تهافت دعاوى الإعجاز العلمي في القرآن

د. حمزة رستناوي

[email protected]

هل العلاقة بين العلم و العقيدة علاقة تناقض , أم علاقة تابع و متبوع , أم علاقة قائمة على احترام خصوصية كل منهما.

فالعلم  حقل خاص   يحكمه المنهج العلمي القائم على الاستقراء و التجريب و البرهنة و مجاله العالم المحسوس بذراته و أجرامه و كائناته الحية و غير الحية  و البيئة الطبيعية و الاجتماعية ..الخ

أما العقيدة فهي حقل خاص , تتناول جوانب أخرى بعيده عن اهتمامات العلم, فتهتم بالإجابة على تساؤلات مثل:

 من أين جئنا و لماذا و ما مصيرنا ؟!  العقيدة تقوم على الإيمان بعالم الغيب , و التساؤلات التي تجيب عنها  ليس لدى العلم إجابة "علمية " عنها ,  و ليس ذلك قصورا , بل لاختلاف طبيعة هذه القضايا عما يتناوله العلم و البحث العلمي.

 فالجانب العقائدي للإنسان و الرسالات عموما جاءت لإصلاح الإنسان و المجتمعات و تنمية بذرة الخير و المحبة  فيه , و هي تعمل عملها كضمير جمعيٍّ و حافر ايجابي في الحياة , و هي – أي العقيدة-  في جوهرها دعوة إلى الإيمان الخلَّاق  , و الحرية  و تحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان و كل ما يعتريه من قصور.

*

هل البرهنة على  نظرية فيثاغورث في حساب زوايا المثلث القائم ,  تقع على عاتق العلم أم الدين؟!

و حتى لو عرض أحدهم لإجابة مستقاة من الدين و النصوص المُقدّسة, مع التسليم بخطأ هكذا إجابة لأنها سوف تكون من باب التعسف و التحاذق , فهذه الإجابة لن تكون مقنعة و ملزمة لعموم البشر بدون قرائن نأخذها من حقل العلم .

 و الحقيقة العلمية – مع التسليم بنسبتيها- مُلزمة لكل الناس , و حتى لمن ينكرها بغض النظر عن عقيدته و لونه و لغته,  بل و حتى في حال كونه متخلِّف عقليا,

فالأرض تدور حول الشمس بغض النظر عن رفضنا أو قبولنا ذلك على سبيل المثال.

*

هل هناك بعث بعد الموت؟

الإجابة تقع على عاتق الدين و ليس العلم؟

و حتى لو عرض أحدهم لإجابة بناء على تخمينات و متقمِّصا لغة العلم , فلن يؤخذ كلامه على مأخذ الجد , فالعلم يقوم على التجربة و الملاحظة ,  و هذا خارج إطار البحث العلمي  في المدى المنظور , و الإجابة هي في حقل الدين ..الخ

و سأضرب مثالا ً آخر

إنسان مصاب  بمرض خبيث في مرحلة متقدمة من المرض.

ما الذي يقدمه له الدين ؟

و ما الذي يقدمه له العلم؟ 

من ناحية العلم :  تخفيف معاناة المريض بتسكين وتأجيل العواقب و إطالة متوسط البُقيا على قيد الحياة.

من ناحية الدين : التسليم بحتمية الموت , و الرضا بالقدر الالهي , و التماس الشفاء بالدعاء , و أن يخفف الله عنه,  و أن يميته الله على الإيمان  .

فلكل إجابة منهما مجال فعاليتها و مشروعيتها.

*

بعد هذه المقدمة لنتساءل  هل ثمة مجال للتداخل بين العلم و العقيدة؟!

لا علم بدون المنهج العلمي , فالمنهج العلمي هو الذي مكّننا نحن البشر من تحقيق كل هذه الكشوف و الاختراعات العلمية .

فالعلم ليس النتائج, بل هو طريقة الوصول لهذه الحقائق و منهج البحث العلميِّ,  بما يمكننا من التحقق من هذه النتائج و تصويبها باستمرار.

