مصطلحات مزيَّفة في زمن الاستعباد
مصطلحات مزيَّفة في زمن الاستعباد
د.محمد بسام يوسف*
لكلّ عِلمٍ مصطلحاته التي تُستخدم للتعبير عن حقائقه العلمية، ولكلّ فنٍّ كلماته، التي تشرح أصوله وفروعه وجزئيّاته.
السياسة عِلْمٌ من جهة، وفنٌّ من جهةٍ ثانية.. لذلك فهي تزخر بالمصطلحات العلمية والفنية، التي تدلّ على الموقف أو الظرف أو الحادثة في مكانٍ وزمانٍ معَيّنَيْن.. وبما أنّ السياسة في عصرنا الحاليّ، الذي ينعم فيه العالَم (بنعيم) السطوة والسيطرة والاستبداد والاحتلالات!.. بما أنها لم تَعُد عِلماً ولا فنّاً، فقد حوّلها سدنة ما يُسمى بالنظام العالميّ الجديد وأحبّائهم، إلى أكوامٍ من (الخزعبلات) و(الخرافات)، فأصبحت السياسة عِلم (اللفّ والدوران)، وفنّ (الاحتيال والتلاعب والخداع والنفاق)، وتحوّل العالَم إلى مسرحٍ أقرب للشعوذة منه إلى السياسة الحقّة، وتكاثر المشعوذون بشكلٍ مذهل، فأصبحت السياسة مهنة كلّ المخاتلين، الذين وجدوا فيها سِتاراً لنفاقهم وغشّهم ومواهبهم الخادعة!..
لقد أصبحت السياسة مهنةً عسكرية، حين توالت عمليات القفز على السلطة التي أتقنها العسكريون، للتربّع على كرسيٍّ سياسيّ!.. وأصبح المشهد أمام كلّ إنسانٍ في العالمَيْن العربيّ والإسلاميّ، يبعث على الضحك والبكاء والمرارة في آنٍ.. مشهد العسكريّ المُغرق في عسكريّته، الذي يقفز بانقلابٍ عسكريٍّ أبيض أو أحمر، فيجد نفسه على كرسيّ الحكم، فارِضاً حُكْمه وجنوده وزبانيته على ملايين البشر، باسم الديمقراطية والتصحيح والإصلاح وحقوق الإنسان!.. متى؟!.. في زمنٍ يحظى فيه عتاة المجرمين بنصيبٍ كبيرٍ من ممارسة (السياسة)!..
إنّ للعولمة بعض المزايا الإيجابية، والكثير من المزايا السلبية، وأبرز ما في العولمة من سلبيات، أن يتحوّلَ العالَم بمؤسساته وسياسيّيه إلى: (جَوْقةٍ) ممتدّةٍ لا تغيب عنها الشمس!.. تُردّد ما يُردّده قائد (الكَوْرَس)، بحسن نيّةٍ أحياناً، وبسوء نيّةٍ في أغلب الأحيان، فيصبح العالَم بكلّ مؤسساته السياسية والإعلامية، أسراباً من (الببّغاوات)، يسوقها غُرابٌ واحد!..
عندما نقول أو نسمع كلمة: (صرير)، لا بد أن نتوقّع أنّ الكلمة التي تليها هي: (القلم)، فتصبح العبارة المنسجمة: (صرير القلم).. وكذلك الحال بالنسبة لمصطلحاتٍ أخرى غيرها، من مثل: (خوار الثور) و(خرير المياه) و(فحيح الأفعى) و(حفيف الأوراق) و(زئير الأسد) و(مُواء القطة) و(نباح الكلب).. وغيرها.. وهكذا، فلا يصحّ مطلقاً أن يتغيّرَ المصطلح إلى غير التركيب الذي رُكِّبَ عليه.. وإلا فإنّ المشهد سيكون غريباً ومضحكاً وظالماً!.. فلا يمكن أن نقولَ مثلاً: (زئير الأفعى) أو (صرير الثور) أو (مواء المياه) أو (فحيح الكلب) أو (خرير القطة).. أو ما شابه!..
