القرية الكونية..
وحمي الجراحات التجميلية
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
حب الجمال والتجمل غريزة إنسانية قديمة، جديدة، متجددة. وهي تقع ضمن أحلام البشر بالخلود والمُلك الباقي، والجمال الآسر الذي لا يبلي، وكان هاجسهم استمرار الحيوية وبقاء الشباب الدائم ليتمتعوا بلذة الحياة، فبحثوا ونقبوا عن"إكسير الحياة" الذي يعيد للمرء شبابه وحيويته. وإذا كان ذلك الحب وتلك الغريزة للرجال من الأمور التكميلية، فهي للنساء من الأمور الحاجية/ الضرورية، لذا فجراحات التجميل من اقدم الجراحات، قام بها قدماء المصريين ووصفوها في أدبـياتهم، وبدت جلية مرتسمة علي أنوف وعيون مومياواتهم.
ففي بردية "إدوين سميث" الشهيرة (تم اكتشافها في الأقصر عام 1861م، ويعود تاريخها إلي عام 1700ق.م.) توجد فيها ـ ضمن وصفات علاج 48 حالة من الجروح والقروح والكسور والأورام ـ"تعويذه لتحويل الكهل إلي شاب". وخلال القرن الثامن قبل الميلاد كان أطباء الهند القديمة (كما في سوسروتا) قد استخدموا ترقيع الجلد، واستمر استخدامه حتى أواخر القرن الثامن عشر. وكان جدع الأنوف أمرا شائعا خلال القرون الوسطي في الهند وغيرها من البلدان كنوع من التنكيل بالمجرمين أو الأسري أو كمضاعفات لأمراض كالجذام، لذا فكان بعض الجراحين يستخدم قطعاُ من جلد الجبهة حيث تدار ويغير موضعها لتغطي هذا العيب وتجمله، وفي العصر الحديث رد الاعتبار لهذا "التجميل علي الطريقة الهندية".
وبدءاً من القرن الأول قبل الميلاد تمكن الأطباء الرومان من استخدام تقنيات بسيطة لإصلاح أضرارا في الأذن. بينما في منتصف القرن الخامس عشر نجد وصفاً من الطبيب "هاينريش فون فولسبيوندت" لـ "صنع أنف جديد لشخص ـ كانت الكلاب قد أكلت أنفه ـ وذلك عن طريق قطع جلد من خلف الذراع واستعمالها لصنع الأنف الجديد". وبالنظر إلى المخاطر المرتبطة بمثل هذه الجراحات لم تصبح مألوفة حتى القرنين الـتاسع عشر والعشرين.
وبأدوات صممها بنفسه.. أجري الطبيب "جون بيتر ميتاير" أول عملية تجميلية وظيفية لإصلاح شق سقف الحلق cleft palate في العام 1827م،. بينما يعتبر النيوزيلاندي السير"هارولد جيليز" "أبو الجراحة التجميليه الحديثة" حيث وضع العديد من التقنيات الحديثة في جراحه التجميل والعناية للمصابين بتشوهات الوجه في الحرب العالمية الأولى. وقد توسع عمله في الحرب العالمية الثانية على يد أحد أقربائه ومن تلاميذه وهو "أرشيبالد ماكيندو" الذي يعتبر رائد جراحات التجميل لمن عانوا من الحروق الشديدة.
وفي الآونة الخيرة..لا تكاد تطالع صحيفة أو مجلة أو محطة إذاعية أو قناة فضائية، أو ترتاد دارا سينمائية أو موقعاً إلكترونيا، إلا وتغمرك:"إعلانات عمليات التجميل، وطرق إعادة الشباب علي احدث صيحات الموضة.. وتبهرك صور نساء رائعات الجمال، وأخري لنجوم السينما في مظهر بهي.. ويطفو "إلحاح المقارنة" داعياً إلي ُبذل الغالي والنفيس.. مالاً وجهدا، بل وروحاً.. خشية ما يفعله المشيب:
ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب.
ونري كثيرون يسعون لصنع جمالهم الخاص، و"تسويق شخصياتهم" ليصبحوا بمظهر" اجمل" ويتبارون في ذلك. وتشير دراسات الأكاديمية الأمريكية لجراحة التجميل إلي أن أكثر الجراحات شيوعًا هي عمليات شفط الدهون وإزالة ترهلات البطن (ازدادت من 71 ألف حالة عام 1990م إلى 600 ألف حالة عام 1999م)، وجراحات تضخيم الثديين (ارتفع بنحو ستة أضعاف في نفس الفترة)، وشهدت جراحات شدّ الوجه، وإزالة الطبقة السطحية من جلد الوجه ليبدو أصغر سنًّا زيادة مماثلة في نفس الفترة المذكورة (مليون ونصف مليون أمريكي أجروا عمليات العلاج الكيميائي لجلد الوجه في العام الماضي مقارنة بأربعة وستين ألفًا فقط عام 1990م)، كما إن هناك عمليات تغيير الشكل لينسجم مع "نموذج هوليود ووسائل الإعلام" إذ تكثر عمليات نفخ شفاه الإناث على شاكلة بعض النجمات الأمريكيات وغيرهن.
