علمانية, ليبرالية, ديمقراطية, والحصيلة ماذا

علمانية, ليبرالية, ديمقراطية, والحصيلة ماذا؟!

د. نصر حسن

[email protected]

هل وقعنا في سخرية التاريخ والاستبداد معاً ؟!, يبدو الأمر كذلك ! فهل يعيد " العلمانيون " ترتيب المفاهيم وتجسيم النظرة لرؤية الواقع كما هو والتصالح معه ؟! ومعهم "الماركسيون " السوريون نظرتهم إلى مفهوم زوال الدولة و"خرطوشة" انجلس ؟! مرةً أخرى ,أهي سخرية التاريخ كما وصفها هيجغل من حيث أن الثورة التي قاموا بها لا تشبه أبداً الثورة التي كانوا يعتزمون القيام بها ؟! وهل حان الوقت للرجوع إلى الواقع وإعطاء مفهوم الدولة أبعاده العملية التي تفرزها حركة التاريخ البشري الاجتماعية وملحقاتها الحقوقية ؟!.

هم معنيون بالإجابة أمام الشعب والمفهوم نفسه أيضاً, وترجمته الواقعية في مسار التاريخ وكنه علاقاته وحاجته الدائمة إلى حارس مستقل عادل وأمين على مصالح الكل الاجتماعي, إذ على خلفية تحديد مفهوم الدولة تتحدد الكثير من نتائج الصراع السياسي والاجتماعي والأهلي وطبيعة السلطة ومفاعيلها , وأمام واقع عياني وشريط سياسي يمثل الصراع على خطف مساحة المجموع ( الدولة والسلطة) والعبث الفردي الديكتاتوري فيها ,عاشته شعوب ودول أكثر من نصف الكرة الأرضية لما يقرب من قرن في السلطة المستبدة , وواقع الخريطة الجغرافية والسياسية والاجتماعية والحقوقية ومفهوم الدولة نفسه في عموم المعسكر الاشتراكي وملحقاته سابقاً يجيب على ذلك .

وهذا يفرض  نقلة مفاهيمية محمولة على أسس جديدة أهمها تحرر العقل و المشروع السياسي معه من تخدير المثالية الثورية وحلم الإصلاح اللفظي , وإعادة القيمة لأسس الفكر والفلسفة الجامعة نفسها كمناهج , وينسحب هذا بدوره على الماركسية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية وكل مفاهيم الحداثة والتطور التاريخي,وعليه مطلوب هجر التبعية والإسقاط النظري واعتماد التفكير الجدلي ما أمكن ذلك منهجاً لقراءة الصورة وإعادة تركيب المفاهيم النظرية ليس على قياس الرؤى الفردية التجريدية , بل على قياس الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتحرك بأفقه الإنساني التاريخي .

وما من شك بأن محرك التاريخ البشري في أحد أشكال قوته هو بروز فلاسفة ومفكرين ومبدعين بأبعاد كونية , واستطراداً وعلى أرضية النظرة المفاهيمية الجزئية واللاهوتية تلك , يمكن تفسير هذا الفشل الذريع  للنخبة المثقفة من الدخول على خط الأحداث في مرحلة خطيرة من التخلف والتفكك وفساد السلطة في سورية.

فبداهةً ,المشكلة ليست في المفاهيم,  بل في الواقع وأدواته الفكرية والثقافية الحالية ونظم السلطة فيه والأنساق السياسية الفاعلة فيه , وبقدر تعلق الموضوع بالماركسية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية , بما هي أوجه لمجسم بشري واحد اسمه المجتمع في شكل الدولة تحددها مرحلة تارخية معينة, الدولة التي تعني مجموعة أو مجموعات من البشر لهم مصالح متباينة ورغبات مختلفة وغير ثابتة وهي حقائق اجتماعية نسبية مرتبطة أساساً بمستوى وعي الناس والدول والعلاقات المتداخلة بينها ,فمنها ماهو إنساني مشروع بانسجامه مع المجموع ,ومنها ماهو فردي ذاتي غير مشروع لأنه يتعدى على المساحة الاجتماعية العامة بما تمثله من قيم وأعراف وثقافات وعادات ومصالح وتكوين تاريخي طويل.

فهل قوى اليسار والعلمانية والديمقراطية على اختلاف تسمياتها مستعدة ومؤهلة الآن لنقد التجربة الماضية بعمق ومنهجية ونقض تاريخها السابق , والتواضع والنزول إلى واقع المجتمع والتعلم منه , بعد أن فشلت على مدى أكثر من قرن في تعليمه؟!

(2)

بداهةً ,أن الديانات والفلسفات المختلفة ,هدفها الإنسان والمجتمع ومحاولة دفع قدر من التوازن والتنظيم والاتساق في التاريخ , فالإسلام اعتبر الإنسان أنه خليفة الله تعالى في الأرض , وفي الفلسفات الحديثة اعتبره انجلس  " صحن صيني "  , واعتبره دعاة الحرية والتنوير قيمة شبه مقدسة , وبدلالاتها العامة تحاول بناء نظريات من المفاهيم تعكس نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة تنظم حياة الناس , هذه المفاهيم والتاريخية منها على وجه التحديد, ليست عاقر بل منظومات مولدة باستمرار, وسنة الحياة وجدليتها هي الاستمرار والاختلاف , من هنا نشأت المفاهيم والنظريات المختلفة, وهذا جد طبيعي لكن المشكلة ,هي في كيفية التعامل معها في صيرورتها الاجتماعية , وهنا بالضبط تفسر حركة التاريخ , والعالم العربي جزء من هذه الحركة يتأثر بها ويؤثر فيها , يولد الأفكار ويتمثل أخرى , وآلية التمثل تتحكم بشكل كبير في تحديد الدولة والنظم والنظام العام , وعملياً محصلتها تأسيس نظم حكم وإدارة تحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والتعايش .