أما المنهج القرآني فهو يعالج قضايا مختلفة عما يعالجه العلم قضايا تتعلق بالإيمان و التوحيد و عالم الغيب و القيم الأخلاقية و الإنسانية , و هذا حقل له خصوصيته ,و بما يختلف عن حقل العلم

لنأخذ  مثلا الإيمان بعوالم الغيب

فهنا الإيمان  لا يعتمد على المنهج العلمي- الدقيق- ببساطة لأن موضوع الحديث هو الغيب ,  و الغيب قابل للإيمان و التصديق و قابل للإنكار, و هذا خيار شخصي له تبعات دنيوية و أخروية بلا شك "من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر"

و لو كان المنهج القرآني هو نفسه  المنهج العلمي لكان مباحا لنا استخدم المنهج القرآني في إثبات و إنكار موضوعات علمية و هذا ما لم يقم به علماء المسلمون في تاريخهم, بل نجد أن ما حققه العلماء المسلمون تاريخيا و حاضرا كان نتيجة تطويرهم للمنهج العلمي و البحث بأدوات و قوانين العلم و ليس الدين.

فعندما يتعلق الأمر بالعلم علينا قراءة الطبيعة قبل النصوص.

و إذا تعلق الأمر بالدين فعلينا قراءة النصوص , فنصوص القرآن الكريم هي العمود الفقري للدين الإسلامي بما يرتقي لمستوى البداهة. 

 فلا  نطلب من القرآن الكريم أن يكون كتاب علم - بالمعنى الخاص لكلمة علم - فنكون بذلك قد ظلمنا أنفسنا كمسلمين , و تواطئنا في عملية تسهيل  الطعن فيه.

*

هناك علم فيزياء ملزم لكل البشر العقلاء مرجعيته كونية, و العاِلم الجيد هو من يطور و يتفوق في هذا العلم ضمن شروط المنهج العلمي, و لا يوجد علم فيزياء عربي أو فيزياء فرنسي و فيزياء هندي, و لا يوجد فيزياء إسلامية و أخرى مسيحية و أخرى ماركسية ..الخ.

فبغض النظر عن الخلفية للمشتغلين بالبحث العلمي , قوانين الميكانيكا واحدة ,

و ملزمة لهم,  و هي ما تمكِّن البشر من ركوب السيارة مثلا؟

و نحن نبحث عن السيارة الأجود فليس ثمة سيارة مسلمة و أخرى يهودية.

أما في حقل العقائد الأمر مختلف, فلا يوج عقيدة فقط؟

 هناك عقيدة إسلامية و عقيدة مسيحية و عقيدة ماركسية ...الخ

و ضمن العقيدة الواحدة هناك تفريعات مختلفة كذلك

و كذلك اللغات ليس هناك لغة فقط , بل هناك لغة عربية و انكليزية و الخ

*

إذا سلمنا بناء على ما سبق بالفصل بين حقلين لكل منهما خصوصيته. و لكن هذا لا يمنع من وجود علاقة حدودها التالية في النص القرآني نموذجا

أولا ً: حثت الآيات القرآنية على التفكُّر و التدبر في الكون لتأمل عظمة الخالق و قدرته للانهائية فكثيرا ما تنتهي الآيات القرآنية ب" إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون- إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون- أفلا يتفكرون- أفلا يعقلون"

ثانيا ً: حثت الإنسان على العلم و طلب العلم و معرفة القوانين الناظمة للعلم و معرفة أسرار الوجود.

ثالثا ً: الالتزام بالمعايير الأخلاقية و القيم الإسلامية,   لاستخدام مُخرجات العلم و منع اساءت استخدام العلم .

*

و أخيرا لنقف مع قضية الإعجاز العلمي و تراني هنا منزاحا لرأي الإمام الشاطبي

و محمود شلتوت و عائشة عبد الرحمن ..الخ

و أرى أن الإيمان بدعوى الإعجاز العلمي في القرآن  شيء , و الإيمان بالقرآن ككتاب سماوي شيء مختلف و هما ليسا متلازمين.

و يمكننا استعادة أجواء المعركة الفكرية بين الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" و بين د.مصطفى محمود في أوائل السبعينات على صفحات جريدة الأهرام حول الإعجاز العلمي.

إن هذه الدعاوى – دعاوى الاعجازيين- موجودة في شتى العقائد و الملل و ليست حكرا على المسلمين, فهناك عشرات الدوريات و المواقع الالكترونية المسيحية المتخصصة بالإعجاز العلمي في أسفار العهد القديم و الجديد مثلا,  و خير مثال عليها , دعاوى الماركسيين و ادعائهم بأن الماركسية  علم العلوم , حيث درّست الماركسية على اعتبارها علم العلوم في أكاديميات الاتحاد السوفيتي السابق,  فذهبت الماركسية على الأقل بصيغتها الستالينية أدراج الرياح  و بقي العلم .

*

يقول الإمام الشاطبي

"علم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المُراد من الخطاب, فإن كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف, و يتبين ذلك في مسألة عمر :

 و ذلك أنه لم قرأ " و فاكهة و أبا" توقف في معنى الأبّ و هو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية , إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان""1"

و مشهور خبر عمر بن الخطاب مع ضبيع في سؤاله عن أشياء من القرآن لا ينبني عليها حكم تكليفي و تأديب عمر له

فتفسير القرآن الكريم غرضه فهم المُراد من الخطاب فإذا تم ذلك , كان ما عداه تكلّف لا طائل منه و سأضرب مثالين على ذلك  من  أشهر الأمثلة التي يسوقها الاعجازيين

المثال الأول :

"مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"

فالمراد من الخطاب واضح لكل من يلم بالعربية ,  فمن يؤمن بالله بيته قوي متين , و من يشرك بالله و يعبد الأصنام  بيته واهن كبيت العنكبوت, و كون بيت العنكبوت واهن, هو ما يعرفه عموم الناس  من واقع حياتهم , فيستطيع طفل صغير بإصبعه أن يخرب بيت العنكبوت الواهن .

المثال الثاني:

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}....(الأنعام: 125)

فالمُراد من يرد الله هدايته يشرح صدره للإسلام,  فييسره له , و بذلك  يرتاح قلبه, و من يُرد الله له الضلال يعسِّر لهُ , فهو كمن يريد أن يصعد إلى السماء, و هو لن يقدر على ذلك , و في ذلك مشقة و ضيق.

فالصعود إلى السماء عمل شاق بداهة ,يقبض الصدر و مثاله من يتسلق الجبل مقتربا من السماء و هذا مِمَّا يعرفهُ و يسلِّم به عموم الناس  . و لا داعي للتذكير بأن دلالة السماء هنا هي ما يقره عموم الناس من ناطقي العربية اليوم.

*

ما يؤخذ على مقالات الاعجازيين

افتقادها للتوثيق العلمي, و تلك من ركائز البحث العلمي , فبدونها ليس ثمة علم و لا بحث, خاصة أنه – في زعمهم- يتحدّون العلم نفسه.

و يستخدمون عبارات من قبيل" و ثبت بأن المراجع الطبية – و من المعروف أن – و ثبت بالتحليل لدقيق أن- تبين من خلال الدراسات أنه- و قال الدكتور فلان الفلاني – و قال البروفسور الانكليزي فلان الفلاني  لمتخصص في-  و في برنامج علمي في قناة ال bbc – و في مؤتمر علمي في باريس..الخ"

فمن المُسلَّم به أنه في كل علم من العلوم, يوجد كتب مرجعيَّة هي بمثابة حجة في اختصاصها, و يوجد مجلات علمية معروفة جيدا ضمن كل اختصاص علمي تنشر دراسات محكّمة . و ماعدا ذلك لا يؤخذ بها.

و سأضرب مثالا في اختصاصي العلمي "طب الأعصاب"

فأي معلومة أستخدمها أو أي دواء أو إجراء طبي أقوم به , أنا مطالب – علميا و مهنيا بل و قانونيا- أن تكون موثقه في أحد تلك المصادر و المراجع.

و هي على سبيل المثال من الكتب:

 manual neurologic therapeutics- up to date- text book-  Adams

 و من المجلات العلمية ك: American academy of neurology-nature neuroscience

أو حتى مواقع الكترونية رصينة ك: American Board of Psychiatry and Neurology-

و الدراسات العلمية الجادة تشير إلى ثغراتها ,و تشير إلى نسبة احتمالية المعلومة التي تقدمها, و هل يُعتمد عليها أم لا في الممارسة العلمية ..الخ

فدراسات الاعجازيين تعاني عيبا منهجيا  في توثيق المعلومة .

و تعاني كذلك عيبا منهجيا في خرقها لمنهج البحث العلمي في كونها:

- تعتمد على المصادفة الواردة الحدوث

-  تأويل المعنى المجازي ليصبح حقيقي و العكس أيضا,  بما تقتضيه ضرورة الإعجاز مسبق الصنع؟

- الخلط بين الخبرة الاعتيادية للإنسان و بين الحقيقة العلمية .

- إهدار البعد التاريخي فيما يخص تاريخية النصوص المقدسة و فيما يخص المعلومة العلمية المقدمة.

- اختيار عينات غير عشوائية "منتقاة"  من الآيات القرآنية و الأحاديث للدلالة على الإعجاز

- دغدغة عواطف و مشاعر الإيمان لتسهيل قبول القارئ و المسمع لهم.

- تقرير نتيجة البحث  قبل الشروع في البحث, فالمطلوب هو إثبات وجود الإعجاز ليس ألا؟

*

لكل علم  ثمرة  نلمسها في الحياة ,و كذلك  فإن ثمرة العقيدة  تُترجم في صلاح الإنسان و الجماعة و البشرية في الحياة و ما بعد الحياة.

يقول الإمام الشاطبي في الموافقات " كل مسألة لا ينبغي عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي و أعني بالعمل عمل القلب و عمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا , و الدليل على ذلك استقراء الشريعة:

 فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا ً به

ففي القرآن الكريم: "يسألونك عن الأهلة, قل هي مواقيت للناس و الحج" فوقوع الجواب بما يتعلق به العمل, إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: لِمَ

يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلأ حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى؟""2"

و يحق لنا أن نتساءل عن ثمرة دعاوى الإعجاز العلمي ليس منذ نصف قرن  فقط مع ظهور الاعجازيين الجدد,  بل منذ ألف عام و نيف مع  فخر الدين الرازي المتوفي 606 هجري و أبو حامد الغزالي و ابن أبي الفضل المرسي و غيرهم الكثير"3"

فبعد مرور نصف قرن على اشتغال الاعجازيين الجدد :

ماذا قدّموا للعلم؟!

كم من الأدوية و العقاقير اخترعوا و أفادوا به البشرية؟!

كم من الاكتشافات الجيولوجية و الفلكية قدّوا لنا؟!

ما الجديد الذي قدّموه في علوم الفيزيلوجيا و الكيمياء و الفيزياء و الرياضيات و علوم الكومبيوتر..الخ

أتحدّاهم أن يقدّموا براءة اختراع واحدة لدواء موثق في هيئة الأدوية و الأغذية الأمريكية أو أي مؤسسة علمية معترف بها عالميا؟!

و بالتأكيد لن تسعفهم  نظرية المؤامرة , فشركات الأدوية هي شركات تجارية تتبنّى بل و تموِّل أبحاث أي دواء يثبت فعاليته, و رأس المال ليس له دين.

بعد مرور نصف قرن على دعاواهم

ما الذي قدّموه للإسلام و المسلمين؟ فالمسلم ليس بحاجة لإعجاز علمي ليكون مؤمنا  و مسلما صالحا, و هو سيصوم رمضان بغض النظر عن الإعجاز العلمي في صوم شهر رمضان , و للأسف  لم يلمس المسلمين بوجود هذا الجيش الجرار  من الاعجازيين و الميديا المسترزقة بهم  -  و جلهم من حملة الشهادات العلمية - تطور علمي و تكنولوجي يدخل مجتمعاتنا  في ركاب العصر, و مجتمع العلم و المعرفة.

و أختم مقالي بالتساؤل التالي

لماذا لا نُعجز العالَم بالعلم

و ليس بالإعجاز العلمي؟!

فهذا الإعجاز العلمي – في حال وجوده- حجة على المسلمين أم حجة ضدّهم

ملاحظة: يمنع توظيف المقال لغايات التبشير الديني أو اللاديني.

حمزة

              

هامش

"1" الموافقات في أصول الشريعة- أبي إسحاق الشاطبي المنوفي 790 هجري – دار الفكر العربي  ص 53

"2" الموافقات ص46

"3"" العلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، بل كل ما أشكل فيه النظار في النظريات و المعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها. "أبو حامد الغزالي.