في البناء للوصول
في البناء للوصول
(4) استيعاب حركة التاريخ
رضوان سلمان حمدان
يقول ابن خلدون ــ رحمه الله ــ موضحاً أهمية التاريخ: " إذ هو فى ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيه الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال ... وفى باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل فى الحكمة عريق ، وجدير بأن يعد فى علومها خليـــــق " أ.هـ
والأمة الإسلامية تحتاج اليوم إلى هذا النظر والتحقيق ، وإلمام بوقائع الأحداث عميق ، لابد من سبر الماضي بموازين ربانية ، وأصول شرعية حتى نستخرج قوانين تضبط حياتنا وتعيننا على التخطيط لمستقبلنا فكما قيل : إن التاريخ هو سياسة الماضي ، وكما يقول د./ حامد ربيع ـ رحمه الله ـ : "التاريخ فلسفة ، والفلسفة تاريخ ، التاريخ هو توغل فى حقيقة الوجود الإنساني على المستوى الجماعي والفردي ، وعلينا فى فهم التاريخ أن نسعى لاكتشاف ذلك الإنسان واحتضانه فى ديناميات تفاعله اليومي ، العالم العربي لا يزال يبحث عن المؤرخ الفيلسوف القادر على أن يغوص فى أعماق تلك الخبرة فينقل إلينا معانيها بلغة المجتمع الذي نعيشه .." أ.هــ
ومن جهة أخرى فقد عمد القرآن على بث الوعي التاريخي فى نفوس المسلمين فقال جل وعلا :
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }
137آل عمرانوعرض القرآن الكريم لسير الأنبياء والمرسلين وما حدث معهم من التكذيب ، وكيف أنجاهم الله فى نهاية المطاف ونجى عباده المؤمنين ، بل لقد رسم القرآن الكريم معالم سنن كونية مفسرة لحركة التاريخ ، ومحددة لقسماته :
ــ ففى سنة التغيير السلبي :
{
ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }53الأنفالــ وفى سنة التغيير الإيجابي :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }11الرعد
ـــ وفى سنة التداول :
{ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.. }140آل عمران
ـ وفى سنة الابتلاء :
{ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}العنكبوت .. وهكــــــــــــذا....
فهذه السنن هى الضابطة لحركة الكون والراشدة للمسلم لفهم طبيعة الأحداث فمتى استكملت شرائطها تحققت فهي لا تحابي أحدا كائناً من كان ، وهذا يفسر لنا حالة الضعف التى تنخر فى جسد الأمة رغم أنها أمة التوحيد فهي السنن التي لا تجامل ، وهى السنن التي ينبغى علينا أن نسترشد بها في تفسيرنا للحدث التاريخي .
والمسلمون اليوم مطالبون بدراسة واعية ثاقبة لأحداث التاريخ لمعرفة مواطن الخلل ، وأسبابها لمحاولة تفاديها وعدم تكرارها ، وهذه الدراسة النقدية لن يكتب لها النجاح إلا إذا تخلينا عن المنهج التبريري فى عرض الأخطاء التاريخية ، وهو منهج مضر لا يعود بالنفع المرجو.
ولعل من الأسباب الرئيسية لشيوع هذا المنهج التبريري إلغاء الحدود الفاصلة بين الإسلام ، والتاريخ الاسلامى .... فالإسلام هو الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أما التاريخ فهو حركة التطبيق لهذا المنهج الحق وهذا التطبيق ـ بعد عصر النبوة والراشدين ـ اعتوره النقص وكان يتعرض للشد والجذب ... للقرب والبعد من منهج الإسلام ، لهذا فعندما نحكم على عصر معين أو فعل محدد بالخطأ فهذا ليس حكماً على الإسلام ذاته .
كذلك لابد أن نحذر من المنهج الذي يخطه بعض العلمانيين فى دراسة التاريخ الإسلامي والذي يعمد إلى التركيز على فترات الهبوط والانحدار وتسويقها على أنها الإسلام ذاته ، وبالمقابل محاولة طمس كل فترات الصعود والقوة للإيهام بأن الإسلام لم يطبق إلا في عصري النبوة والراشدين وفقط .... أضف على ذلك احتفاء المنهج العلماني بالشخصيات القلقة فى تاريخنا كالحلاج .. وابن عربي ....الخ
بل وتفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً علمانياً ( اشتراكياً كان أو ليبرالياً ) فأبو ذر الغفاري ــ رضي الله عنه ــ فى نظر اليسار ثائراً اشتراكياً ..، والخوارج فى نظر اليمين جمهوريون خرجوا على الأوتوقراطية القرشية !!! وهلم جرا... فبمثل هذا المنهج المسفّ يفسر التاريخ الإسلامي بل يشوه ...!!! فعلينا بناء الرؤية التاريخية التى تغوص فى أعماق الحدث فتفسره وتحلله لتضع أيدينا على مواطن القوة ، ومواضع الخلل والضعف حتى لا نظل ندور فى دائرة مفرغة نكتفي بالشجب والإدانة ، وكما يقول د ./ سلمان بن فهد العودة :"فان من غير المنطقي أن ننقل الصورة التاريخية كما هي ليعرفها من لم يكن يعرفها ، التاريخ يعطينا الفكرة ويدع لنا رسم إطارها ، والتاريخية المطلقة شكلت عقبة فى تطور فكر الأمم .." أ.هــ