"كوباني" عاصمة العالم!
"كوباني" عاصمة العالم!
علي حسين باكير
فجأة.. تحوّل اسم "كوباني" إلى واحد من أشهر الأسماء المتداولة في وسائل الإعلام العالمية، وعلى ألسنة المسؤولين الأمميين والدوليين، وباتت كذلك موقعاً على خارطة الاستراتجيين والعسكريين، وهدفاً للطيّارين والمحاربين، وساحة لمعركة طاحنة بين تنظيم الدولة"داعش" وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي "PYD".
الكم الهائل من التركيز على "كوباني" خلال الأسبوع الماضي غير مسبوق على الإطلاق، فقد سقطت الموصل وبالكاد سمعنا وسائل الإعلام تتحدث عن الموضوع، فالتركيز كان على "داعش". وقد دمرت قبلهما كل المدن التاريخية السورية الكبرى التي تضم ملايين البشر كحلب وحمص وريف دمشق، ولم يرف جفن أي مسؤول دولي.
لقد استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد الأطفال، وصواريخ "سكود"، والبراميل المتفجرة، والاغتصاب والقتل والذبح والحرق...، وذهب نتيجة إجرام الأسد 200 ألف إنسان، وأصبح نصف سكان سورية؛ أي حوالي 10 مليون إنسان بين مهجر ونازح ولاجئ وجائع، ومع ذلك فإن أحداً من أولئك الذين يملؤون الدنيا صياحاً اليوم مطالبين تركيا بالتدخل في مدينة صغيرة تسمى "كوباني" لم نسمع له صوتاً حينها!
لقد سقطت صنعاء ولم يأبه أحد! ومن يستمع إلى الأخبار يعتقد أنّ تنظيم الدولة "داعش" سيدخل "واشنطن" وليس مدينة صغيرة معزولة في أقصى وسط شمال سورية! فلماذا كل هذا الصياح بشأن "كوباني"؟ الجواب يتمحور حول الوضع الأمريكي الصعب في المعادلة.
الولايات المتّحدة تقود حملة شرسة للضغط على تركيا لمنع سقوط "كوباني"، وبطبيعة الحال فهي تتوقع عبر هذا الضغط أحد أمرين: إما أن تقوم تركيا بتسليح الأكراد في المدينة، وتأمين الدعم اللوجستي اللازم لهم لرد تنظيم الدولة"داعش"، وإما أن ترسل قواتها المسلحة إلى داخل المدينة للاشتباك مع تنظيم الدولة"داعش".
الخيار الأول غير ممكن في الوضع الحالي على اعتبار أن حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي (النسخة السورية من حزب "العمال" الكردستاني المدرج على قوائم الارهاب الأمريكية والتركية) يعتبر "أنقرة" عدواً. ومن غير المنطقي أن يقوم أحد ما بتسليح عدوه ، والولايات المتّحدة نفسها رفضت خلال السنوات الثلاث الماضية تزويد من يفترض بهم أن يكونوا قريبين منها -أي المعارضة السورية- بالأسلحة، فكيف ولماذا ينتظر من تركيا أن تقوم بتزويد طرف يعتبرها عدواً وتعتبره إرهابياً؟
ومع ذلك حاولت "أنقرة" حل هذه المعضلة، وأبلغت "صالح مسلّم" بالطرق التي يمكن من خلالها تسهيل تأمين دعم له -والتي تتطلب أن يقطع علاقاته مع النظام السوري، وينضم للمعارضة وللجيش الحر- وهي مطالب منطقية حتى تكون تركيا منسجمة مع نفسها ومع سياساتها.
أما الخيار الثاني فهو أكثر تعقيداً لأنه يعني وضع القوات المسلحة التركية في عين العاصفة مباشرة بين ظهراني الأعداء، أي النظام السوري وتنظيم الدولة"داعش" و(PYD) من دون غطاء دولي، ولا ضمانات، ولا دعم حقيقي، والأهم من دون خطة أو استراتيجية واضحة وشاملة، إنها عملية انتحارية بكل تأكيد. وحتى في حال افترضنا جدلاً حصولها من دون الضمانات المنشودة، فإن قدرة هؤلاء اللاعبين على الرد داخل تركيا، أكبر بكثير من قدرتهم على الرد داخل "واشنطن" بالتأكيد، ومع ذلك فيجوز لـ"واشنطن" أن تقرر عدم إرسال جنود إلى الأرض، وأن تقرر بريطانيا وفرنسا عدم إرسال طائرات إلى سورية حتى لضرب تنظيم الدولة"داعش"، ولكن لا يجوز لتركيا أن تفعل ذلك!
المشكلة ان واشنطن تكرر ارتكاب الاخطاء القاتلة نتيجة جهلها بالمنطقة وتركيبتها، فهي تعتقد أنّه يمكن الاعتماد على أكراد سوريا في مواجهة داعش مقابل دعم الحكم الذاتي، أي النموذج العراقي للاكراد، ويمكن كذلك الاعتماد على العشائر السوري مقابل المال والسلاح.
ولأن داعش ادركت ذلك على ما يبدو ، بادرت الى مهاجمة الأكراد في نقطة قاتلة. لا شك ان نجاح "داعش" في القضاء على تنظيم (PYD) يعني عمليا ان واشنطن لم يعد لديها على الأرض من يمكن استخدامه كأداة لمواجهة "داعش" في سوريا. وفي ظل حقيقة ان القصف الجوي لوحده لن ينجح في القضاء على "داعش"، فان ذلك سيكون بمثابة اعلان مبكّر عن فشل استراتيجية واشنطن ضد "داعش" في سورية.
هذا ما يفسّر حالة الهوس الأمريكية والجنون "الكوباني"، لدرجة انها دفعت المؤسسات الدولية والعاملين في اطارها كمبعوث الامم المتحدة الى سوريا ستيفان دي ميستورا للطلب من أنقرة السماح للأكراد للتدفق الى "كوباني" للدفاع عنها!. نعم صحيح مبعوث أممي يطالب بان تسمح تركيا بارسال ميليشيات كردية الى داخل سوريا وهم الذين يتهمونها بارسال ميليشيات اسلامية! وحتى في حال السماح بذلك، فالى أين سيعود هؤلاء؟ الى واشنطن؟ الى لندن؟ الى برلين؟ بالطبع لا، سيعودون الى أنقرة وهذا أمر يتم تجاهله تماما، ناهيك عن التناقض الصارخ بين المناداة الدولية بالسماح للاكراد بالتدفق الى سوريا والتغاضي عن تدفق الشيعة وملاحقة السنة المتسللين.
على كلّ، يبدو انّه في حال لم يتم الاستجابة للمطالب التركية، فان تنظيم "داعش" سيسيطر في النهاية على الأرجح على "كوباني"،وعندها فان الموقف التركي سيكون مشابه لما كان عليه عندما كان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) على الحدود وقبله النظام السوري. بمعنى آخر، فان القوات المسلحة التركية ستسعى الى رسم حدود ردع وتحاول ان لا تكون الطرف المبادر الا اذا تعرّض أمنها القومي للخطر المباشر، وذلك الى ان يستفيق الأمريكي لما تتطلبه الحقائق على الأرض.