ورقة في الحب
محمد المهدي السقال
القنيطرة / المغرب
[email protected]
الحب
كالأسطورة ، تتعلق بدلالتها الخالدة ، لكنك لا تستطيع تجسيدها في الواقع،
ويضيق الحب عن إمكانية التحقق أكثر ، لأننا نعيشه بوهم الحلم في التعلق
باكتماله ، مرهون الوجود بكائنين أطلق عليهما الرجل والمرأة
.
و لأنه
كالأسطورة فيما أتصور، سيبقى خالدا في حدود تجريديته ، دونما حاجة للتفصيل
في شحنته الانفعالية ، بمنطق
التقسيم العقلي للكيان على أنه جسد وروح أو
على أنه جنس ووجدان
.
أتساءل كيف أننا نعجز عن تجديد العلاقة بأسطورة
الحب ، انطلاقا من ذواتنا وتجربتنا الشخصية في الزمان والمكان ، كيف أننا
لا نجرؤ على الانشغال بالحب خارج الطقوس التي تحفل بها الذاكرة .
هل جربنا
ممارسة الحب كقيمة إنسانية كما نجرب ممارسة الصبر و التضحية والإيثار و
أشياء أخرى لها أكثر من تمثل أسطوري في التاريخ الإنساني؟
إن سؤال الحب ما زال مطروحا من منظور علائقي لم يتخلص بعد من
الرؤية إليه كضرورة ثنائية
.إنما
نعيش بالمتعارف / بالمتواضع،دونما قدرة على الاجتراء مرة، كي نعيش
بالمحدث ، فقط لأن في المحدث الضلال / طبعا ليس بالمفهوم الديني
.
بين
الحب واللعنة صلة غريبة ، فقد ارتبطت اللعنة في الذاكرة الدينية بشخصية
إبليس الذي تحققت له الغواية الأولى في غيبة الرقابة الإلهية ، حتى كان ما
كان من أمر التفاحة بحواء الأولى ، ليخرج من دائرة الملائكية المعصومة،
ويصبح رمزا لأزلية الطرد والإبعاد ، من يومها واللعنة مصاحبة لإبليس ، فقط
لأنه أعلن العصيان في وجه من مثل لديه مصدر الحب المطلق للذات المفردة ،
فصدمته بمنافسة الخلق من تراب بعدما ظن تفرده بالخلق من نور ونار
.
في
اللغة التي حد دلالتها الشرع على الخلفية الدينية ، فإن موجبات اللعن
ثلاثة وهي: الكفر والفسق والبدعة ، وهي في مدلولاتها الموجبة للطرد
والإبعاد ، لا تنفصل عما يستوجبه التفكير في الحب خارج طقوس المتعارف عليه
، حين يجرد من قدسيته الوهمية ويصبح رديفا للاتصال دون أن يكون بديلا عن
الانفصال.
الحب بصورته العاطفية،أجمل أكذوبة أوهم الإنسان نفسه
بتصديقها، فجعل منها شماعة يعلق عليها عجزه على أن يكون هو هو وليس ما
يراد له أن يكون
.
ليتني جربت الحب الذي يتم التداول حوله بمفردات لا
يستقيم معناها في ذهني إلا موصولا بألفاظ المعاجم، و إلى حين بلوغي بعضا
مما يتحدث به غيري ، سأبقى على هامش الحب أبحث عن معنى له في الأساطير.الآن
نلج نفق الحب بأسئلة البحث عن معنى مطلق ، لعله كامن في لاوعينا يمارس
الحفر في الذاكرة البعيدة ، غير أننا في زحمة التشظي بين أشكال الأشياء
حتى لا أقول أطيافها ، تركنا الوعي الزائف بها صاحب الأمر في نشاط الذهن ،
مفضلين الكساء بالوهم على العري بالحقيقة
.
على طول النفق الذي تنفسنا
منه عبق الحب في مقروءاتنا، لا يبدو أننا كتبنا شيئا عنه ، يتحدث فينا
جهارا ولا نتحدث عنه إلا همسا، يصادر إرادتنا في البوح بأحكام جاهزة لها
ألف حيثية وحيثية ، فيأسرنا داخل بيت أوهن من خيط العنكبوت لكنه أصم من
الحجر ، هل كتبنا عن الحب؟ ما زلنا نداري باللغة التي احتوته في حدود
الاختلاس، حذر الوقوع في اللاحب، فتصيبنا لعنة إبليس ونطرد من جنة الحب
.
