الاجتهاد في ظلال الحراب لفكرية

الاجتهاد في ظلال الحراب لفكرية

د. صالح نصيرات

واشنطن

[email protected]

ينادي الكثيرون بالاجتهاد في الدين. وهو مطلب مشروع نظراً للتغييرات الكثيرة التي طالت وتطال كل يوم حياتنا في مناحيها المختلفة. وتصدر الدعوات من فريقين: فريق من أبناء الأمة وعلمائها المحققين الذين فهموا دينهم وعملوا بمقتضاه. وهذا الفريق يحاول ان يقدم رؤاه واجتهاداته مستخدماً المناهج الإسلامية التقليدية في الاجتهاد مع الاستفادة من المناهج الحديثة دون الذوبان فيها من خلال عملية توليف وموازنة. وفريق آخر يطالب بالاجتهاد بنزق. وهذا الفريق مجموعة من الباحثين في الفكر الإنساني العام وليسوا من أهل الدين أو العلم الشرعي. كما أن مطالبهم بالاجتهاد  لسيت   في كثير من الأحيان إلا رغبة في التخلص من الأحكام الشرعية التي اتقفت الأمة على ثباتها. وهم لا يميزون بين اجتهاد في النص والأصول واجتهاد في الفروع.

اجتهد أحدهم فجعل لباس البحر لباسا شرعيا، واجتهد آخر فزوج المسلمة من غير المسلم، واجتهد ثالث فقصر الصلاة من خمس إلى ثلاث، أما الرابع فقد اجتهد فقسم الميراث على هواه تاركاً المحكم الواضح وبحث عن متشابه موهوم.

إن الاجتهاد في ظلال حراب فكرية موجهة لعقل الأمة وقلبها لا يمكن أن يأتي بالخير. فالآخر الغالب والذي يملك سطوة الإعلام و النشر، لا يهمه الأمة و لا يهمه أن تتقدم، بل ما نراه اليوم من تكالب حقيقي على خيرات الأمة ومصادر قوتها المتمثلة في دينها ومواردها البشرية و الطبيعية يظهر بجلاء حقيقتهم.

 

إن الحالة الفكرية و العقلية التي تعيشها أمتنا هي في الحقيقة حالة المغلوب المسلوب أمام الغالب المستلب (بالكسر). فالذين يكتبون منادين بالاجتهاد يستخدمون مناهج وأسماء لا صلة لها بالإسلام و لا بشعوبه. فهذا أركون يريد تطبيق تاريخية هرمنيوطيقية وذاك ابو زيد يحذو حذوه، ويأتي شحرور ليكمل الحلقة بمناهج مستلة من الفكر الماركسي" البائد".

فكيف تثق الأمة بمن يريد أن يكون كتاب الله شبحانه وتعالى جثة هامدة يشرحها هؤلاء مستخدمين مباضع بارث ودريدا وهسرل ولاكان وسوسير وغيرهم؟ كيف يمكن للأمة أن ترى كتاب ربها سبحانه وتعالى نصاً مفتوحاً يتلاعب به هؤلاء دون أدنى تقديس، وإذا وقف أحدهم أمام نص بشري يحمل" الإبداع" برأيهم وهو في الحقيقة لا يحمل سوى الكفر والضلال وقفوا موقف الاحترام و التبجيل؟

ماذا يمكن أن تأتي من خير على يد هؤلاء؟

القرآن وما فيه من علم الغيب و أحوال الآخرة " أساطير"  وخيالات مجازية لا صلة لها بالواقع. القرآن نتاج حياة جاهلية جاء ليعكس تلك الحياة لا ليكون دستوراً أبدياً للبشرية، هو "مدونة مغلقة داخل السياج الدوغمائي"  " الرسالة المحمدية محلية ولا علاقة لها بالعالمية " القرآن مخلوق داخل الزمن" " تاريخي يفسر في ظل سياقاته الأولى". 

إن المسلمين يدركون –بوعي- أن المطلوب منهم أفراداً وجماعات أن يدخلوا طوعاً أو كرها في العصر الأمريكي. فإذا دخلوا طوعاً كما فعل البعض، فهم" المعتدلون" و الإنسانيون" و التقدميون الطلائعيون". أما الذين اختاروا الممانعة والمقاومة العلمية والفكرية، فهم متحالفون مع الإرهاب ومحرضون على التطرف. إن علماءنا الذين اختاروا الطرف الآخر المقابل للهيمنة والسطوة، لم يعودوا في نظر هؤلاء سوى عوائق أمام التقدم و التحديث. ولذلك، لما استهلك هؤلاء الحداثيون كل وسائلهم التي اعتقدوا أنها ناجعة لإقناع الأمة بما يزعمون انتقلوا إلى أسلوب رخيص يبنىء عن " علميتهم" وموضوعيتهم"  وتقدميتهم، إنه أسلوب المشركين الأولين.  التشهير والإساءات الشخصية. ألم يكن محمد بن عبدالله الصادق الأمين في نظر المشركين ساحراً أو مجنوناً أو شاعراً أوووووو... ألم يعد علماء الأمة  في نظر هؤلاء  ظلاميين و متخلفين؟؟؟؟ ألم  تعد الحركة الإسلامية بكل أطيافها وفصائلها –في نظر هؤلاء- مجموعات ظلامية تعيش على أوهام الدين ولتدين؟؟

