يوم الخلق الذكوري
ولحظة الخلق الأنثوي
محمد الرمادي
فينا - النمسا
الخيال الإسطوري بما يحمل في طياته من قدرة خارقة على الإعتقاد بصحته مع جاذبية العرض، والروايات التاريخية ذات التأثير على سلوك الفرد، مع فقدانها درجة الصحة أو القدرة على إثباتها مع وجوب الإخبار عنها يرافقها عامل هام لإنتشارها وهو القول بصدقها فتنتشر عند الدهماء وتتقبلها العامة، فهما معا ـ الإسطورة التي تولدت في خيال بشر والرواية التي تَقبل إما التصديق أو الرفض وهما إنتاج بدائي قديم قدم العالم، قد يتكرر عند تشابه الظروف ـ فهما معا توقعان الذكر ـ في المقام الأول ـ في حبائلهما وتفرض عليه نمطا معينا من السلوك الإنساني يصعب التخلي عنه، لأنه يروق له ويعجبه، هذا أولا،
أما ثانيا: فهو - الذكر - غالبا الخالق لهذه الإسطورة والصانع لتلك الرواية، فيريد لهما الخلود والبقاء،
أما ثالثاً: فاحدهما أو كلاهما يقدما خدمة جليلة لمشاريع الرجل الذهنية في سرعة الإنتشار والتوسع بين من يريد الذكر نشر الخبر بينهم، مع القدرة على التأثير لتحقيق هدف ما،
أما رابعا: وهو خارج عن إرادته ولم يضعه في حساباته منذ اللحظة الأولى، وهو مساعدة الطرف الثاني لتأكيد صحة الإسطورة مع أنها خيال ووهم، وتأييد صدق الروايات مع أنها تلفيق، والطرف الثاني: ـ في المقام الأول ـ هو الأنثى.
تواترت الروايات التي لا سند لها ويشد آزر الأولى الثانية إلى إنتهاء السلسلة، مع نية مبيتة عند الراوي بإيهام السامع ـ وقتها ـ والقارئ الآن بصحة المتن وقوة السند، وجاءت الروايات تترى في إتجاه واحد فقط وتجمعت في بؤرة الأنا الآدمية وسلطت عليها جميع ألوان الطيف المنبعثة من قوس قزح الرجل العالي والظاهر للعيان بعد هطول أمطار الخريف المبكرة لتعطي صورة جمالية رائعة لحدث لم ولن يتكرر في الزمان، أنه الحدث الذي نؤرخ به الكون ونحدد به معالم الدنيا، واحتار علماء وأهل بحث جاءوا من بعد في تفسيره بشكل عقلاني مستساغ.
- كيف وجد الإنسان الأول ـ آدم ـ ؟
فتمذهب بعضهم إثناء البحث على رأي في نشأة الوجود الآدمي وتطوره، فأغضب الكنيسة مذهبهم وطردتهم من رحمة الملكوت، مع عدم وجود نص ثابت في الكتاب، ولكنه إثبات المخالفة لما ورد بين دفتي الكتاب، أو ما لاقى القبول عند أهل الصومعة ـ وإثناء بحثهم لم يقصدوا ذلك ـ والمخالفة تعني الطرد أو الصلب، ووقف فريق آخر من أهل الكتاب ـ المسلمين ـ معتمدا صحة النص عنده في وجوههم، مبيناً أن النصوص تملكها الصحة وتعلوها ولا يوجد ما يناقضها بنفس درجة الصحة التي اعتمدوها أو أقل منها، ثم جاء في آخر الزمان الإثبات العلمي، فسكت من سكت لأن لا دليل عنده يعتمد عليه ونظر بحسرة لما قام أسلافه من اعتماد هذه الروايات في السابق، وبأسف لأن نصيبهم من العلم ضئيل، أما الآخر فخر ساجداً، وإن كان الفضل لا يعود إليه لا في قليل أو كثير، ولكن للدرجة العالية من الحفظ التي لا تعلوها درجة، والإثبات الصحيح الذي لا يسبقه إثبات آخر أو صحة.
الروايات التي اعتمد عليها علماء التاريخ ومؤرخوه في إثبات حالة ما، لهم الحق أن يبحثوا عنها في أي كومة من الأخبار للإستشهاد بها طالما أن الخبر الموجود بين أيديهم يتحدث عن جزء من مسألة البحث، فيعتمدونه في التأريخ، ثم يتم التنبيه في نهاية المقال والحاذق ينهي مقولته ويزيلها بقوله :"هذا ما أعلم".
الإسرائيليات، وهو الإصطلاح الذي أشتهر بين العلماء، أفاضت بروايتها المتعددة بشكل يشبه شلالات المياة العذبة المتدفقة بقوة من أعالي الجبال في نهار صيف قائظ برشاشتها ورذاذها المنعش تجعل الباحث يسلم بها لآنها تعطي جوابا، أحيانا يقبله العقل ويستسيغه، فيتم تداوله وتتناقله ألسنة الحكواتية بمصاحبة ربابة الزمن، فيصير حقيقة لا تقبل المناقشة أو المراجعة أو إعادة بحث فهي من المسلمات، وأحيانا كثيرة لا تتفق مع العقل، وهو السمة الوحيدة في التفضيل لآدم، ومن جاء من نسله على بقية المخلوقات، ولكنها تعطي جوابا لما نبحث عنه على كل حال، وهنا وجد الصراع بين أهل الكهنوت والدين وبين أهل العلم ورجال البحث، والمتوقع أنه لن ينتهي.
أما الإسطورة فهي تظهر بخيال خلاق حالة العجز الإنساني الموررث ـ عند ابن آدم ـ مشوبة بمرارة الضعف البشري منذ بدء الخليقة لإيجاد شئ غير موجود في الواقع وغير معقول أو متصور في الذهن، إذ أنه وهم وخيال، ولكن يحتاجه الإنسان لإثبات وهم تصوره في وجدانه وعاش معه فترات من الزمان، فتعينه ـ الأسطورة ـ في حالة إظهارها بشكلها المنقول على مسامع الناس دون إدراك حسي لها، للوصول بها لمأربه وتحقيق غايته، ولقد عبر أستاذنا العقاد عن ذلك بـ"بدائية التفكير" عند اسلافنا، وقد تعود أحيانا الى الرجل العصري.
احتجنا لهذه المقدمة الطويلة، وإن كانت تحتاج لمزيد بحث، إذ سنتحدث عن ساعة خلق آدم، واليوم عند ربك بألف سنة مما تعدون! ... آدم، أبو البشرية حين خلق تضافرت الأقوال والروايات والمنقولات ـ أغلبها من الإسرائيليات ـ منذ لحظة بداية إرادة الخلق، على أنه سيتم حدث عظيم، وسيحدث أمر جليل، ولكن في المقابل لحظة خلق حواء، أم الدنيا، والتي بدونها ما خلق رجل، وما رضع وليد ـ دونها ـ إلا من أنثى الماعز أو تلقم حليب النوق، أو خلط ماء البئر الغائر بقطرات من حليب البقر المقدس عند شبه القارة الهندية، أو خلط بول أنثى الخادمة التي جلبت من القارة الأسيوية لرعاة النفط في شبة جزيرة العرب، بمسحوق الحليب الهولندي المستورد من شمال القارة الأوروبية،(حدث بالفعل) أقول في المقابل: لحظة خلق حواء أم البشرية وراعيتها الأولى، يوجد نص واحد يتيم، المسألة يحوطها تعتيم إعلامي لا مبرر له في مقابل حشد قوي متسلسل في مسألة خلقه، ويهدأ القلم ويتوقف المداد عن الإنسكاب إذ يأتي نص قاطع الثبوت قاطع الدلالة يقول "وليس الذكر كالأنثى".