لم
أعرف الحب إلا بطقوس جنائزية ، أستحضر الأسماء التي ورثناها رموزا للحب
فلا أعثر إلا على النهايات الفاجعة، حتى صار عندي رديفا للفجيعة،ثم
أتساءل:كيف يتحول الحب الذي ارتسمت له في المخاييل كل ألوان الفرح بالوصال
-
و ليكن الجنس عنوانه بضرورة الطبيعة - إلى شجن تلعق فيه كل أشكال المرار
؟
قال سقراط :
اعرف نفسك بنفسك ، فاعتبروه ينزل الفلسفة بكل حمولاتها
الأسطورية من السماء إلى الأرض ، ولم يقل اعرف نفسك بالآخر ، لعله فطن إلى
الإلغاء الممكن للنفس في فرديتها الفطرية ، لفائدة ما يترتب عن ذلك من
احتواء هو نفي للكينونة والوجود ، ولذلك فيما أظن صلة بموضوعة الحب ، لأنه
يقتضي المعرفة بالذات من خلال حتمية الآخر ، وليكن ما أو من يكون ، فالحب
بصورته التي نقرأها ونكتبها لا يعدو أن يكون فضاء للمحو الذي لا يسعف
بلحظة في معرفة النفس بالنفس .
لذلك أتصور أننا لا نكتب شيئا عنه بغير
منطق الاحتواء الذي يستتبع المحو
.
نستأنس عادة بما أضافه تحليل العلم
من إفادات موثقة حول موضوعة الحب في صلته بما هو بيولوجي ، رغم أن بعضها
يبقى موضع تساؤلات من جهة العلم نفسه ، إذا اعتبرنا الفرضيات في هذا
المجال أغنى مما تم التحقق منه مخبريا
.
ذلك أن حديث العلماء عن
الإفرازات التي تنجم عن الوصـال العاطفي ، لا تعدو أن تكون مثل باقي ما
يعرفه الدماغ من تفاعلات إزاء الانفعالات الإنسانية في مواقف شتى بين
الرغبة والرهبة ، و بالتالي يصعب تمييز الحب بخاصية محددة، يمكن معها
الادعاء بوجود علامة فارقة نستطيع تصنيفها ضمن إطار خاص تحت عنوان الحب
.
لن
أدعي بأن اللغة العربية لم ترق إلى تمثل مفهوم الحب في تعبيرات من انشغلوا
به عاطفيا أو اشتغلوا عليه فكريا، ولكنني أستطيع ادعاء عجز أولئك وهؤلاء،
عن تمثيل مشاعرهم أو أفكارهم إزاء الحب، بمفردات من صميم طبيعته في الوجود
الإنساني، بحيث رهنوا دلالته بتجاربهم الفردية ضمن شروطهم الموضوعية في
الزمكان، بل كانوا في أحسن الأحوال، يرهنونه بخلفياتهم الدينية من زاوية
نظر فهمهم لمقولات النفس الفلسفية، خاصة ما يتعلق منها بما يتآلف ويتنافر
على الاتصال والانفصال.
ماذا نحفظ مما تبقى من شعر حول الحب في قصيدة
الغزل العربية، أكثر من تقسيمه بين عذري مثله جميل وكثير ، وغير عذري
-
حتى لا أسميه بما شاع عنه - جسده بالاختلاف عمر بن أبي ربيعة وبالتماثل
أبو نواس؟
لم أعرف -إلى إشعار آخر- أعمق من
‘’
ابن حزم
‘’
في معالجته
لموضوعة الحب، رغم أنه بين يدي
‘’
أعزه الله
‘’
لم يكن حرا للتفصيل
والتمثيل بالقدر الذي كان يفكر به في الحب فلسفيا ، ولعل رؤيته ذات صلة
برفضه القياس في المجال الفقهي ، فتجاوز طرحه لمفهوم الحب، تلك الأعراف و
الحدود التي أريد لها أن تبقى الإطار والمرجع في النظر إليه
.
سبقه
‘’
ابن طيفور
‘’
في
‘’
بلاغات النساء
‘’
، لكن قراءته ظلت محاصرة بتأويل
البحث عن مسار تطور الفعل النسائي و حجم حضور المرأة في الحياة الخاصة
والعامة ،دون أن ننتبه لما عبر عنه ابن طيفور ، باعتباره وجها آخر لتمثل
معنى الحب اتفاقا واختلافا مع المتداول ، لما شكله سياق التأليف من إكراه
حال دون تمكن صاحبه من الخروج عن دائرة التلميح و الإشارة
.
لقد ورثنا
عادة الحب فمارسناها بالقياس على الغائب تحت عنوان عريض لا يتحيز فيه الحب
إلا موصولا بين الجسد والروح ، فبقيت قيمته ثابتة التأرجح بينهما ، دون أن
تتحقق لها إضافة نوعية على مدى تاريخ طويل ، يمكن معها القول بوجود الحب
كقيمة وجودية غير متصلة بالضرورة بأشكال التفكير فيه على خلفية ما ، وهذا
بيت القصيد في تصوري المتواضع.