ثم بعد ذلك يأتون ليقولوا إنهم حريصون على الدين و التدين وإنهم لصادقون!!! فهم حريصون على دين العلمانية الذي يتدثرون به. وللأسف  أن بعض السذج من قرائهم يظنونهم على خير.

 إن الذي أتيح له أن يقرأ الفكر العلماني من جذوره ويتعرف على فكر هؤلاء عن قرب  يعرف تمام المعرفة إلى أي مستوى من التخبط والعبث و التراجع قد وصلوا. إن قراءة العلمانين الغربين لا تلاميذهم الصغار هو الأجدى فكبار العلمانين الذين يعرفون مستوى أفكارهم لا يتوانون عن التراجع عندما تلوح لهم بوارق الصحة. ألم يرجع بوكاي وغارودي ويوسف إسلام والآف من الغربيين إلى نور الإسلام  والكثيرون يعبرون ظلام الكفر إلى نورالإسلام يوماً بعد يوم. لقد قرأءوا أولئك بلغاتهم وعرفوا ثمار تفكيرهم وعاشوا مر حصادهم، فكانت الخيبة كبيرة والمردود صفراً.

لقد بشروا بالماركسية حيناً فلم يحصلوا منها إلا على سطوة الكي جي بي وسفك دماء الأبرياء وسحق الملايين بالحديد  النار، وجربوا النازية فمل يحصدوا سوى الخراب، وجربوا الفاشية فأتت على الكثير من تقدمهم. واليوم يعيدون الكرة، فيجربون عبثية دريدا، وتخريفات فوكو وأساطير بارت. وهم في تقلبهم يعمهون. فكل أمة جاءت لعنت من سبقها. ألم يهيلوا التراب على الحداثة ويأتوا بما بعدها؟ ألم يدعوا البنيوية ويأتوا بالتفكيك ليقبروه ويأتوا بما بعد التفكيك؟؟؟

أما تلاميذهم عندنا  ألم يحكموا البلاد ويتحكموا بالعباد؟؟ ألم يستوردوا المناهج والخبراء ؟؟ ألم  يرسلوا مئات الآلاف من الأبناء و البنات إلى الغرب منذ النهضة المزعومة  وحتى اللحظة؟؟ فماذا كانت النتيجة؟؟

إن تهيئة جو للاجتهاد لا يمكن أن يحدث في ظل سطوة ليبرالية على الإعلام ووسائله المختلفة مهمتها العبث بعقول الشباب وتقديم الرخيص من الأفكار والبرامج. لن يكون الجو مهيئاً و مناهجنا التعليمية مازالت تراوح مكانها. إذا كان العلمانيون حريصين على الاجتهاد، فهذا ميدان التربية والتعليم ليلجوه وليكونوا عوناً لأمتهم على الخروج من بيئة تقليدية ومناهج عفا عليها الزمن.

لكن المشكلة أن كثيراً من هؤلاء يعتقدون بأن إشاعة التفكير العلمي والتفكير الناقد وتحديث المناهج لا يكون إلا باستيراد الأفكار والمناهج وهم يعرفون النتيجة سلفاً. 

لدينا في عالمنا العربي و الإسلامي عشرات الآلاف من الخبراء ولدينا المعاهد العلمية التي اثبتت قدرتها على التعاطي مع الحياة ولدينا الإمكانيات المادية وفوق ذلك كله لدينا دين بنى حضارة يوم كان الغالب اليوم في ظلمات الجهل. هذا الدين لم يتغير فالكتاب هو الكتاب والسنة هي السنة ، لكن طُرح هذا النور جانباً وأُبعد المخلصون لدينهم وعقيدتهم وأمتهم عن مراكز التوجيه والقرار فكانت النتيجة التي نحصدها اليوم، فشو اللامبالاة وكسل  في العقول ولهاث وراء المادة.    

إن الحراب الفكرية المشرعة نحو نحر الأمة لابد من مواجهتها ليكون الاجتهاد ناشئاً عن قناعات حقيقية واحتياجات ضرورية لمواجهة الحياة، وليس تحت ضغط لن يؤد إلا إلى أحد أمرين استمرار الحرب الفكرية بين معسكري الإسلام و العلمانية أو اجتهاد منقوص لا يقدم و لا يؤخر.