهذا ما أزعج القيّمين والقيّمات على صنع الثقافة في البلد المنكوب. اعتادوا واعتدن المديح والتملّق والمسايرة المتبادلة وإنتاج شعراء التكسُّب، وإن كانت «ملحمة» يحيى جابر عن رفيق الحريري ستتمتّع بخلود فاق خلود ملحمة هوميروس (أعيد نشر ترجمة سليمان البستاني لها، وإن كانت الترجمة تعاني من قاموسية أسقطت الكثير من المعاني). يتقاطرون إلى دبي ليوهمونا أن الثقافة تنبع من هناك، من أحد قصور حاكم دبي. يتستّرون عن الرقيق المستورد هناك، وعن استيراد الجيوش، عن تعدّد الزوجات وتسليع النساء.
وأنا لا أريد ان تسود هناك أية معايير أو اعتبارات أو أذواق، وإن سادت فسأسعى، لو كان الأمر بيدي، إلى نقدها، لا بل إلى تحطيمها. فعملية الهدم بنّاءة في حد ذاتها، كما كان مايكل باكونين يقول (تُراجَع السيرة القيّمة للمؤرخ المعروف اي. ايش. كار. التي لم تجد طريقها إلى العربية، مع أن سيرتي الوليد بن طلال ومحمد بن راشد متوافرتان بعدد من اللغات، ومسجّلتان على كتب صوتيّة. زيدوهم جهلاً، زيدوهم). أنا كنت فقط، في مقالتي عن صنع الثقافة في لبنان، أعترض على الحدود الضيّقة للنقد «المُباح»ـــــ لنستعمل تلك الكلمة الفضيحة التي وردت في دعوى فخري كريم على «الآداب»: وهذا يُفسّر الاعتراض على نقدي لشعر شوقي أبو شقرا، ويفسّر أيضاً اعتراض، لا بل مقاضاة، فخري كريم، ضد سماح ادريس و«الآداب». لو أنني انتقدت، مثلاً، بدوي الجبل، لما كان أحد سيلاحظ. كنت أحاول أن أشير إلى ما هو مُهيمِن في الثقافة السائدة، من أجل كسر الإجماع، أو خدش الأذواق السائدة والمفروضة. أما السؤال الجدي عن من سيتكفّل بصناعة الذوق الشعري، فالسؤال مردود، لأننا نعيش في ظل جور طبقيّ قاس، والأمير الوليد بن طلال هو الذي يُحدّد، لا أنا. وأنا لا أدعو إلى فرض ذوق واحد أو معيّن، بل أدعو إلى الاعتراض على فرض ذوق واحد لا غير. أنا أدعو إلى اقتراح أو طرح في السوق، أذواق بديلة أو مغايرة أو متناقضة، من أجل تكوين اختلاف أو حتى صراع فكري في «سوق الأفكار»، كما سماها جون ستيوارت ميل، ومن أجل الاستفزاز، وهو غائب في ظل احتكار رأس المال.
ويقول عباس بيضون إن «الخفة والمجانية هما أيضاً علامتا تحرر». هذا صحيح، إذا اتفقنا على تحديد تعريف التحرّر. والخفة، وهي تتفق مع منطلقاتي الفوضوية فلسفياً وسياسياً، غائبة عن ثقافتنا أيما غياب. والخفة في اتجاه واحد فقط والوحدانية في السخرية هي وجه آخر من الاحتكار. الخفة ليست خفة إذا تعاملت بتقديس مع طرف معيّن، وخصوصاً إذا كان ذلك الطرف ذا شبكات أخطبوطية من التملّك الإعلامي. بكلام آخر، يمكن أن يكون كلام صاغية الساخر عن الثوري جورج حبش أكثر صدقيّة أو فعاليّة لو كان مقروناً بالسخرية من «شموس» الملك الأردني التي «تنير المستقبل» الأردني، وفقاً للجريدة الليبرالية نفسهاـــــ بالتعريف العربي الرسمي العجيب. الخفة أن لا نُخضع كل الأفكار لمجموعة من اتجاه واحد فقط، للنقد والسخرية والنقض والهجاء. الخفة أن نسخر من ميشال عون، كما تفعل صحف السعودية والحريري بصورة يومية، ومن تيار المستقبل أيضاً ومن كل أهل السياسة في لبنان، لا أن تتركز الخفة في ركن واحد يتحدّد في قصر قريطم. هل هناك من يدعوك إلى السخرية والخفة أكثر من سعد الحريري؟ هل كان يمكن رجلاً بقدراته ومحدودية مواهبه أن يُنتخب مختاراً في ضيعة لو لم يرث ثروة؟ والخفة هي عملية من الجدية بمكان، وتستحق الدراسة الجادة، وهذا يُفسر لماذا كتب فرويد دراسة في النكات،فخري كريم لأنها تعبير صادق عن المكنون، أو عن العقل الباطني. وكان الجاحظ أكثر جديّة عندما كان يعبّر عن نفسه هازلاً. وأنا لم أدعُ إلى فرض تعبير فني وثقافي مباشر وثقيل (وهل هناك أكثر ثقلاً ومباشرة من رسوم بيار صادق مثلاً؟)