لكنّ كلّ شيءٍ ممكنٌ في زمن السياسة العرجاء، وعصر المصطلحات العوراء!.. والزمن الاستعماريّ والصهيونيّ، وعالَم (رعاة البقر):
- فالاحتلال والسطو والقتل واسترخاص الدم البشريّ يصبح: (نَشراً للديمقراطية)!..
- والتشريد والتدمير، واقتحام البيوت وهدمها فوق رؤوس ساكنيها، وإبادة البشر والشجر والزرع والضِّرع تصبح: (دفاعاً عن النفس)!..
- وانتهاك سيادة الدول وخرق القوانين الدولية واتفاقيات الأمم المتحدة، وشنّ الحروب والغارات وعمليات التجسّس والاغتيال السافر تصبح: (تصعيداً) أو (تسخيناً)!.. أو (مكافحةً) للإرهاب!..
- والانسحاب من أرضٍ أو مجموعةٍ من الأراضي المحتلة يصبح: (إعادة انتشار)!..
- والحرب تصبح: (سلاماً)!..
- والجهاد لتحرير البلاد والعباد من رِجس المحتلّ الغاصب يصبح: (إرهاباً)!..
- والمقاوِمُ لتحرير أرضه وعِرضه ووطنه من المحتلّ الغاشم يصبح: (إرهابياً) أو (مُسَلَّحاً)!..
- والخائن المتواطئ مع العدو المحتلّ للوطن الحرّ المستقلّ يصبح: (السيد الوزير) أو (السيد الرئيس) أو (صاحب الفخامة)!..
- والمجرم الدخيل صاحب المشروع المشبوه المريض يصبح: (شقيقاً) أو (رفيقاً) أو (حليفاً استراتيجياً)!..
- والتحريك يصبح: (تحريراً)!.. والهزيمة تصبح: (نصراً مؤزّراً)!.. والمغتصِب يصبح: (حليفاً)!..
- والاعتداء على المواطن، واغتصاب ماله وعِرضه، والسطو على بيته وممتلكاته يصبح: (أمناً)!..
- والفساد في الأرض يصبح: (تطهيراً)!.. والشهيد يصبح: (قتيلاً)!..
- وبائع الأرض بثمنٍ بَخْس، وهاتك العِرض، وقاتل الأحرار ومعذّبهم يصبح: (زعيماً تاريخياً)!..
- والاستخذاء والاستسلام والجُبن يصبح: (ضبطاً للنفْس)!..
- والخروج عن أبسط معاني الشرف والقِيَمِ والدّين والخلق القويم السويّ يصبح: (تقدّماً وتحضّراً)!.. و(خيراً) في مواجهة (الشرّ)!..
- والحكم الوراثيّ يصبح: (جمهورياً)!.. واللصّ يصبح: (طاهراً شريفاً)!..
- والانقلاب العسكريّ يتحول بقدرة قادرٍ إلى: (اقتراعٍ) انتخابيٍ واستفتائيٍ نزيه!..
- والنَّحْرُ يصبح: (انتحاراً)!.. والخيانة: (حُنْكةً)!.. والعبث: (خياراً استراتيجياً)!.. والعبودية والمهانة والذل: (تحرّراً)!.. والاحتلال بكلّ أشكاله: (تحريراً واستقلالاً)!.. والتحيّز السافر: (حياديّةً)!.. والتواطؤ مع المجرمين والظلم والظالمين: (نزاهةً) و(إحقاقاً للحقّ)!.. والخيانة وعَقد الصفقات المشبوهة تصبح: (ممانعةً).. ومصافحة العدوّ تصبح (صموداً) ومعانقته تصبح (تصدّياً).. إلى آخر كلمةٍ من المعجم السياسيّ العالميّ الاستعماريّ والاستبداديّ الظالم المزيّف.. بل الفضيحة!..
إنها لعبة المصطلحات وسِحرها، ومعاجمها المعاصرة، بكلّ شعوذتها ونفاقها ودَجَلِها، وجهلها وجاهليّتها!..
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام