مع الحديث عن مفاوضات التقارب
هل هو بحث عن سلام ضائع؟
الشيخ حماد أبو دعابس
رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني
يدور الحديث في هذه الأيام عن محاولات الجمع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في مفاوضات تقارب, تضغط باتجاهها الولايات المتحدة الأمريكية. يأتي ذلك في فترة عصيبة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فبعد الانقسام الفلسطيني, والحرب المدمرة على غزة, والأسرى بالآلاف في الضفة , والجدار العازل, ومشاريع الاستيطان في القدس , والاستفزازات والاعتداءات المستمرة في محيط المسجد الأقصى المبارك, بعد كل هذا يطرح السؤال: على أي شيء يمكن أن يدور الحوار؟ وهل بقيت هنالك أي نقاط التقاء ممكنة؟ أم هو اللقاء لمجرد اللقاء؟.
منذ انطلاقة مشروع السلام الإسرائيلي الفلسطيني, في مؤتمر مدريد عام 1990, كانت سياسة المماطلة, كسب الوقت وفرض سياسة الأمر الواقع هي عنوان اللعبة الإسرائيلية . فقد قالها شامير في حينه: أريد أن اسحب هذه المفاوضات لعشرين سنة قادمة . وها هي السنوات العشرين قد انقضت وهي تراوح مكانها, وكان شيئا لم يحدث. بل أصعب من ذلك أن الواقع على الأرض زاد تعقيدا, مما لا يبشر بخير.
الجانب الإسرائيلي ردد دائما مقولة أن الفلسطينيين تميزوا عبر التاريخ بتضييع الفرص. يعنون بذلك تضييع فرصة حل الدولتين من خلال قرار التقسيم عام 1947. وتضيع فرصة اتفاقية السلام مع مصر والرئيس السادات عام 1979. وتضيع الفرصة مع رابين وبراك. ولكن ذلك كله جزء من الصورة وليس الصورة المكتملة بتاتا.
فلو استقرأنا مراحل تطور الصراع العربي الإسرائيلي لوجدنا أن حالة الشعب الفلسطيني في مواجهة المخطط الصهيوني الإسرائيلي, قد انتقلت في محطات مختلفة من القوة إلى الضعف. وحتى في اضعف حالات الشعب الفلسطيني, لم تمتلك إسرائيل القدرة التاريخية على حسم القضية من خلال المفاوضات. وبذلك تكون إسرائيل قد تفننت في تضيع الفرص وتفويتها. فالمشروع الصهيوني الذي بدا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, او في أواخره على وجه التحديد, كانت تقابله دولة الخلافة العثمانية, ففي حينها كانت القضية بين اليهود وبين العالم الإسلامي. ومع نشوب الثورة العربية, وحركات التحرر العربية, والانتداب البريطاني في فلسطين تحول الصراع على الأرض المقدسة بين اليهود من جهة والعرب من جهة أخرى. أما التراجع الثالث والخطير فقد كان بعد عام 1967, وحسم أمره بعد فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية. فأصبح حينها الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية. وحاولت إسرائيل أن تنفرد بالمنظمة لتملي عليها شروط السلام الإسرائيلي, وبلغ الأمر مداه في اتفاقية أوسلو, بين رابين وعرفات, كانت إسرائيل في حينها في قمة عنفوانها, والقضية الفلسطينية قد تقزّمت, من قضية كل المسلمين إلى قضية العرب, إلى قضية الفلسطينيين, إلى فصيل فلسطيني واحد بل إلى قائد فلسطيني وبدل أن تمضي إسرائيل قدما في مشروع سلامها, فقد أجهزت بنفسها على مشروعها من خلال مقتل رابين عام 1994. ثم عادت إسرائيل الكرة مرة أخرى وحاول براك الانفراد بعرفات وحسم المسألة في واي بلانتيشن, وكان قاب قوسين أو أدنى من التوقيع في القاهرة, وبعد ذلك إذ بالشعب الإسرائيلي يسقط حكومة باراك, وينتخب ارئيل شارون لرئاسة الحكومة الذي حاصر عرفات في المقاطعة وأجهز عليه بطريقة مباشرة وغير مباشرة, وضيعت إسرائيل فرصة أخرى لحصولها على سلام يوافق طرحها.