هناك لحظة غياب حقيقة متعمدة مرت على آدم حين خلقت "حواء"، لم ينتبه إلا بوجودها جواره، غفا فـسنا فغلبه النوم، ثم فتح عينيه بعد غفوتها فجأة وبعد أن غلبته السِنة فوجد بجانبه "امرأة"، لحظة غياب لا تغتفر للراوي، تزعج القارئ، ولا يقبلها السامع، فحين تتحدث الإسرائيليات عن خلق حواء تتحدث عن لحظة غياب، ولم تمهلنا الأساطير لحيظة هادئة لنتنفس هواء طلق على سفوح جبال لبنان الشاهقة القريبة من منبع الإسطورة، فلا يكفيه ـ الذكر ـ أنه وجد على غير مثال مسبوق، ولم يأتي قبله مثيل، ومَن جاءت بعده ـ حواء ـ جاءت شبية به مع بعض "التعديلات" فقط لتجاوره وتكمله وتلاصقه لا لتخالفه أو تعارضه، فيخترع خيال آدم ـ الذكر ـ فيخبرنا أسطوريا في بلاد الرافدين، أن ذَكَراً كان أولُ الساعين لامتلاك جسد يصمد أمام كرّ السنين. فلا يكفي الذكر أنه المخلوق الأول في الجنة العلوية السماوية بالقرب من الفردوس الأعلى ـ جنة الرضوان ـ ، وإن ذهب البعض على أنها كانت في الأرض أو عليها، وحتى يكن السعي مشكورا والنتيجة متحققة تروي ملحمة «كلكامش» أنهما كانا ذَكَرَين، قضى أولهما وفنى في طريق تحقيق ما يريدانه والمسمى «أنكيدو»، الذي جاء من رمال الصحراء مات قبل أن يُدرك الهدف، وترك صاحبه مهموماً بتلك المهمة المستحيلة.
الخيال الذكوري الإسطوري منذ اللحظة الأولى لوجوده يسعى إلى الخلود والبقاء، وقصة الشجرة سواء كانت شجرة العلم أو الحكمة أو الخلود تؤكد هذه الإفتراضية، ويسير «كلكامش»، نادباً قرينه الذَكَر الصريع، باحثاً عما يُشبه الشباب الدائم. ويخوض في مياه مميتة، ليحصل على عُشبة تُجدد الجسد. وفي عودته، تلتهم حيّة ـ الروايات ( وأيضا الإسطورة ) لم تترك الحية في الجنة ولا في بلاد الرافدين في هدوء، والحية تعبير رمزي عن الأنثى ـ تلتهم حية العُشبة التي وجدها الذكر الباقي في اسطورة الرجل المخلد، ويُضحي جسدها قابلاً للتجدّد، بل يذهب مِثالاً ما زال حاضراً في شعار الطبّ والصيدلة والأدوية. ويُحْبَط الذكر لأن أنثى نالت ما لم ينله. ويعود «كلكامش» إلى مدينته الخالدة «آور». وتختتم الملحمة البابلية الشهيرة بغنائية إنسانية عالية: نهاية سعيدة، إذ لا يملك غيرها: بقاء الكائن البشري المتكاتف اجتماعياً والفاعل حضارياً مقابل قبول الشيخوخة والفناء. الروايات صناعة ذكورية والإسطورة إنتاج آدمي.
أما علماء الفرس ونسابتهم، جيران بلاد الرافدين ارادوا أن ينسبوا أنفسهم ليحددوا من هو "آدم" فعتبروا أن "كيومرث" ومعناه ابن الطين، هو عندهم اول إنسان وعاش في زعمهم ألف سنة فلا يرفعون نسبه إلى ما هو فوقه فهو عندهم أول النسب بعتباره نهاية نسبهم، أي يريدون إثبات أن "آدم" منهم، وأن "كيومرث" هو آدم الذي هو أول الخليقة.
وهكذا بشرية الأقاليم تختلف وتتصارع في هوية الرجل الأول، والرجل على مدار التاريخ يصنع ما يحلو له سواء "اسطورة" يعمل بذكاء على إنتشارها أو "أسطول بحري" يهرب به من حواء ـ لا ترافقه في رحلة السفر ـ ليبحث عن حواء جديدة في قارة آخرى، فهو اعتاد أن يجدها وقت أن يفتقدها، أما المرأة الأولى في العالم فلا يهم أن تحدثنا الروايات عن كيفية خلقها وبالتفصيل، هي وجدت له، فقط خلق الإنسان الأول هو موضوع البحث والعرض.
