اللهمّ احكُم بينَنَا
اللهمّ احكُم بينَنَا
وبَيْن قَوْمٍ دَعُونا لينصُرُونا .. فَقَتَلُونا!..
د.محمد بسام يوسف*
تلك كانت آخر الكلمات التي نطق بها سيّدُ شباب أهل الجنة، وريحانةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأحبّ الناس إليه.. فقد كان الحسين بن عليٍّ -رضوان الله عليهما- فوق ثرى كربلاء، يمسح الدم عن طفله المغدور الذي في حجره ويقول: (اللهمّ احكُم بينَنَا وبَيْن قَوْمٍ دَعُونا لينصُرُونا.. فَقَتَلُونا)!.. (أيام العرب في الإسلام، يوم كربلاء، ص417).. ثم قام ممتشقاً سيفَه، ليقاتل مَن خذلوه وغدروا به وبأهله.. حتى قُتِل، فلم يشفع له -رضوان الله عليه- تذكير خاذليه بمواثيقهم: (أيها الناس: إنها معذرة إلى الله وإليكم، إني لم آتِكم حتى أتتني كُتُبُكُم ورُسُلُكُم، أن أَقْدِمْ علينا فليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجعَلَنا بك على الهدى.. فقد جئتُكُم، فإن تُعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مِصرَكُم، وإن لم تفعلوا وكنتم لِمَقْدَمي كارهين، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي أقبلنا منه)!.. (تاريخ قصة الإسلام، الصحابة، الحسين بن عليّ).
وهي كلمات، نطق بمثلها -كذلك- ابنُ عمّ الحسين ورسولُهُ إلى أهل الكوفة، الذي أرسله إليهم، ليستوثقَ منهم العهدَ الذي عاهدوه عليه، فلما وصل إليهم بايعوه بأيْمَانِهِم، ونكصوا بشمائلهم، ثم انفضّوا عنه وتركوه وحيداً، فقال قبل أن يبلغَ مصيرَه: (هذا أول الغدر، فأين أمانكم؟!.. أنا مسلم بن عقيل، كَذَبَني هؤلاء القوم وغَرّوني)!.. (أيام العرب في الإسلام، يوم كربلاء، ص409 وص410).. إنه مسلم بن عقيلٍ رضي الله عنه، الذي بايعه ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة، من الذين وعدوا بنصرة الحسين رضي الله عنه، الذين ألحّوا عليه وحثّوه على القدوم إليهم، فأرسلوا العديد من الرُسُل والرسائل المتعاقبة: (فأقبِل لعلّ الله أن يجمَعَنا بكَ على الحق، فقد اخضرّت الجنان، وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فأقدِم على جُندٍ مجنَّدةٍ لك.. والسلام)!.. (تاريخ قصة الإسلام، الصحابة، الحسين بن عليّ).. ثمانية عشر ألفاً من الذين ناءت أعناقهم بالبيعة المغلَّظة، ما بقي منهم رجل على عهده، فقد ذابوا بلمح البصر، وغربوا، فلم يبقَ منهم أثر، ولم يظهروا إلا حين قَدِمَ إليهم -على العهد- سيّدُ شباب أهل الجنة.. ظهروا لا لينصروه كما وعدوه، بل ليقاتلوه.. ثم ليقتلوه، ثم ليُقيموا مآتم (عاشوراء)، ويُشبعونها لطماً على الوجوه والصدور، وتطبيراً (ضرب الرؤوس بالسكاكين الحادة)، وضرباً للظهور بالجنازير، ونُوَاحاً، وتباكياً.. عليه!..
إنه تقدير العزيز الحكيم، أن يكونَ يوم عاشوراء، هو اليوم الذي نجّى اللهُ عزّ وجلّ فيه نبيَّه موسى عليه السلام ونصره، وأغرق الطاغية الظالم الجبّار فرعون وهزمه.. وهو يوافق نفس اليوم الذي استُشهد فيه الحسين سيّد شباب أهل الجنة.. فذلك يوم سَحَقَ الله فيه الظلمَ والظالمين من فرعون وآله، وأحقَّ الحقَّ وأبطلَ الباطل، لأنّ قومَ موسى المؤمنين ثبتوا على عهدهم، وخاضوا معه الصعابَ والنوازلَ لا يتزحزحون عن الحق.. وهذا يوم استُشهد فيه الحسين مظلوماً، فكان ضحيةَ نكوص الناكصين، وغَدْر الغادرين، وظلم الظالمين، وانقلاب المخادعين، ونفاق المنافقين!..
* * *
حين نصومُ يومَ عاشوراء، نصومُهُ تقرّباً إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإحياءً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحنُ أحقُّ وأَوْلَى بِموسى مِنكُم) (رواه الشيخان عن ابن عباس).. وتَذَكُّراً لسنّة الله عزّ وجلّ في أرضه، بأنّ الحاكم الطاغية الظالم مهما امتدّ به الجور والباطل، ومهما تطاولت مدّة حكمه وتَضَخَّمَ غروره.. فإنه زائل، زائل بطرفة عَيْن، هو وعرشه ومُلْكه وجبروته وجنوده وزبانيته أجمعين: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59).. فما أضأل الظالمين أمام الله القويّ الجبّار المنتقم، قاصم الجبّارين في الأرض، الذي يسير كلُ شيءٍ في هذه الدنيا بأمره.. بأمره وحده لا شريك له، مَن يقتلع الطغاةَ المتكبِّرين ويبطش بهم، في الوقت الذي يظنّون فيه أنهم مَلكوا الأرضَ ومَن عليها وما عليها: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (الزخرف:8).
مضى الحسين بن عليٍّ -رضوان الله عليهما- إلى جنّة الخلد شهيداً إلى ربه، دفاعاً عن الحق الذي آمن به، ودَفْعاً للظلم الذي اعتقَدَ أنه قائم على رقاب الناس، ومحاولةً لتحرير الأرض والإنسان من دَرَن الدنيا ودَخَنها، مضى مؤمناً مجاهداً كريماً عزيزاً.. وترك للذين تخاذلوا عنه ثم قتلوه، ترك لهم التفنّنَ بإظهار غير ما أبطنوه من الخذلان والغدر، وبابتداع وسائلهم في اللّطم والتطبير والنواح وشقّ الجيوب، وبممارسة سلوكيّاتهم في الافتراء والعدوان وسفك الدم وتغذية الأحقاد وتزوير الحقيقة وإزهاق الأرواح.. وتكريس الظلم، وصَبِّ البلاء على الناس بذريعة الحزن على الحسين.. الحسين الذي تمالأوا عليه بالأمس كما يتمالأون اليوم على أمّة العرب والإسلام.. فيحتشدون ويتباكون ويلطمون، على الذي قتلوه ودفع حياته ثمناً للحرية وعربوناً لرفع الظلم.. يفعلون كل ذلك وبين ظهرانيهم عدوّ ظالم غاصب يمالئونه على احتلال الأرض وسرقة الثروة وانتهاك العِرض.. فهل هؤلاء وأمثالهم يملكون القِيَم التي اعتنقها سيّد شباب أهل الجنّة، وسار على هديها، ودفع حياته ثمناً لتحقيقها؟!.. ألا ليتهم يعلمون، ألا ليتهم يفقهون!..
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام