لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً
لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً
رضوان سلمان حمدان
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) }النساء19 - 23
المعاني المفردة
تَرِثُواْ:
كَرْهاً:
تَعْضُلُوهُنَّ:
بِفَاحِشَةٍ:
مُّبَيِّنَةٍ:
وَعَاشِرُوهُنَّ:
سبب النزول
عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. رواه البخاري في التفسير عن محمد بن مقاتل. ورواه في كتاب الإكراه عن حسين بن منصور كلاهما عن أسباط.
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غير وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت. أو تموت هي فيرثها فتوفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأة كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه بمالها فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث ابنه نكاحي وقد أضرني وطول علي فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا هو يخلي سبيلي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله قال: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: ما نحن إلا كهيئة كبيشة غير أنه لم ينكحها الأبناء ونكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
في ظلال النداء
لقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولاً شنيعاً يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية وتطلقها فتنة للنفوس وإغراء للغرائز ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل; وليوثق الروابط والوشائج فلا تنقطع عند الصدمة الأولى وعند الانفعال الأول :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات! إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه فمنعها من الناس وحازها كما يحوز السلب والغنيمة! فإن كانت جميلة تزوجها; وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها أو تفتدي نفسها منه بمال! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه!
وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد; حتى تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . كله أو بعضه!
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها!
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ويأخذ مالها!
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة; ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار أو علاقة بهائم!
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم اللائق بكرامة بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافاً . بكراً أم ثيباً مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيراً فيما يكره هو لا يدريه . خيراً مخبوءاً كامناً لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية تعلق النفس بالله وتهدىء من فورة الغضب وتفثأ من حدة الكره حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء; وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكناً وأمناً وسلاماً وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنساً ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة وحماقة الميل الطائر هنا وهناك . .
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه « لأنه لا يحبها » . . « ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟ » . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم « الحب » وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه؟! وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها؟!
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة . ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعاً أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس وترفع الاهتمامات وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة وطمع التاجر وتفاهة الفارغ!
فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء . أن الحياة غير مستطاعة وأنه لا بد من الانفصال واستبدال زوج مكان زوج فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق وما ورثت من مال لا يجوز استرداد شيء منه ولو كان قنطاراً من ذهب . فأخذ شيء منه إثم واضح ومنكر لا شبهة فيه :
{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً . أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟ } .
ومن ثم لمسة وجدانية عميقة وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف في تعبير موح عجيب :
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً؟ } . .
ويدع الفعل : { أفضى } بلا مفعول محدد . يدع اللفظ مطلقاً يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته . ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته . بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب . يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان . . وفي كل اختلاجة حب إفضاء . وفي كل نظرة ود إفضاء . وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء . وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء . وفي كل شوق إلى خلف إفضاء . وفي كل التقاء في وليد إفضاء . .
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . . فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف!
ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملاً آخر من لون آخر :
{ وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } .. هو ميثاق النكاح باسم الله وعلى سنة الله . . وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن; وهو يخاطب الذين آمنوا ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ .
وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريماً باتاً - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالاً . وكان سبباً من أسباب عضل النساء أحياناً حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه أو إن كان كبيراً تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :
{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} . .
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ولا يتوقف خضوعنا له وتسليمنا به ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة فحسبنا أن الله قد شرعه لنستيقن أن وراءه حكمة وأن فيه المصلحة .
نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه; فيصبح في خياله نداً له . وكثيراً ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعاً فيكره أباه ويمقته! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائداً في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحدة ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .
لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعاً غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتاً : أي بغضاً وكراهية . وجعله سبيلاً سيئاً . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .
والفقرة الثالثة في هذا الدرس تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء . وهي خطوة في تنظيم الأسرة وفي تنظيم المجتمع على السواء :
{حرمت عليكم أمهاتكم ... وأحل لكم ما وراء ذلكم . . .} . .
والمحارم - أي اللواتي يحرم الزواج منهن - معروفة في جميع الأمم البدائية والمترقية على السواء . وقد تعددت أسباب التحريم وطبقات المحارم عند شتى الأمم واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ثم ضاقت في الشعوب المترقية .
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها والآية التي بعدها . . وبعضها محرمة تحريماً مؤبداً وبعضها محرمة تحريماً مؤقتاً . . وبعضها بسبب النسب وبعضها بسبب الرضاعة وبعضها بسبب المصاهرة .
وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى ، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى . كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها . والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد . .
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات :
أولاها : أصوله مهما علوا . فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون : { حرمت عليكم أمهاتكم } . .
وثانيتها : فروعه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا : { وبناتكم } . .
وثالثتها : فروع أبويه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته : { وأخواتكم } . . . { وبنات الأخ وبنات الأخت } . .
ورابعتها : الفروع المباشرة لأجداده . فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه . . { وعماتكم وخالاتكم } . . أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم . ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات .
والمحرمات بالمصاهرة خمس :
1- أصول الزوجة مهما علون . فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة : سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل : { وأمهات نسائكم } . .
2- فروع الزوجة مهما نزلن . فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته وبنات أولادها ذكوراً كانوا أم إناثاً مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } . .
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين - مهما علوا - فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا . . { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } . . أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه . .
4- زوجات الأبناء وأبناء الأولاد مهما نزلوا . فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه وامرأة ابن ابنه ، أو ابن بنته مهما نزل : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } . . وذلك إبطالاً لعادة الجاهلية في تحريم زوجة الابن المتبنى . وتحديده بابن الصلب . ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم - كما جاء في سورة الأحزاب .
5- أخت الزوجة . . وهذه تحرم تحريماً مؤقتاً ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل .
والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } . . أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه . .
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر . وهذه تشمل تسع محارم :
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن ( وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته ) .
3- الأخت من الرضاع وبناتها مهما نزلن { وأخواتكم من الرضاعة } .
4- العمة والخالة من الرضاع ( والخالة من الرضاع هي أخت المرضع . والعمة من الرضاع هي أخت زوجها ) .
5- أم الزوجة من الرضاع ( وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها ) وأصول هذه الأم مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة - كما في النسب .
6- بنت الزوجة من الرضاع ( وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل ) وبنات أولادها مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة .
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا ( والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته . فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب وهي أمه من الرضاع . بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع ) .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل .
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع أو عمتها أو خالتها من الرضاع ، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع . .
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصاً في الآية . أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي : « يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب » . ( أخرجه الشيخان ) . .
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ولم يذكر النص علة للتحريم - لا عامة ولا خاصة - فكل ما يذكر من علل إنما هو استنباط ورأي وتقدير . .
فقد تكون هناك علة عامة . وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم . وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم .
وعلى سبيل المثال يقال :
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ويضعفها مع امتداد الزمن . لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة تضاف استعداداتها الممتازة فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها .
أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف واحترام وتوقير فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال - مع رواسب هذا الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .
أو يقال : إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور والأخت مع الأخت وأم الزوجة وزوجة الأب . . لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها والبنت والأخت كذلك لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها أو أختها التي تتصل بها أو أمها وهي أمها! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته . والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له لأنه سبقه على زوجته! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب!
أو يقال : إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة .
وأياً ما كانت العلة فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ولا بد فيه مصلحة . وسواء علمنا أو جهلنا فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئاً ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ مع الرضى والقبول . فالإيمان لا يتحقق في قلب ما لم يحتكم إلى شريعة الله ثم لا يجد في صدره حرجاً منها ويسلم بها تسليماً .
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ونص التشريع القرآني المبين لها :
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية - فيما عدا حالتين اثنتين : ما نكح الآباء من النساء ، والجمع بين الأختين . فقد كانتا جائزتين - على كراهة من المجتمع الجاهلي . .
ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها . إنما حرمها ابتداء مستنداً إلى سلطانه الخاص . وجاء النص : {حرمت عليكم أمهاتكم . . . إلخ} . .
والأمر في هذا ليس أمر شكليات; إنما هو أمر هذا الدين كله . وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله وللأصل الذي يقوم عليه : أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده . .
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده لأنهما أخص خصائص الألوهية . فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله . فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل ويحرم على الناس ما يحرم . وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك وليس لأحد أن يدعي هذا الحق . لأن هذا مرادف تماماً لدعوى الألوهية!
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل ، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلاً بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح ، لأنه لا وجود له منذ الابتداء .
فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلاناً أصلياً ، ويعتبره كله غير قائم . بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره - لأنها ليست إلهاً - ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء . فإذا أحل شيئاً كانت الجاهلية تحله أو حرم شيئاً كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشىء هذه الأحكام ابتداء . ولا يعتبر هذا منه اعتماداً لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها لأنها هي باطلة لم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام . . وهي الله . .
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة . . إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم في نكاح ولا في طعام ولا في شراب ولا في لباس ولا في حركة ولا في عمل ولا في عقد ولا في تعامل ولا في ارتباط ولا في عرف ولا في وضع . . إلا أن يستمد سلطانه من الله حسب شريعة الله .
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئاً في حياة البشر - كبر أم صغر - تصدر أحكامها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف . وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحاً واعتماداً لما كان منها في الجاهلية . إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام .
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته . وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده . مستنداً في إنشائها إلى سلطانه الخاص .
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه . . عني بتقرير المبدأ . فكان يسأل في استنكار : { قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ } { قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } { قل : لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير . . . } إلخ . .
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي . وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده . وليس ذلك لأحد من البشر . . لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين . . إلا بسلطان من الله . وفق شريعة الله . . والتحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة وهو الدين . فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس . فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله فالناس إذن يدينون لله وهم إذن في دين الله وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحداً غير الله فالناس إذن يدينون لهذا الأحد; وهم إذن في دينه لا في دين الله .
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها . وهي مسألة الدين ومفهومه . وهي مسألة الإيمان وحدوده . . فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر؟ أين هم من الدين وأين هم من الإسلام . . إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام!!!