، كما يقول بيضون، لكنني أشير إلى أن الثقافة المفروضة هي نفسها ثقيلة ومباشرة، مهما كثُرت مزاعم التنوّع. هي ثقيلة مثل ملحق النهار، الذي يريد لنا أن نتمتع بحسّ ليبرالي يتألم لمعاناة المساجين السياسيين في سوريا ـــــ وهم بالفعل يتألمون من وطأة نظام تسلّطي لا جدال في تسلّطه وفي قمعه للمثقفين والمثقفات ـــــ ويغفل عن ملاحظة معاناة المساجين السياسيين في باقي الدول العربية التي ـــــ يا للصدفة! ـــــ تتمتع بعلاقة تحالف وثيق مع الحريرية والحكومة الأميركية. وإلا فكيف يُفسّر صمت الإعلام العربي، وصمت أدعياء الليبرالية بصورة خاصة، عن قطع الرؤوس الدوري في الساحات العامة في السعودية؟ ولماذا لم يُشِر أي من أدعياء حرية الرأي في لبنان إلى معاناة مدوّن سعودي يقبع في واحد من سجون الأمير نايف الذي لا تقل منجزاته في التعذيب عن المنجزات البعثية؟
وأنا لا أشترط اعتناق الماركسية ـــــ اللينينية ممّن يريد أن يلوّح بصور غيفارا، لكن أشير إلى مفارقة صارخة في أن نسمع كلاماً عاماً عن غيفارا ـــــ فقط لأنه بهيّ الطلعة ولأن جبران تويني علّق صورته في مكتبه ـــــ من غلاة اليمين الرجعي في لبنان. أما إنني لم أحتمل «هرطقة» من منصور الرحباني، فأنا أعترف بأنني مذنب هنا، لأنني لا أحتمل كل ما يصدر عن منصور الرحباني، وإن كنت لا أرى أي إنتاج له «هرطقة»، وذلك احتراماً مني... للهرطقة. وأنا أشاطر إعجاب منصور الرحباني بصحن الحمص، وأُضيف كلمة تقدير عن صحن البابا غنوج أيضاً. وأنا لم أفهم كيف حشر عباس بيضون كلامه العنصري في ذكوريّته عن بناظير بوتو في سياق كلامه عن حرية الفكر. له أن يُعبّر كما يشاء، ولي ولغيري أن يلاحظ وأن ينتقد وأن يحلل تضاعيف العنصرية الذكورية في الصحافة البطريركية، شرقاً وغرباً. وكلامه عن «طلّة» بوتو كان يمكن أن يكون «خفيفاً» لو أنه كتب مقالات أخرى عن قامة نقولا فتوش وطلّته، مثلاً. ونقدي لبعض نماذج أقطاب أو صانعي الثقافة في لبنان لم يكن، كما افترض بيضون، من باب الاعتراض على «غياب السياسة»، بل من باب الاعتراض على وجود ثقيل، وثقيل جداً وفظّ، للسياسة.
إن تجاهل العدوان الإسرائيلي على لبنان هو سياسة، لا «اللاسياسة»، إلا إذا أصبح التماهي مع المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي ـــــ أنا كما أكرر من عتاة المؤمنين بنظريّة المؤامرة خلافاً لحضاريي ثورة الأرز والترمس ـــــ تعبيراً عن «اللاسياسة». وهذا ما عناه مفكر أميركي في حمأة الحرب الباردة في كتاب له عن «نهاية الأيديولوجيا». كان يعني أن أيديولوجيا الرأسمالية الأميركية هي «اللاأديولوجيا»، وأن كل ما عاداها دخل في باب الأيديولوجيا المنبوذة. وهذا يُفسّر طريقة استعمال مصطلح «الدعاية السياسية» في هذه البلاد، إذ إنه يُستعمل للإشارة إلى كل ما يصدر معاداةً لمصالح الولايات المتحدة، كما يستعمل مصطلح الإرهاب بانتقائية تعفي إرهاب إسرائيل والاحتلال الأميركي من وصمة الإرهاب.
إن الكلام على حرية الفكر في ظل ثقافة تسلّطية يبدو ترفاً فكرياً، لأن هناك من يتضوّر جوعاً في العالم العربي، وهناك من لا تصله نقاشات عن حريّة الفكر، ومن لا تعنيه إن وصلته. كما أننا مشغولون (ومشغولات) بما نرى على الشاشات: «الدم صار ماءَ، يُراقُ كل يومْ»، كما قال أمل دنقل. لكن «الدماء ليست مجرّد عواطف»، كما قال عظيم الثورة الفلسطينية جورج حبش (ج.ش.ت.ف، حول قضايا الثورة، 1970، ص.13).
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا