حين تُسيَّس الأحاسيس

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

لم أكن أتخيل يوماً أن تصل الحال بالبعض إلى التخلي عن إنسانيتهم ومشاعر الرحمة في قلوبهم لمجرد أنهم ينتمون إلى المعسكر المقابل في الحياة السياسية أو الحزبية أو حتى العقائدية!

هناك مكنون مشاعر لا يمكن أن يتحكّم فيه الإنسان وهي "الآدمية" التي تربطنا إلى نسل آدم عليه السلام. فبالرغم من عقيدة الولاء والبراء وبالرغم من كل الاختلافات والخلافات التي يمكن أن تفجّر الكراهية يوماً في وجه "الآخر" إلا أن هناك مواقف لا يجب أن ينتصر فيها الحقد على "إنسانية" الإنسان!

فحين يزرع الإجرام متفجّرة في طريق الآمنين سواء في لبنان أو في العراق او في أي مكان آخر لا أسأل عن هوية الميت المحروق ولا أدقق في انتماءات الضحايا السياسية ولا أنتظر حتى أعرف إلى أي حزب تنتمي هذه الأشلاء الموزّعة في كل مكان قبل أن تتحرك مشاعري لأقرر هل أبكي عليهم أم أغض الطرف لأنهم من فريق آخر أو من ملّة أُخرى أو من دين لا أدين به! وطبعاً لا أتكلم هنا عن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام وتحرير الأرض والعرض بكل السبل المتاحة لنا في وجه المحتلين وإنما أتحدث عن زرع القنابل والمتفجرات في بلد ما بيد مواطنيه في طريق مواطنيه أيضاً وقد يكونون جميعاً من دين واحد!!!

قد يجد البعض مئات الأعذار ليبرّروا لأنفسهم موات قلوبهم.. ولكني أبشِّرهم أنه لا تبريرات مناسِبة يمكِن أن يقتنصوها ذات غفلة من ضمير وأقول لهم: إنها الأبصار التي عُمِيَت وإنها القلوب التي ماتت في الصدور!

هذا وقد أتفهّم - بعد عناءٍ مني طويل – حين يرمي أتباع فريق الاتهامات المغرِضة والألفاظ البذيئة لأصحاب الفريق المقابل سياسياً.. ولكني لا يمكن أن أتفهم كيف يستطيع أولئك أن يدعوا بأن ينتصر اليهود على من يعارضونهم – سياسياً أو مذهبياً – فيكيلون لهم أدعية ما أنزل الله بها من سلطان ويتمنّون أن يحصدهم الموت على أيدي اليهود الأنجاس! وقد تربطهم روابط الإسلام والأرض! ولكن تفرّقهم السياسة! ويبدو أنه لا بد هنا أن أذكر أنني من أهل السُنّة والجماعة وأنني فخورة بذلك ومتعصّبة له ولكن انتمائي إلى أهل السُنّة لا يردعني عن الوقوف إلى جانب مذهب آخر إن هو حارب عدواً مشتركاً يريد أن يأكل الثورين الأبيض والأسود!!

وقد أتفهّم نصال الشتائم التي تتكسر على نصال التخوين ولكني لا أستطيع هضم كلمة ينطقها الحقد الذي يفور براكين كره فتترجمه الألسنة الدنئية والقلوب الغافلة حروفاً يفوح منها النتن "سنكسّر رؤوس أتباع عمر وأبي بكر"!!

وقد أتفهّم لسع ذكريات ماضية بعيدة حفرها الألم على جدران الذاكرة حين قامت فئة صغيرة من جنسية معيّنة بالتسبب في معارك ذهب ضحيتها الحجر والبشر فوصمت شعباً بأكمله بالرفض! ولكن ما لا يمكن أن أتفهمه أن تخرس الإنسانية في قلب المسلمين حين يرون أبناء هذا الشعب تُستباحُ دماؤهم وتُدمَّر بيوتهم ويُسوّى مخيّمهم بالأرض!  ثم تكون ردة الفعل: لا يعنينا أمرهم! هم من أتوا بالدب إلى كرمهم! ثم إنها ليست أرضهم فليرحلوا الى بلادهم!!

ويعينهم على هذا التفكير السطحي الهمجي المقيت ساداتهم من أكابر مجرمي السياسة الذين يُعنون بتسميم أفكارهم يساندهم الإعلام الخبيث في التعرّض لأبناء هذه الجنسية وشحن النفوس وبث الحقد والكراهية باختلاقات وتحليلات وربما أكاذيب فيقلبون الموازين لمصالحهم الحزبية والشخصية وبين مطرقة الجهل وسندان الخبث يقف الجاهلون الإمّعات يصفقون ويردّدون وراءهم بغير وعي ولا فقه ولا أحاسيس!!

ثم قد أتفهّم من يرفض بقاء أبناء هذه الجنسية لاجئين في أراضيهم لأنهم كما أفهموهم "يخربون البلد" ! ولكني لن أستطيع أن أتفهّم موقفهم من أبناء هذه الجنسية الذين يُحاصرون ويُقتّلون ويُمنعون الماء والغذاء والدواء ليتخلّوا عن ديمقراطية اوصلت الاسلاميين الى الحكم.. فلا بد للديمقراطية أن تمسح الإسلاميين وإلا فلا قبول لها في دساتير الدول العظمى.. والأنظمة الفاشية هي الأُخرى!

.................

لا أستطيع ان أغفر لمن ارتكس وارتمى في أحضان العنجهية.. لمن يصفّق للسجان ويكمل ذبح الضحية!

لا أقوى على سماح من أشاع البغض وزكّى الخلافات المذهبية!!

لا أستطيع أن أعذر من استجاب لدعاة الحقد والتفرِقة والعنصرية!

أتراه جهل.. أم تحجر المشاعر أم انعدام حميّة؟!!

أين نداء الحبيب صلى الله عليه وسلم "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"؟!!

هل استجابة الساسة الذين يعملون على التفرقة ليسودوا أصبحت أرقى مقاماً عند البعض من دعوة النبيّ فيهم؟

هل صُمّت الآذان إلاّ عن مصالح ضيقة لشرذمة قليلون استطاعوا تأليب الآراء والقلوب وتجيير العقول لمخططاتهم؟

هل بات اليهود أقرب لنا ممن يقول لا اله الا الله لمجرد أنهم من مذهب آخر مهما كانوا مختلفين عنا؟

هل أصبح التعاطي مع الآخر مبني على خلفية الى أي الفريقين تنتمي بدل أن يكون على حسب ما شرعه الله جل وعلا في شرائعه السماوية؟!

هل بات أتباع عمر وأبي بكر محط أحقاد لمجرد أنهم من ملّة ثانية؟!

هل بات إخوان الدين والعقيدة أوبئة يجب الابتعاد عنها لمجرد ابتلاءهم باحتلال أرضهم وحصارهم لينفكوا عن خيار ديمقراطي يريدون منهم تقزيمه ليناسب أميركا وحلفاءها؟

أين نخوة عرب غُيِّبَت؟ وأين بصيرة قلوب عُمِّيَت؟ وأين شرف أديانٍ دُنِّسَت؟!

أين من يتمعّر وجهه لما يرى من ظلم وظلام وحصار وقتل؟!

أين من يتحرك حسّه الإنساني لِما يشهد من أسى في وجوه إخوانه في العقيدة والإيمان ؟!!

ثم يقولون نحن من بني آدم!

واللهِ ما أنتم إلا من حجر تصلّب!

وويلٌ للقلوب إذا تحجّرت!

وويلٌ للأحاسيس إذا تسيَّست!