بعد الانحسار والتراجع الكبير في تمثيل الجانب العربي والفلسطيني وتقزمه إلى دائرة الفصيل الضيق, عادت الدائرة الفلسطينية والعربية والإسلامية لتتسع, وليس ذلك في صالح إسرائيل أبدا. فمشاركة حركة المقاومة الإسلامية حماس في القيادة الفاعلة للشعب الفلسطيني, من خلال فوزها في انتخابات عام 2006 وسعت دائرة القرار الفلسطيني, فلم يعد بمقدور إسرائيل أن تنفرد بحركة فتح. ومن خلال حماس عادت من جديد الدائرة الإسلامية , ودخلت إيران وحزب الله اللبناني على الخط, وأصبحت الدائرة تضم سنة وشيعة. والدائرة آخذة بالاتساع, وستجد إسرائيل نفسها يوما ما تقف في مواجهة العالم اجمع. كله يدينها على تعنتها, ومراوغتها ومحاولة فرضها للأمر الواقع, وتفريغها للاتفاقات من مضمونها. بل أكثر من ذلك لن يصبر العالم طويلا على مسلسل القهر الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. من حصار ظالم لغزة, وتقطيع منظم لأوصال الضفة الغربية, وانتهاكات مستمرة للمقدسات والأحياء الفلسطينية في القدس. يأتي الحديث عن تجدد المفاوضات, حيث لا أفق, ولا نور يبدو في آخر النفق. فنتنياهو يلعب لعبة شامير القديمة, يراوغ ويماطل, ولا يريد أن يتقدم خطوة واحدة. ويتمنى أن تحصل معجزة, لكي ينجو من تبعات هذه اللقاءات حتى لا يلتزم بأي شيء ولا بأدنى شيء على الإطلاق. أما أبو مازن فغاية ما يسعى لتحصيله هو الإثبات لأمريكا والعالم انه ليس هو العائق أمام تجدد المفاوضات, ولكنه لا يأمل بتحصيل شيء ذي بال في هذه المرحلة, التي يقود فيها نتنياهو واليمين المتطرف الإسرائيلي الدفة المقابلة. والجانب الأمريكي من جهته يرضى بمجرد جمع الأطراف على طاولة مفاوضات, لكي يسجل اوباما شيئا في عهده, أي: لقاء لمجرد اللقاء , واجتماع لمجرد الاجتماع.
في آفاق وتطلعات مثل هذه الحالة, أكثر ما ينقذ نتنياهو, هو أن يقوم طرف فلسطيني أو لبناني بتقديم الذريعة لإفشال هذه المفاوضات بعمل عسكري أو تفجيري أو ما شابه, ليبرر لنتنياهو الانسحاب والمماطلة من جديد لسنوات قادمة كالتي مضت من قبل.
إن ضبط النفس على الجانب الفلسطيني على الأقل في المرحلة الراهنة, والمصاحب للحصار المفروض على غزة يصور إسرائيل في نظر العالم كدولة معتدية, ولن تستطيع إن تلعب بعد دور الضحية. وينبغي للجانب الفلسطيني أن يستثمر الجانب الإنساني بشكل واضح وقوي في مواجهة الدعاية الصهيونية المتمرسة. ولا يستيهينن احد بمقدور الدعاية والإعلام, وإثارة الرأي العام والمنظمات الدولية. وطرح القضية الفلسطينية اليوم كقضية إنسانية عادلة على أجندة المؤسسات الدولية, وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. إن ذلك لا شك يسبب إحراجا لإسرائيل وأمريكيا, ويخدم الجانب الفلسطيني في تطوير مواقفه التفاوضية, والنضالية الساعية لفك الحصار وإنهاء معاناة الأهل في غزة الشموخ والإباء.