المعتقد فيه أن الصانع أكرم آدم فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملآئكة وجعل من ذريته الأنبياء والرسل ومن يزوره الملآئكة، حين وجد آدم شهد العالم أجمع عملية الخلق، واستغرقت وقتا طويلا حضرت ملآئكة الآرض والسماء، خلق في الساعة الأخيرة من يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل، وأسكنه في نفس الساعة الجنة، وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة، ثم اختلفت الروايات في يوم الخلق فقالوا يوم الإثنين، وهناك تأكيد على يوم الجمعة، وأنه خلق على عجل، تم إرسال كبار الملآئكة وعظمائها: ملك تلو الآخر لإحضار قطفة من طين الأرض ليتم الخلق استعاذت الآرض من أن يؤخذ منها شيئا ما، وإخيرا جاءها من أستعاذ بمن استعاذت به وأخذ ما يحتاج إليه وفق الإرادة، عبث إبليس بمؤخرته قبل نفخ الروح فيه، يمر عليه صباح مساء وينظر إليه فلا يجده إلا أجوف.
أما لحظة خلق حواء ... أمنا حواء فغياب تام، أو قل تغيب تام وعن قصد مع سبق الإصرار على غياب آدم عن الوجود لحظة الخلق والإيجاد لحواء، ويعلل الراوي لحظة الغياب تعليل منطقي مقبول، بلغه الرجل في المقام الأول، ولا يهم حواء أو يضرها تغيبه أم حضوره فهي حاضرة رغم أنف الرجل الحالي ورغم أنف أبيه.
بعض الرجال، بل الكثير منهم يحلو لهم التغني بأصلية "الغياب" وأنها تركيبة آدمية أصلية، ويعتبرونها من مسلمات الخلق، ولا يحق الإعتراض على المشيئة الإلهية، وهذه هي القدرة الربانية، وهي إرادة الواجد الخالق، فيّغيب الذكرُ المرأةَ الإنسان عن قصد، لا يريد أن يراها إلا كمرافقة سياحية في أحلى حلة ترتديها، كمضيفة طيران في أعلى أجواء السماء فوق السحاب، منسكب فوق رأسها أغلى أنواع العطور الباريسية المستخرجة من شبة القارة الهندية، يريد أن يراها كمديرة علاقات في أكبر شركة بناطحات الثريا المجهزة بأفخم الأثاث وأرقى الفرش، تجهز له الطعام الشهي في قصر مشيد وفي نفس اللحظة تبخر له المكان بالعود الهندي والمسك والعنبر في خيمة ببطن الوادي، يريدها ـ إذا رأها ـ دائما أبدا في يمناها كوب العصير المثلج وفي يسرها رغيف الخبز باللحم المشوي، وبين أطراف أسنانها مربط لجام الشهباء ليمتطيها الفارس الذكر، ففي ذهنيتهم جميعا ـ حتى أشباه الرجال ـ كل الرجال فارس، ومن مجلبات الأسف والحسرة على هذا الواقع الذكوري الساذج أمام المرأة، أن تشاركه المرأة نفسها هذا التغيب، فمنذ لحظة الخلق تركزت العلاقة على هذا العرض الشيق والجذاب من مساحات الجسد الأنثوي المالك لإيقاعات فرقة عزف كاملة مكونة من تخت عربي أصيل تصاحبها أفضل أوركسترا عالمية لم توجد بعد إلا في خيال الرجل، المسألة أنه دائما يريد ما يراه خياله!
غاب آدم لحظة خلق حواء فشاركت بنت حواء الذكر الضعيف فغيبت عقلها أمامه، وإذا أظهرته غابت أمامه كأنثى، أظهرت مفاتن خلقها على الكون كله، عبقت المكان أينما وجدت برائحتها الزكية النابعة من ثنايا أنوثتها، رفعته إلى السماء بساقيها بعد يديها وفضلت أن تبقى على الأرض التي خلق هو منها، وهناك حسرة ذكورية ملموسة في الخطاب الــ "غير" معلن عند الرجل على حظوظ الجسد الأنثوي، ومع ذلك فهي تنظر نظرة دونية لكينونتها، الروايات تؤكد أنها المخلوق الثاني بعده، الروايات تؤكد أنها ستنزف دما طوال عمرها الأنثوي، وأنها ستلقى نوعا ما من العذاب في حياتها لحظة تجديد الوجود، الروايات تنعتها بأوصاف لا تليق بإنسان، المحصلة في الذهنية الأنثوية أنها مفترشة طول الزمان وعرضه، يؤكد ذلك مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد في القرن العشرين من أن:" الأنثى تعاني تاريخياً من أن لجسدها شأناً أقل". أنها عقدة "موروث الجدة ـ حواء ـ " مسارها معاكس لتحرّر النساء، سواء نادى به الرجل علنا قبل الإنتخابات المحلية أو العالمية، أو في صالونات الآدب ومجامع العلم، أو تزعمته نساء الغرب المتحررة، أما في الغرف المغلقة ذات الشموع الخافتة والألوان الفاقعة فلا نسمع عن حرية المرأة أو تحررها أو مساواتها بالرجل همسا أو أدنى مطالبة.
