حكايات من كندا
محمد زهير الخطيب/ كندا
حكاية شريف
أبوشريف أخ فاضل ذو عائلة صغيرة مؤلفة من إبن وإبنة يدرسان في جامعة تورنتو، تعرف عليّ عن طريق ابنته سارة التي هي صديقة لبناتي، وقد ظن أن عندي حلولا لمشاكله مع إبنه الوحيد شريف حيث نقلت له إبنته سارة صورة إيجابية عن أسرتنا.
دعانا أبوشريف لزيارته في بيته الهادئ الجميل وبدأ حديثه قائلا: إبني شريف ينغص علي حياتي، فمع أني أوفر له كل مايريد من مصروفات ومتطلبات مادية إلا أنه لا يطيعني في شيء!!!... لا يدرس كما يجب، ويتأخر في العودة إلى البيت كل ليلة، ويعلق صور الفنانين والفنانات في غرفته، وفاجأني بأنه يخرج مع صديقة له ليست من ملتنا ولا تعرف لغتنا وثيابها غير محتشمة و... و... قصة طويلة تشبه المسلسلات المصرية.
وعندما تعرفت على الشاب شريف وجدته لطيفا ذكيا لاتنقصه اللباقة الاجتماعية وعندما خرج الشاب قلت لابي شريف، لعل المشكلة تُحل لو أعطيت لشريف بعض الاعتبار وحاورته في الأمور وبينت له وجاهة آرائك وقوة حجتك ثم سمحت بالدفاع عن آرائه ولم تسفه له أفكاره إنما عالجتها بالحوار والأدلة الشرعية والعقلية حتى تتقارب وجهات النظر ...
قال وهل تظن أنني لم أحاوره؟!! إنني لا أملك ولدا غيره وكل تعبي وشقائي منصرف لخدمته هو وأخته، ولكم جلست أحدثه وأعظه وأرشده دون أدنى فائدة، أذنٌ من طين وأذنٌ من عجين. إننا نجلس الساعات الطوال معا بين حين وآخر وما من حجة تعرفها إلا وجئته بها، ولكنه كالصخر لا يصد ولا يرد. قلت له وهو ماذا يقول؟ قال إنه لا يقول شيء أنا الذي أقول، هو يسمع فقط، سألته مذهولا: أفهم من كلامك أن هذه الساعات الطويلة التي تقضيها معه والتي أفهمتني أنك تحاوره فيها، أنت تتكلم فيها وهو يسمع فقط؟ أجابني: تماما، قلت له إذن هذا ليس حواراً هذا مواعظ سلطانية بل أوامر فرعونية تشبه: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ...) قال ولكني لا أقول له الا الحق والخير. قلت له إن هذا لا يكفي، إن الحق والخير ليس نسخة واحدة تحتفظ أنت بها في صدرك، إن طريقتك هذه لاتفتح قلبا ولا تُصلح عقلا. فأحس أبو شريف بفداحة خطئه وغفلته فقال لي إنني سأخرس بعد اليوم وأتركه هو يتكلم، فقلت له ضاحكا ما هذا ما أردت إنما أردت أن يكون كلامك معه حوارا، لكل منكما فيه نصيب ولكل منكما فرصته بحشد الادلة والحجج على صحة ما يفعل وما يقول.
