الرأي والرأي الآخر

م. محمد عادل فارس

[email protected]

هذا التعبير من المصطلحات التي شاعت وانتشرت منذ سنين، وصار لها بريق وجاذبية.

ويُقصد عادةً بـ"الرأي" ما تراه جهة ذات نفوذ سياسي أو اجتماعي، وتملك نوعاً من القوّة لإنفاذه. أما "الرأي الآخر" فهو ما يراه طرف آخر ويُريد أن يُهيّئ له فرصة ليصل إلى الجمهور فيكون منافساً لذلك "الرأي".

وقد يُظنّ أن مسألة "الرأي والرأي الآخر" قضية مستجدة، لم تكن معروفة في العصور السالفة. والحق أنها كانت موجودة دائماً، وإن اختلف أسلوب التعبير عنها، وطريقة التعامل معها، فالناس ما يزالون يختلفون وتتباين آراؤهم في القضايا الفردية والجماعية منذ آماد بعيدة، وسيظلّون كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها }ولا يزالون مختلفين{. سورة هود: 118.

والثقافة الغربية التي قامت على أنقاض الصراع مع الكنيسة وما تفرضه من آراء تُضفي عليها القداسة، قطعت شوطاً بعيداً في الاتجاه المقابل. فليس – في هذه الثقافة – شيء مقدس، وليس هناك عقيدة تعلو على التفنيد والتسفيه، بل أصبحت الأمور كلها على مستوى الآراء ووجهات النظر، يحق لكل فرد أن يقول فيها ما يحلو له، ويحتكم الناس في نهاية الأمر إلى رأي الأكثرية، ولو نظرياً، ويبقى أمام الأقلية حق التعبير عن وجهة النظر الأخرى أو عن "الرأي الآخر".

أما في المجتمعات الشرقية فقد كانت السمة العامة أن القويّ يفرض رأيه، ويمنع الآخرين من حقّ الاعتراض، فإذا تكلّم الأب في البيت فعلى الأولاد الإنصات والطاعة، وإذا أمر الحاكم بشيء فعلى مجلس الشعب أن يوقّع على شرعية أمر الحاكم...

في الغرب حدث العدوان والتجاوز للمقدسات، وفي الشرق حدث التعسف ومنع الناس من التعبير عن آرائهم في مسائل هي من مجال الرأي، وأضيفت القداسة على تصرفات بشرية تُخطئ وتُصيب.

من هنا كان لابد من بيان لما ينبغي أن تتداوله الآراء ووجهات النظر، وما يكون مقدّساً حقاً، ولا يجوز أن يُتطاول عليه.

فإذا كانت مسائل كالسياسة والتجارة والإدارة وأساليب التربية... مما يكون لخبرات الناس فيه دور كبير، ويتسع بالتالي إلى الآراء المتباينة، فهل يصحّ أن يدخل في هذا الميدان عقيدة الأمة وقيمها الكبرى، فتكون الدعوة إلى الكفر الصّراح، والنيل من الذات المقدّسة، والترويج للفواحش... من مجالات الرأي والرأي الآخر؟!

إنه عندما تكون المسألة رأياً لفرد أو لجماعة، فمن حق أي فردٍ أو جماعة، إذا ملك مقوّمات الخوض في المسألة، أن يُدلي بدلوه، ويبدي رأيه. أما إذا كانت المسألة عقيدة من عند الله، أو حكماً من أحكامه، ثابتاً في كتابه أو على لسان نبيه r، فقد تجاوزت المسألة أن تتدخل فيها الآراء. نعم يبقى في هذه الحال، لأهل الاختصاص، أن يتكلّموا في مدى ثبوت النص، إذا كان من نصوص السنّة، أو مدى دلالته، إذا كان يحتمل دلالات شتى.