وحتى تذكره بوجودها في الشارع العام تم إختراع مدهش في القرن الفائت، وهو ما اطلق عليه حركة تحرير حواء، وهناك العديد من المسميات الآخرى تنصب كلها في خانة واحدة فتم إطلاق ما يسمى بــ "الأدب الأنثوي"، "أدب النساء"، "شعر النساء"، "قصص النساء"، "اقتحام المرأة لبعض مجالات العمل التي كانت حكرا للرجل"، ولأمر ما وهو سياسي في المقام الأول عقد مؤتمر عالمي للمرأة برعاية الأمم المتحدة المخترقة "ذكورياً" في معقل ذكورة الرجل العربي في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي (1994م) ـ وهي عاصمة إحدى دول العالم الثالث الـ "غير" محرر وفقا لأجندة الغرب، وبعدها بكين (1995م)، عاصمة أكبر تعداد سكاني، نسائها منذ بداية السبعينات من القرن الفائت رغبن في إقتناء الملابس الداخلية النسائية ـ خاصة الجزء العلوي منها ـ المصنعة أمريكيا، لإظهار الجانب الإنثوي الصيني، وتم استصدار الإعلان العالمي لحقوق المرأة، رغم معارضة فاتيكان الكاثوليك لكثير من بنوده في تحالف مقدس مع المؤسسات الإسلامية الرسمية سواء تحت الخيمة الشيعية أو الخيمة السنية، ثم جاء إعلان أكتـوبر 2008م من 57 دولة تتشرف بوضع وسام على ظهرها، فتعلن منظمة المؤتمر الإسلامي في بداية الألفية الثالثة بجعل صفحة إلكترونية خاصة للعالمات ـ جمع التأنيث لــلفظ الذكوري "علماء" ـ.
في مجلد التاريخ اختلطت الأوراق جميعا فصفحة السياسة أقتربت كثيرا من صفحة الدين ولم تنفصل كما يعلن، وصفحة الإقتصاد ترافقهما ـ السياسي والديني ـ وخير دليل: الغرب يفتح سوق الصين وتتبعها الهند لمنتجاته النسائية بعد عقد مؤتمر المرأة في بكين ـ تعانق السياسي مع الإقتصادي ـ والمثال الثاني: الغرب الذي يزهو بفصل الدين عن الحياة والمجتمع يصنع للمحجبات المسلمات أغطية الرأس وفق الموضة ـ تعانق الديني مع الإقتصادي ـ
يتضح بجلاء دور المرأة ، وإن حاولت الروايات والإسطورة والتاريخ أن يغيبها ففي محاولة رجولية من أهل الفلسفة ـ قديما وحديثاـ وأربابها، تبعهم رجل العشق ـ زير النساء ـ طرحت اطروحة :" لماذا خلق آدم قبل حواء!" فأسرع رجل العشق ـ زير النساء ـ قائلا بخبث شديد وعينيه ممتلئة بفرح ظاهر وفي يده زهرة حمراء، مع إنحناءة خفيفة لحظة تقبيل يدها:" خلق آدم قبل حواء ليعد نفسه كي يقوم بحسن خدمتها ويسهر على راحتها"، أما قول أهل الفلسفة فتشعبت فيه الآراء فنرجئه لحديث قادم.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد أقصد التخيل الاسطوري والتنظير والتفلسف والتقول، بل بتقدم العلم وقدراته صارت حواء حقل تجارب جيد وصالح لكل ما يدور بخيال الرجل، ولنأتي بأمثلة فالاستنساخ (تحد في طرق التكاثر) فالـ «فياغرا» (مناهضة فِعل الزمن في القدرة الجنسية للرجل)، الجينوم والهندسة الوراثية المتلاعِبة بالجينات (التدخّل في التركيب البيولوجي الأساسي)، حبوب تنظيم ـ منع ـ النسل (فكّ الترابط بين الجنس والتوالد)، الهورمونات (التدخّل في بنية الأنسجة)، خلايا المنشأ (عزل الطبيعي واستعماله في صنع الأعضاء البديلة والأدوية)، الـ «بوتوكس» (قلب عمل السموم لتصبح تجديداً في «اللوك»)، الـ «بروزاك» (تدخّل في أحوال النفس وأمراضها)، الـ «فاليوم» (تأثير في التفاعل بين نظامي الجسد وتعاقب الليل والنهار)، المُنشِطّات (رفع الحدّ الأقصى لقوى البيولوجيا) وغيرها.
وتلاحظ في الأمثلة السابقة والتي لا يصعب إطالة قائمتها، غلبة التوجّه إلى التأثير اصطناعياً في الأنثى وتحوّلات جسدها واحتمالاته، مثل الحمل والولادة والمظهر الخارجي وغيرها، ما يُظهر هيمنة ذكورية مفرطة.
المشكلة في قضايا المرأة وغيرها من القضايا المزمنة، هي مشكلة ثقافية أولا وآخراً.
الإنسان العربي ـ وإن عاش بجسده في الغرب ـ برجاله ونسائه غائب ومغيّب منذ أحقاب بعيدة، فالثقافة العربية لا تعترف بالنزعة الفردية وهذا هو المصدر الأساسي للخلل في الحياة العربية. معضلة كبرى هي الاستخفاف الكلي بقيمة الإنسان الفرد والوصاية عليه والتعامل معه بوصفه قاصرا وغير مسؤول، لذلك فإن التركيز على موضوع المرأة يوهم بأن الرجال لا يعانون مشكلة. ما فقدناه في العالم العربي ليس بغياب المرأة، إنما بغياب الإنسان الفرد، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على الوجود العربي في الغرب لم تتغيير العقلية العربية التي تعيش في الغرب لوجود عامل هام هو الخوف من التغيير ولنقصان عامل هام هو الإرادة في التغيير.
الشعوب العربية برجالها ونسائها يماثلون ركّاب القطار، فهم يتحركون داخل القطار في كل الاتجاهات، لكن حركتهم لا تؤثر في اتجاه القطار، فهو يمضي بهم إلى حيث يريد هو في اتجاهه المحدّد من قبل، ومع ذلك فإنه لا بد من التأكيد بأن للمرأة حقوقا عامة يجب أن تنالها، وأهم حقوقها الاعتراف بأهليتها الإنسانية الكاملة، حرمان المرأة من أهليتها التي هي أهم خصائصها الإنسانية هو عدوان صارخ عليها وجحود لإنسانيتها، فالإنسان كائن ثقافي وأيا كانت ثقافته، فإن لديه ثقة تامة بصواب رأيه، كما أن لديه أياً كان اتجاهه قدرة عجيبة لتأكيد موقفه وتبرير سلوكه. فثقافته تحكمه ولا يحكمها، فكل ثقافة تصوغ أهلها صياغة خاصة تختلف عن صياغات الثقافات الأخرى، وبهذه الصياغة تجعلهم تلقائيا ذائبين فيها ومقتنعين بها، انتقاص المرأة لا يأتي فقط من الذكور وإنما أكثر النساء قد تبرمجن بالثقافة الذكورية أشد من الرجال، فهن مقتنعات تمام الاقتناع بأوضاعهن الحالية ربما أكثر من اقتناع الرجال!