ودعني أقول لك بعض ملاحظاتي حول هذا الموضوع، إن العمل يستغرقنا في هذه البلاد فلا نعود إلى البيت إلا منهكين نبحث عن الهدوء والراحة بعد يوم طويل من العمل المرهق الذي لا يخلو من المنغصات. وعندما يكون أولادنا صغاراً تكون مشاكلهم صغيرة يمكن أن تحلها الام أو يحلها المال ولكن عندما يصبحوا في سن المراهقة يصبحوا بحاجة إلى شيء أكثر من الصرف عليهم، يصبحوا بحاجة إلى أن تتحول علاقة الوالدين بهم إلى صداقة فيها اعتراف بشخصيتهم وعقلهم الذي بدأ يشب عن الطوق وبدأ يفهم العالم من دائرة أكبر من دائرة الوالدين وأصبح يضع مُسلّمات الاسرة على المحك ويعتبرها أموراً قابلة للنقض والنقاش، عند هذا الحد يحتاج الآباء إلى الوقوف على مفترق طرق... يحتاجون إلى قرار جريء باتخاذ أبنائهم أصدقاءاً وإفساح المجال أمامهم لنموشخصياتهم وكسب ثقتهم. أذكر أن إبني عند سن معين قرر أن يثبت لي أنه أفضل مني في كل شيء... يريد أن يبارزني في الحساب والجغرافيا والتاريخ وأنواع الالعاب والرياضات والجري حتى المصارعة... وقد جاء اليوم الذي تحقق له أكثر مايريد ولعلي لم أعد متفوقا عليه إلا بالتاريخ بسبب السن، ولكم كنت سعيدا عندما أصبح قادرا على تحقيق هذه الانتصارات علي، وما كنت لأسعد بانتصار أيّ كان علي إلا هو.
بعد بضعة أشهر إتصل بي أبو شريف فرحاً وبشرني بأن شريف أصبح إنسانا آخر وأنهما أصبحا صديقين حميمين يحترم كل منها رأي الآخر، وأنه شريف ترك صديقته المستهترة والتفت إلى دراسته ومذاكرته وهو يدعوني إلى حفل تخرجه بعد عدة أسابيع.
حكاية ناديه
ناديه البنت الصغرى في عائلة كثيرة الأولاد، ولأن كل من في العائلة أكبر منها فقد كُتب عليها أن تبقى صغيرة وأن يعاملها الجميع كطفلة، وعندما بلغت ناديه سن المراهقة شعرت بفراغ عاطفي ممن حولها وبدأت تحاول لفت الانظار اليها وداعبت قلبها مشاعر الحب والغرام من كثرة ماتشاهد من مسلسلات في التلفاز أو أفلام مستأجرة متوفرة في كل ناصية شارع، وبدأت (راداراتها) تبحث عن إشارات (سيجنال) من كل ما يمر حولها من فرص للحب أوالإعجاب، ولما كان أهلها قد أحاطوها بجو محافظ لا يترك فرصة لأي علاقة مع شباب المدارس الحكومية المختلطة، فقد وجدت فرصتها في شباب المدارس العربية في عطلة نهاية الاسبوع حيث تخف المراقبة والمتابعة لشعور الأهل بالأمان في المدارس العربية، ومن مأمنه يؤتى الحذر، فقد وقعت ناديه في غرام الشاب أحمد، أول شاب إبتسم لها في المدرسة العربية، فأقامت معه صداقة وفتحت معه مواضيع وأحايث حتى بان الأمر ووصل الخبر إلى أبويها وجلس الابوان مصدومين ومحتارين في معالجة علاقة المراهقة هذه لطالبين لايزالا في المرحلة الثانوية لم يفهما بعد أن الزواج مسؤولية ورحلة عمر.
لحسن الحظ أن والدا ناديه أدركا الحالة النفسية التي تمر بها إبنتهم ناديه وأن الحل سيكون ليس بالمواجهة والصد والمنع وإلا تحولت المسألة إلى قصة (روميو جوليت) الشكسبيرية أو اسطورة (ممو وزين) الكردية، ولكنهم إختاروا أن يظهروا لها التجاوب ووضعها هي وفارس الاحلام أمام متطلبات الحب والغرام، فتعرفوا على الشاب وزاروه في بيت أهله وطلبوا منه ومن ناديه أن يحصروا العلاقة في زيارة الشاب لبيت ناديه بين حين وآخر بحيث يراها بوجود أهلها وأن يلتفتا إلى الدراسة والاجتهاد، وأن الضوء الاخضر سيلمع في نهاية العام الدراسي عندما ينجحا بتحصيل علامات عالية في الدراسة ثم بالبحث عن عمل مناسب في الصيف لتوفير بعض المال الذي يلزم العرسان، وأنه ستتم مراجعة الموضوع بعد نهاية هذه المرحلة.