ولنقرأ قول الله تبارك وتعالى: }وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أن يكونَ لهمُ الخِيَرَةُ من أمرِهم{ سورة الأحزاب: 36. وقوله سبحانه: }يأيها الذين آمنوا لا تقدِّموا بين يديِ الله ورسوله واتقوا الله. إن الله سميع عليم{. سورة الحجرات: 1. فليس لمؤمن أن يبدي رأياً يخالف ما أمر الله به، وليس له أن يتردد في قبول حكم الله في أي مسألة.

ويبقى وراء ذلك دوائر واسعة للرأي فيما ليس فيه حكم ثابت، وفيما سكت عنه الشرع، وفيما ارتبط بأعراف الناس وعاداتهم.

فما يحتمل اجتهادات شتى، فلأهل الاجتهاد أن يجتهدوا فيتّفقوا في اجتهادهم أو يختلفوا.

وما سكت عنه الشرع يبدي الناس آراءهم فيما يرون فيه المصلحة.

وما بُني على العُرف والعادة روعي فيه تغيّر أعراف الناس وعاداتهم عبر الأوطان والأزمان، ما لم يعارض ذلك مبدأ شرعياً أو نصّاً شرعياً.

وبذلك كله يبقى للمقدّس قدسيتُه، ويفسَح للرأي ميادين واسعة فيما وراء ذلك.

ويحسن هنا التنبيه إلى خطأ في التعبير يرد على الألسنة، بحسن نية أو بسوئها، وذلك قولهم: هذا "رأي الشرع"! إن المسألة إذا كانت من الشرع لم تَعُدْ رأياً. إنها حكم الله }ألا له الخَلْقُ والأمر. تبارك الله ربُّ العالمين{ سورة الأعراف: 54.

فالله سبحانه يخلق ويرزق، ويُحيي ويميت... ولا شريك له في ربوبيته... وهو كذلك يشرّع ويأمر وينهى ولا شريك له في إلاهيته.

ونخلص مما سبق إلى أن الرأي إنما يُستمع إليه، ويصحّ طرحه، إذا كان في أمور يجوز الخوض فيها، وهي قابلة لتعدّد الآراء...

غير أن بعض الناس يُريدون تمييع الحدود بين ما هو مقدّس وما ليس مقدّس، وبين ما يجوز أن يخضع للرأي وما لا يجوز }ويريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً{ سورة النساء: 27.

ومن هذا القبيل يطرح بعضهم قضايا دينية ثبتت بنصوص قطعية ويجعلونها موضوع ندوات أو مساجلات صحفية أو استطلاعات تلفزيونية، يقف فيها المذيع ليأخذ رأي أحد المارّة، ببساطة عجيبة، وتسطيح سخيف للأمور، كأن يسأله عن رأيه في حجاب المرأة، وفي ذهابها إلى المسبح... وعن تعدد الزوجات والطلاق والحب بين الشاب والفتاة خارج إطار الزواج... ليصل إلى نتيجة أن في هذه المسائل آراء متعددة يمكن أن يحسمها استطلاع رأي أو قرار مؤسسة!.

ولربما وُجد من يكتب كلاماً يسخر فيه من الله تعالى، أو من رسله الكرام... بحجة أن ذلك مجرّد رأي! ولو سمع من ينال من شخصه وشخص أبيه لانتفض وغضب واعترض.. وربما رفع عليه دعوى بتهمة التشهير والقذف!!

أفيكون التطاول على الذات الإلهية، والإساءة إلى مشاعر مليار ونصف المليار من المسلمين أهون من التهجّم على واحد من الناس!!.

إن الرأي الآخر يجب أن يكون موضع احترام فعلاً، ولكن أن يكون هذا الرأي في مجال ما يقبل إبداء الرأي، وإلا كان تطاولاً وإسفافاً وإثارة للفتن... نعوذ بالله من ذلك.

لنحترم الرأي والرأي الآخر... ما دام في مجالات الرأي، وأما المقدّسات فلنحفظ لها قدسيتها.

}ولئن سألتَهم لَيقولُنَّ إنما كنّا نخوضُ ونلعبُ، قل: أبالله وآياتِه ورسولِه كنتم تستهزئون{. سورة التوبة: 65.