مقص الرقابة

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

إنه ليس مقص الخياط أو الفنان ولا الحلاق ! إنه مقص الرقيب ، وشتان شتان ما بينهما ، فأما المقص الأول فهو مقص دقيق ، يتحرك بأصابع مرهفة ، وفق خطة مرسومة ، وتعليمات واضحة ، ولمسات فنية ، لتحويل الشيء المعالج من شكل عشوائي ، أو مادة خام في أحسن الأحوال إلى تحفة فنية .

 أما المقص الآخرفهو مقص غليظ ، قاتم اللون ، حاد الشفرات ، يستأصل بلا رحمة أو شفقة ، كل ما لا يعجبه أو لا يروق له ، حتى ولو كان في ذلك هدر دماء الآخرين ، والقضاء على حياتهم ، والدوس على مقدساتهم ،وامتهان كرامتهم ، ما دام ذلك لا يوافق مصلحته ولا يسير على هواه .

حقيقة ، لا حرية مطلقة على إطلاقها في أي بقعة أو زمان على الأرض ، لأن مثل هذه الحرية تكون على حساب الآخرين وراحتهم ولكن الرقابة ومقص الرقابة في مجتمعاتنا شيء آخر، لا هي بهذا ولا ذاك ، ومع ذلك فإن مفهومها يختلف من مجتمع إلى آخر ومن بقعة إلى أخرى .

الذات الإلهية ، والمقدسات السماوية ، والرموز الدينية ، تكاد تكون عاملا مشتركا في المعمورة، لتكون خطا أحمر لا يقترب منها أحد ، حتى من بعض المجتمعات العلمانية واللادينية ممن يعبد الشجر أوالبقر ، الشمس أو القمر ، التراب أم الحجر ، ولو كان بعضها لا يعترف بمقدس ديني ، ولا ذات إلهية ، اللهم إلا من بعض شذاذ الآفاق وغريبي الأطوار ، طلاب الشهرة وذيوع الصيت .

اما في البلدان الدكتاتورية والمستبدة - وما أكثرها - فإن الخط الأحمر عندها ، هي أي كلمة أو خبر أو تكنولوجيا ، تمس الزعيم الأوحد ، أو حزبه الشمولي ، أو سياسته الحكيمة ، فهو الملهم الذي لا يخطئ أبدا ، بل هو المنارة التي يقتبس منها وبها يهتدى ! .

والويل من مقص حاكمها الغليظ البتار ، لكل من يتجرأ بغمز أو لمز، من قريب أو بعيد ، تصريحا أوتلميحا ، من الحاكم المعصوم ، أو حزبه المقدس ، أوسياسته الرشيدة .

ولا غرو أن يكون لهذا المقص البتار حسنات جلّى لوسائل الإعلام ! بسبب سياسة التدجين ، وزرع الهلع والرعب ، إذ نمّى في نفوس المسؤولين بل والعامة ، وغرس في أعماقهم إحساسا ذاتيا ، وميزانا حساسا ، وملكة داخلية دقيقة - غير موضوع الإستقرار في البلد والطاعة والهدوء - تفرز المعلومة الصحيحة عن الخبر الفاسد الذي يغضب الحاكم ويخالف توجهاته بحسب عرفه وقوانينه ، فتستأصل السلبيات التي لا تصب في سياسة الحاكم وتدفنها في أخدود عميق ، قبل أن يضعها الحاكم وزبانيته ، على مقصاتهم الحادة العريضة الشفرات ، وتبرز الإيجابية وتضخمها ، حتى تخرج بالمعلومة عن حقيقتها ، وتشوه شكلها ، بل ربما انقلب الخبر إلى عكسه تماما ، حتى يوافق سياسة الحاكم ونهجه الرشيد ، وإلا فإن المقص الحصيف قد لا يكتفي بقص الخبر ، بل قد يستأصل معه صاحب الخبر، وربما يطول من حوله .

ولا شك أن حجم المقصات وأشكالها ،وحدة شفراتها وحساسيتها ، تختلف من مجتمع إلى آخر ، باختلاف الحاكم ونوع سياسته ، وإيدولوجية حزبه ، وطبيعة حلفائه ، وتعليمات أرباب نعمته وأسياده .  

أما المقصات الصهيونية وأنصاره من اليمين المتصهين ، فقد أصبحت "ماركات " عالمية ، وزعت وبيعت ، ترغيبا وترهيبا ، إلى أغلب وسائل الإعلام ، لتمجد تاريخ يهود وتحتقر مادونه ، فليس هناك من شيء مقدس ، سوى شعب الله المختار ! وما دونها من الأميين يستباح مالهم وعرضهم ، وسبّ الذات الإلهية قد لا يحرك ساكنا عند هؤلاء ، ولكن أن تشك في المحرقة وتناقش أمرها ، فإن القيامة تقوم ولا تقعد ، والتهم بمعادة السامية ومحاربة الانسانية جاهزة ولا تحتاج إلا قرينة ولا دليل ، ويلّّوح في وجه من يشك بها ألف مقص صارم بتار، يستأصله مع أهله وعشيرته ، دون أن يجد من حوله ناصرا ومعينا .

إن مقص الرقيب واجب في بعض الأمور والمواقف لو وظّّف استخدامه ، ونفذ مهمته بشكل منطقي في المكان والزمن الصحيح لإستئصال الورم الخبيث وإزالة المنكر، وترك بذورالخير تنبت هنا وتنموهناك .

ولكن للأسف إن أغلب مقصات الرقيب ، تبحث عن الخير لتستأصله والمعروف لتمنعه ، وتترك الورم الخبيث ، وحبائل الشيطان لتبيض وتفرخ ، وتكلؤها بالعناية والرعاية لتعيث في الأرض فسادا .

ولكننا بعد كل هذا التهويل من مقصات الرقيب وأزلامه وزبانيته ، لن نستسلم وندفن رؤوسنا في الرمال .

بل سنتحدى هذا الواقع الظالم الذي زورت فيه الوقائع ، وقلبت فيه الحقائق وتغيرت فيه الموازين ، بل إننا سنجهر بالحق ما استطعنا ، مبينين الأمور على واقعها وحقيقتها ، لنفضح كيد الطواغيت والمستبدين كانوا ماكانوا من أعدائنا ، أو ممن يحسبون علينا من أبناء جلدتنا ، ومكر اليهود المتصهينين ، وكل الذين يقفون وراءهم مهما كانوا أوملكوا من قوة السطوة والنفوذ ، وتحت أي شعار أو ستار أو لافتة إختبأوا خلفها ، فإن أعمالهم القبيحة ، وأسالبيبهم الذميمة لا تخفى على الواعين المتبصرين ، مهما حاولوا أن يقدموا وسائلهم الحديثة بشكل جذاب ، وأسلوب لطيف ، وملمس ناعم ، وقد حقنوها بسم زعاف يأتي على صغيرنا ، ولا يرحم كبيرنا .