وما أن مضى شهران حتى دخلت ناديه على أمها تقول لها: اليوم كلمت أحمد وأخبرته أننا تعجلنا في الموضوع وأنه من الافضل لنا أن ننهي العلاقة وأن نلتفت إلى دراستنا وبناء مستقبلنا، سألتها أمها باندهاش: هل أنت متأكدة مما تفعلين، أجابت الحقيقة أنني لم أعد أشعر بأي عاطفة تجاهه، ويبدو لي أنه ليس الآن الوقت الصحيح لرسم صورة حياتي الزوجية للمستقبل.
أدركت الام أن فلسفتها للقضية صدقت وأن السحر قد بطل وأن عاطفة المراهقة كانت سحابة صيف و أن الأزمة قد مرت على خير.
اليوم دخلت ناديه الجامعة وهي تعد نفسها لتكون إنسانة ناجحة وزوجة سعيدة في المستقبل المشرق أمامها.
حكاية شذى
شذى بنت مدللة تحصل على ما تريد ويُحضرُ لها أهلها لبن العصفور لو أرادت، ولا يُلزمها أهلها بأي أمر من أمور الدين حتى لا تنزعج، ووالدها يفتي لنفسه عدم تطبيق أي شيء من الدين إذا رأى فيه بعض الحرج او المشقة فيجمع الصلوات ويترك الجمعات و لا يحضر المناسبات الاسلامية ولا يأمر أهله بالصلاة والحجاب ... ، وفي يوم قرر أن يرسل ابنته إلى المدرسة العربية في عطلة نهاية الاسبوع كي تتعلم اللغة العربية، فعادت البنت إلى البيت وهي تبكي فسألها والدها لماذا تبكين؟ قالت لقد قالوا لي في المدرسة أن البنت التي لا تتحجب تذهب إلى النار!!! ودون أن يناقش الأمر معها وأن يبين لها وجه الحق في الامر قرر إخراجها من المدرسة العربية.
ومع الوقت لاحظت البنت أن أسلوب والدها في تطبيق الدين مريح حتى غدا كأنه نسخة خاصة به من الدين نسجها على مزاجه وفصلها على قياسه فسارت هي على نهجه ولكن ليس بالالتزام بنسخة والدها من الدين إنما باختراع نسختها الخاصة. وفي يوم أحضرت شذى معها إلى البيت صديقها المسيحي براين وعرفته على والدها فأحس والدها ببعض الامتعاض حيث أنه اعتبر هذه العلاقة فضفاضة قليلا على النسخة الدينية التي صنعها لنفسه، وعندما لاحظ أن هذه العلاقة تتطور وتسير بمنحى الحب والغرام قرر أن يصارح ابنته وأن يطلب منها لأول مرة في حياته أن تنتهي عن أمر، غير أنها كانت أسبق منه بأن تعلمه بأنها تحب براين وأنهما اتفقا على الزواج، فثارت ثائرة الأب ورفع صوته على ابنته لاول مرة مستحضراً في ذهنه الموقف المهين الذي سيتعرض له من أصدقائه وأقاربه الذين لن يتقبلوا منه هذا الامر بأي شكل من الاشكال. غير أنها صفعته بقولها إنك علّمتني أن أناقش الأمر بعقلي وآخذ من الدين ما أرتاح إليه وأنا لا أرى مشكلة في زواجي من براين، إنه إنسان خلوق ولن يتدخل في أمور ديني فأنا سأبقى مسلمة، أما الاولاد فإننا اتفقنا أن نترك لهم خيار الدين الذي يرغبون عندما يكبرون، أحس الأب بغصة في حلقه وأدرك أن إقدامه على اختراع نسخة خاصة به من الدين قد فتح الطريق أمام ابنته لتخترع هي أيضا نسختها الخاصة التي فصّلتها على مقاس أهوائها ورغباتها.
مضت شذى في حياتها الجديدة مع براين، وتركت والدها للأسى والألم يعتزل الناس ويخشى أن يسأله قريب أو صديق: كيف حال الأمورة شذى ومتى سنفرح بها؟... ثم قرر أخيرا أن ينتقل إلى بلدة بعيدة لا يعرفه فيها أحد ليطوي صفحة الماضي الحزين.