وكانت الممثلة "فيليس دلير" هي الأولى التي أعلنت عام 1971م عما أجرته من جراحات تجميل وبذلك فتحت الباب على مصراعيها أمام الجميع، وكسرت الحاجز النفسي حول ذلك.
"كايتي هولمز" وعيناها الغامضتان، وشفتان مكتنزتان مثل شفتي "أنجلينا جولي"، وقد ممشوق لـ"جيسيكا بيل".. مكونات لجسد امرأة نموذجي تطمح الراغبات في إجراء جراحات تجميل في "بيفرلي هيلز" علي الأقل في الحصول على هيئة أو صفة مميزة في وجوه وأجساد مثل هؤلاء النجمات. فالأوصاف الخاصة بالممثلات الثلاث تصدرت القائمة السنوية "لأكثر نجمات هوليوود إثارة".
وتقرر الدراسة أنه في العام 2003م، تم إجراء7.2 مليون عملية جراحية تجميلية بين الأمريكيات، وخضع الرجال لـ 1.1مليون عملية، مما يعد "كالصناعات الثقيلة التي تدر مليارات الدولارات". ولا غرو أن تجد لوس انجلوس اليوم تضم أكبر عدد من جراحي وعيادات ومراكز التجميل في العالم، ومايجري فيها وحدها يفوق ما يجري في أي مدينة أخري داخل أو خارج أمريكا. "زبائننا يحضرون إلينا بهدف رفع مستوى جمالهم ونضارتهم. إنهم يرغبون في أن يبدوا مستريحين ونشطاء، وقبل كل ذلك شبابا مثل المشاهير الذين يرونهم في المجلات اللامعة".
أما في بريطانيا فقد زادت نسبة جراحات التجميل إلى 50%، وقد أنفق عليها البريطانيون عام 1999م ما يزيد عن 158 مليون جنيه إسترليني، وتأتي عمليات تكبير الثدي في المقدمة، ثم جراحة شفط الدهون، وتجميل الأنف وإزالة الأكياس الدهنية من منطقة العين، وعمليات شد الوجه على التوالي.
بينما في مجمعاتنا العربية فقد بدأت عمليات التجميل تنتشر، ويشير الصحفي "أندرو هاموند" في كتابة "الثقافة الشعبية العربية" الصادر عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة:"في العام 2003م شهد العالم العربي قفزة في عدد عمليات التجميل التي أجريت من 380 ألف عملية سنويا لتصل إلي 650 ألفا، وفي مصر وحدها قفز العدد من 55 ألفا إلي 120 ألف عملية، ويورد الكاتب تبريرا يفسر الظاهرة في مصر بأنها تعود إلي إحباط المصريات من مقارنة أزواجهن المستمرة لهن بنماذج اللبنانيات اللاتي يتسمن بالرشاقة ومقاييس الجمال الغربية"، فيعمدن إلي اجراء تعديل غير أساسي علي أجسامهن، وكذلك النجمات كبيرات السن ليبدون اصغر عمرا.
جراحة التجميل Plastic / Cosmetic Surgery (كلمة Plastic مشتقة من الكلمة اليونانية plastikos أي: يقولب/ يشكل) فهي جراحات تجرى لأغراض وظيفية أو جمالية، فمن أغراضها الوظيفية والضرورية: جراحة الحروق وتشوهات الكوارث والحوادث والمشاجرات (وخصوصا مشاكل الوجه والأطراف)، والقرح المزمنة وجراحات تشوهات الأطفال مثل الشفة الأرنبية، وشق سقف الحلق، وإصلاح مجري البول عند الأطفال، وتشوهات الجمجمة والوجه وغيرها. فجراحات كهذه لتقويم عاهة أو تشوه خلقي أو طارئ بسبب حادث فإن الأمر يكون مقبولا وطبيعيًّا.
أما الأغراض التجميلية فهي تهدف إلي استعادة التناسق وإضفاء مقاييس الجمال المناسبة علي أبرز أجزاء الجسم كأجزاء الوجه والصدر والبطن والأرداف (طريقة الجراحات تختلف حسب الحالة، وحسب سمات الأجناس البشرية المختلفة، وحسب الطلب ووفق تصاميم معينة وغالبا كومبيوترية.. فهناك قوائم تضم عشرات الأشكال للأنف وللشفاه وللعين، ويختار الشخص الموديل الجديد الذي سيغير شكله إليه!) أو إزالة آثار التشوهات من جراحات سابقة الخ.
ويعد تجميل الأنف من أدق وأكثر العمليات شيوعاً، لما للأنف من مكانة على عرش جمال الوجه تعبر عن العزة والشموخ / أو الذلة والمهانة.."عنوان" دال علي الشخصية، وعيوبه تسبب كثيراً من الضرر النفسي وعدم الثقة. والأنف له علاقة قوية مجتمعة مع العين والفم والأذن ووضعيته في منتصف الوجه وكل هذا في تناسب، واستقلالية وفق كل شخصية. ومع ذلك كانت أنف الأنثى الأكثر طلبا للتقليد هي أنف" كاثرين هيجل" نجمة مسلسل "تشريح جراي" "غراي اناتومي"، وبالنسبة للرجال، كان أنف الممثل "ليوناردو دي كابريو" محل الطلب.
ويجري تجميل الأنف عبر إعادة تشكيل جزءوه العظمي وتكسيره وإزالة الجزء الزائد منه، وتصليح الغضاريف (تصغير/ تكبير، رفع / تقصير الخ)، وقد يتم تضييق فتحتي الأنف.أما في حالات الأنف الأفطس فأنه يتم وضع مواد خاصة في مكان العظم الناقص للوصول إلى الشكل المناسب، وللكومبيوتر دور هام في قياسات عظام الأنف، أما بالنسبة لأنسجته الرخوة، فإن دوره فيها ضعيفاً. لكن الشكل النهائي للأنف قد لا يكون واضحا للعيان قبل عام أو أكثر، من الجراحة، حيث أن الإلتئام بالنسبة لعمليات الأنف أبطأ إذا قورن بعمليات تجميل أخرى، وخلال تلك المدة يتوقع المرء ردود فعل متباينة من أهله وأصدقائه وزملائه.
ولا يقتصر تجميل الوجه وإعادة رونقه ونضارته ليبدو في حالة جذابة علي الأنف فقط بل هناك: شد الوجه والرقبة وإزالة ترهلاتهما، وإزالة الجيوب الدهنية، وحقن الشفاه بالكولاجين لتكبيرهما، وتناسق الحاجبين وشد الجفون والخدود.. عبر ملئها بدهون مشفوطة من أماكن أخري من نفس الجسم (يؤدي الحقن بالدهون إلى تقلص التجاعيد وتخفيفها والحصول على بشرة ناعمة، وبهذا لا تنتج حساسية أو أثار جانبية، كما يمكن استخدام كميات أكبر من الدهون في الحقن، بعكس حقن أنواع أخرى من المواد. يؤدي حقن الدهون في الطبقات الداخلية العميقة للجلد في الوجه إلى تخفيف بروز العظام والنحول الذي يصاحب التقدم في العمر)، أو حقن البوتوكس أو استعمال الليزر، والتنعيم الكريستالي أو التقشير الكيميائي. وكان الإقبال اكثر طلبا على وجنة الممثلة البريطانية "كيرا نايتلي"، بينما أدرج اسم "باريس هيلتون" في مقدمة أجمل بشرة تريدها النساء. ولم تغب وجنتا الممثل "جورج كلوني"، وشفتا "مات ديمون"، والعينان الزرقاوان للممثل "دانييل كريغ" عن اللائحة.
لم يكن نجاحها فقط بسبب شفاهها التي كانت تكبر وتصغر خلال حلقات الجزء الأول من مسلسلها (Bay watch).. ولكن يؤكد مختصون أن صدر "باميلا اندرسون" كان هو السبب الأول في نجاحها في ذلك المسلسل.
وتعتبر عمليات تكبير الصدر من الشيوع والكثرة بمكان، ولها غرضان: تعويضي تكميلي ترميمي بعد ضمور أو استئصال الثدي أو أجزاء منه بسبب أورام سرطانية، وتجملي لزيادة حجمه. وكانت تجري هذه الجراحات عبر الحقن الموضعي للهرمونات بعد معالجتها كيميائياً بمادة الجيل، لكن أنتجت مضاعفات خطيرة أهمها أورام الثدى، ثم كان زرع هُلام السيليكون ومعالجاته Silicone gel implants ، لكنه بعد إثارته الكثير من الجدل، وتسببه في حالات من السرطان أيضا وكونه يصبح جزءاً من نسيج الجسم الضام ويختلط به اختلاطاً شديداً، وإثارته الخلايا السليمة وقد يدمرها، فكان هناك مادة الصويا وزيوتها المعالجة بديلة عن السيليكون، وهناك المحلول الملحي Saline implants. وتشير دراسات إلي أن مزروعات الثدى تزيد من خطر الأنتانات الجرثومية بنسبة 2.5 %، وبمقدار أعلى بعشر مرات عند السيدات اللاتى يخضعن لعمليات التجميل التعويضية (فضلا عن أن التدخل الإشعاعي والكيماوى المستخدم في علاج الأورام يؤخر التئام الجروح)، ولعلاج تلك المضاعفات هناك حاجة لإزالة تلك المواد المزروعة.
لكن علي الجانب الآخر هناك تصغير الثدي لكنه ليس بشيوع التكبير، فهناك نسوة لديهن أثداء كبيرة (كان يكون أكثر من 5 كيلوجرامات) ومترهلة وتشكل عبئاً كبيراً على أجسامهن وقد تؤدي إلى انزلاق غضروفي في الظهر وضغط على العمود الفقري، لذا هن بحاجة لتدخل مناسب.
والتجميل لا يقتصر الوجه والصدر فقط، وإنما يشمل الجسم أيضاً.. لذا فهناك شفط الدهون (البطن والأجناب والأرداف والأفخاذ) من أكثر عمليات التجميل بين النساء، وتأتي أهمية عمليات شفط الدهون مع جدلية نجاح/ او فشل الحِميات الغذائية. وعبر تقانة الليزر.. هناك إزالة الشعر الزائد من أماكن الجسم، وكذلك في علاج البقع الجلدية وفى إزالة ندب الجروح السابقة. وكان جسد لاعب كرة القدم "ديفيد بيكام" ألأكثر اهتماما من محبي الرشاقة ومن الرجال.
إن "حمي" الجراحات التجميلية" قد تعود إلى عوامل منها: زيادة نسبة كبار السن، وارتفاع الدخول، واحتدام التنافس بين جرَّاحي التجميل مما جعل تكاليفها في متناول أعداد أكبر من الناس، وكذلك فإن الأساليب الجديدة لها جعلتها أسهل وأسرع، مما دفع الكثير للإقبال عليها دون خوف من التعرض لآلام مبرحة أو فترات نقاهة طويلة. لكن يبقي ان ترقب تقدير الآخرين حاجة نفسية... وبالتالي فصورتي عن نفسي لا تتحدد من داخلي، وفكرتي عن نفسي تتحدد من خلال نظرة الآخر إليَّ.
من الذي يحدد/ ويعمم أن هذا الشكل جميل أو غير ذلك؟، مع إن معايير الجمال نسبية وتختلف حسب المناطق والتجمعات البشرية، لكن يسعى الراغبون في التجميل إلى الانسجام مع نموذج "الجسد المشاعي"؛ إذ الجسد لم يَعُدْ ملكًا للشخص ولم تَعُد نظرة الإنسان لنفسه محددة بمعايير وأخلاق، إنما نمطية الاستهلاك حولت نظرة الشخص إلى جسده من خلال "الجسد النموذجي" و معيارية إعلامية واحدة هي "موضة الجسد الغربي"، فتتزايد الهوة بين جسد المرأة العادي وجسدها النموذج، فيسعى البعض إلى تداركها بالتجميل. الأمر الذي يستدعي التصالح من الذات والرضا عنها، وعدم كراهيتها وعدم الأعتداء علي الذات وقهرها وتعديلها، والوعي بما يخلقه المجتمع الاستهلاكي المعاصر وتكريسه الإعلاني لحاجات جديدة غير ذات فائدة حقيقية (ومنها جراحات تجميلية).
ويبقي سيل الأسئلة يتدفق: هل باستطاعة مبضع جراح التجميل إطالة فترة الشباب الحقيقي، والجمال الناضر، وهل يتحقق ذلك الجمال بالتركيز فقط علي شباب المظهر، ووسامة الهندام، وإبهار الثياب العصرية، وكثرة المساحيق التجميلية، وجمال التقاسيم الجسمية.. حيث التكبير والتصغير، وتناسق الأنف والخدين مع قسمات الوجه، وإزالة التجاعيد، وترفيع الحواجب، وضخ "السيلكون" في الشفاة والأثداء،وتجميل الأرداف، وشفط الدهون أو تضخيم عضلات الرجال، وزرع الشعر دونما إعطاء اهتمام مماثل لشباب الجوهر، الوعي بالذات، والرضا عنها، وجمال الروح، وامتلاء الوجدان، وارتياح البال، وهناء النفس، وروعة القيم الثقافية والإنسانية؟.