العقلية العربية عقلية ذكورية بامتياز، لذلك فإنها تميل بقوة وإفراط إلى التضييق على النساء بشتى الطرق وتبحث عن أية مبررات شرعية أو اجتماعية لهذا التضييق فتلجأ إلى قاعدة "سد الذرائع" لتملأ حياة النساء بالمحظورات إعمالا لهذه القاعدة، فتُمنع المرأة مما هو مباح لها وتُلزم بما لم يلزمها الله به، ويتناسى هؤلاء أن الأصل هو الإباحة وأن المنع ـ للشئ أو الفعل ـ هو حق لله وحده، وأن من حق المرأة أن تعيش كما يعيش الرجل من دون تقييد أو تضييق إلا ما حدّده الله، كما ينسى هؤلاء أن المرأة دائما مغلوبة وليست غالبة، وأن الخطر عليها وليس منها، فهي لا توقع الرجال، إنما هم الذين يوقعونها. ما توارثناه من عادات وما ألفناه من تقاليد وما نشأنا عليه من أسلوب حياة ومنظومة قيم وطريقة تفكير، فمن المؤكد أن هذا الغياب ليس مصدره تعاليم الدين الربانية، إنما هي العادات، فالموروث له سلطة مهمة وليس هذا من خصوصيات الثقافة العربية، فهذا التشدد في العالم العربي ليس مصدره الدين، إنما هي العادات تبحث لها عن تبريرات شرعية، وكان على النساء أن يتحملن الكثير من الممنوعات، وأن يلتزمن بالكثير من الواجبات تحت ذريعة إعمال قاعدة "سدّ الذرائع"، فالنساء هن المتضررات من هذا الإمعان، لكن ما يلفت النظر أن الأصل في "الذرائع" عند الفقهاء أنها تُفتح مثلما أنها تُغلق، لكن في التطبيق هنا من النادر أن تسمع عن فتح "الذرائع"، إنما المتكرر الشائع هو دائما سدّها، وكأن الأخذ بهذه القاعدة محصور بـ "الإلزام" و"المنع" و"الحجْر" و"الإغلاق" وإغفال دواعي الفتح والتيسير، خصوصا إذا تعلق الأمر بالنساء.
تهميش الإنسان كارثة حضارية، المرأة في مجتمعنا المعاش الحاضر ضد المرأة، مجتمع يتكون من أفراد ومؤسسات وسلطات، لكن الجميع مبرمجون بثقافة ليست من صنعهم فهم اتباع ثقافة موروثة عبر سلسلة من التناسل الثقافي، إن الناس خلال كل الأجيال مبرمجون بثقافة تحكمهم ولا يحكمونها، وتملكهم ولا يملكونها، إنهم يتكيفون للأحداث والأحوال، فتتكون عندهم تقاليد تلائم تلك الأحداث والأحوال وقد تتغير الأحوال، لكن الأجيال لا تعرف كيف نشأت تلك التقاليد، فلا يربطونها بظروفها، إنما تكتسب بمرور الزمن تبجيلا واستسلاما يحولان دون المراجعة والتعديل، وبهذا يبقى الناس محكومين بالتقاليد التي ورثوها ونشأوا عليها إلى أن تحصل أحداث جارفة قد تؤدي إلى مراجعة بعض التقاليد وتعديلها أو التخلي عنها واستبدالها بتقاليد جديدة تأخذ في التكوّن والثبات ثم تحتاج في ما بعد إلى المراجعة والتعديل وهكذا دواليك في جدلية لا تنتهي، وتقف أمامنا معضلة: هذا الإنسان العربي الذي يعيش في الغرب وكيفية الإستفادة مما هو متاح له، فالإنسان في الغرب يملك قدرا كبيرا من الفضاء في حرية التفكير والتعلم، وإطلاق الحريات دون ضوابط يؤدي إلى فوضى، البعض يفلسفها بأنها فوضى منظمة، والإنتقال المفاجئ للمرأة العربية من مناخ يهيمن عليه الذكر إلى مناخ الحريات المطلقة يوقعها في حالة غياب إنسانيتها أو التقوقع داخل الأنا الذكورية التي اعتادت عليها.
العالم المتمدن ينحو الأن نحو "لقاء الحضارات" بدلا من "صراع الحضارات" و "حوار الأديان" بدلا من "فناء البشر باسم الأديان"، ولكن سيبقى "صراع" لن ينتهي إلا بفناء الجنسين عند أشباه الرجال، أقصد صراع الذكر الضعيف ضد المرأة.