وبتكثيف الأمر على مستوى سورية المنظور الحديث, بدت جذور بعض المفاهيم من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وملحقاتها , وكأنها طوارئ معرفية دخيلة لا تجيد لغة الواقع ولم تتفاعل معه ,ورغم ذلك إن بعض النخب الفكرية والثقافية السورية المحمولة على بعد أقلياتي في مجتمع شاب متوثب يبحث عن هويته ووحدته على بعديه الأساسيين القومي والإسلامي النهضوي , وجدت ضالتها فيها وفي الفلسلفة الماركسية واللينينية والمفاهيم المستوردة والمعربة تواً على وجه التحديد , وتعاملت معها كحلم ,وتعلقت بعمق وعطش إيديولوجي نظري بمرتكزاتها الأساسية الملخصة برغبة نظرية مثالية لتحقيق العدل للإنسان لكن بإلغاؤه نفسه !, أي في زوال العائلة والملكية الخاصة ( الاقطاع والبورجوازية ) والدولة ( الأمة) وغاصت في حلم الثورة والاشتراكية باستسلام ووهم كبيرين!.

وباختصار شديد , فاجأها الواقع العملي والتجربة الحية الأم ( الاتحاد السوفياتي) بأن العائلة أصبحت أكثر حضوراً وأضيف عليها نوع من القداسة وزيادة الحقوق ,والدولة نمت بشكل مخيف وبخصائص مركزية وصلاحيات مضاعفة شديدة, وتحول حلم الجيش الأحمر الذي يسيره ذاتياً قوة الوعي الإنساني الموعود, إلى أكبر الجيوش في العصر الحديث !, وصارت في عهد ستالين دولة لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلاً من حيث ديكتاتوريتها وقوتها ولا إنسانيتها , وأوقفت حركة التاريخ أو بالأصح افترقت عنها إلى أن انهارت ركاماً وتفتت إلى أشلاء دول , واليوم وللمفارقة ,باتت تعول على الملكية الخاصة وتحرير السوق لخلاصها من ورطتها الاشتراكية وأزماتها المستعصية التي أنتجتها !, وتدورت الأمور والأزمات ومعها مجتمعات وعادت بعد أن دفعت ضريبة إنسانية مروعة ,إلى نمط على شاكلة دول " نمط الإنتاج الأسيوي " حيث الرعايا كما قال ماركس كلهم " عبيد" , قبل ما يقرب من قرن من الزمان !.

والأمر بقدر كونه اشتقاق نظريات ونظم حكم مؤسسية للمجتمع وعلاقاته وليس الغوص في تحليلات فكرية مجردة , هنا بالضبط يبدو الوجه الاقتصادي ( الليبرالية ) وجدلية علاقته مع البعد السياسي الحقوقي ( الديمقراطية ) وكلتاهما من جنس الفلسفة , وباتت ضرورة تلازمهما في مسيرة التقدم والتطور والحفاظ على البعد الاجتماعي وحقوق الإنسان لامناص منها , هذا التلازم غاب على النخبة الفكرية لسبب أساسي وهو أنها سحبت الوعي إلى حقل السياسة محمولاً على ثقافة نظرية إسقاطية موجهة حسب المصالح والرغبات ,وعاندت السير ضد حركة الواقع وضد اتجاه التاريخ , وأصبحت أسيرة شبكة من المفاهيم النظرية التي ليس لها أي جذور في واقع المجتمع .

وعليه طغى الجانب النظري على المفاهيم في سورية بشكله الفردي الستاليني الشديد , بما هو منهج بالتعامل مع الفكر والثقافة وممارسة تسلط على الواقع ,  في حين أن الواقع السوري و العربي يحتاج إلى قدر كبير من " الغرامشية " المعرفية إذا صح التعبير , بمعنى أن الواقع حاضره وماضيه ومعطياته وتفاعلاته وتجاربه السياسية هي التي تلعب دوراً كبيراً في تأسيس الوعي واشتقاق المفاهيم , حيث لا يمكن فصل المفهوم عن الواقع الاجتماعي والسياسي ,أي عن حركية المجتمع الآنية , بخلاف ذلك يؤدي إلى تعطيل ديناميكية المفهوم نفسه ويذحوله إلى منطق شكلي أجوف وهذا ما حدث بالضبط , أي وقعت النخبة في الجمود العقائدي والميتافيزيقية , وبالتالي ألغت أهم أسس مكونات المعرفة وهي الحرية والديمقراطية على مستوى النخبة وأحزابها , مما سبب خللاً خطيراً في بنيتها النظرية ودورها الثقافي والسياسي , فحصل التناقض والضعف في تقوية الروابط الوطنية ,وأكثر منه في عدم قدرتها على المساهمة في التنمية الفكرية والثقافية والاجتماعية في المجتمع ومواكبة التطور , وهي الآن تعيش نتائجه حائرة لا تعرف بأي اتجاه تسير , و بأي شعار تهتدي , وضمن أي رتل سياسي تصطف!......يتبع