التصوف بين التشوف والفوضى
التصوف بين التشوف والفوضى
م. الطيب بيتي العلوي
مغربي مقيم بفرنسا
باحث في الانثروبولوجيا الدينية والثقافية بباريس
(الجزء
2)
يقول الجنيد البغدادي : (التصوف
نعت تقيم فيه،…فلما
سئل :أهو
نعت للحق أم للخلق؟ أجاب :
حقيقته نعت للحق،ورسمه نعت للخلق…،يعني
باطنه يصف الحق ،وظاهره يصف الخلق...
التصوف و"الأخلاط الصوفية المعاصرة"
لا توجد ترجمة حرفية لكلمة صوفي، أو متصوف ،أو تصوف في اللغات الافرنجية، سوى "soufisme
بالفرنسية أوsufismبالانجليزية،
مما يدل على خصوصيتها الاسلامية ولانها لم توجد في ثقافة أخرى من قبل(وأما
الاستدلال ب" صوفيا "اليونانية بمعنى الحكمة فغير مقبولة اطلاقا لا لغة ولا
اصطلاحا) .وقد شغلت هاتان الكلمتان الناس على اختلاف مشاربهم وألسنتهم
وألوانهم وثقافاتهم، من فقهاء، ومحدثين، وفلاسفة ،ومفكرين ، ومؤمنين ،ولا
دينيين ،وشعراء ،وفنانين، وكتاب ،وموسيقيين، ومهرطقين من كل الملل والنحل ،وحتى
من المدارس"الروحانيةالجديدة" المعنية باستحضار الأرواح والتخاطب عن بعد، التي
أسست في أواخر القرن التاسع عشر، اثرزعزعة التفكير الكنسي الثيولوجي أمام
عنفوان وقوة اكثرالفلسفات اصطخابا في التاريخ الفلسفي،حيث انتشرت هذه التنظيمات
في أوربا تأطرها تنظيمات هرمية 'روحانية" سرية، متفرعة عن المحافل الماسونية
الجديدة والتي من اختصاصاتها هو التنقيب عن "المتصوفة الأفراد" (أو "الملاماتية
"بالمصطلح الصوفي
لأسيا الصغرى) حيث تجد من بين المنضوين تحت ألويتها رجال دين ،وليبراليين
وعلمانيين وساسة، يتم اخضاعهم لمهمات سياسية صعبة في الأزمات السياسية الكبرىفي
المناطق ذات النفوذالديني، أو ذات
الثقافة"الروحانية"مثل أمريكا اللاتينية 'بالنسبة للمسيحية، وأفغانستان،
والعراق، وباكستان، والهند، وأندونيسيا، ومصر وتركيا، والمغرب، والنيجر،
والسنيغال بالنسبة
للمسلمين بالتنسيق الوثيق مع "محافل القبالة اليهودية"-أو "الاستسرار العبراني"
أو "علم الخفائيات التلمودية" بمدينةالقدس ونيويورك وبعض الدول بأوروبا (باريس،
ولندن على وجه الخصوص)،(وكم من مستشار "صوفي" وعالم دين في قضايا العالم
الاسلامي في البيت الأبيض) وفي مصرهناك جمعية الأهرام الروحية النشيطة في
المحافل الدولية لما يسمى بالروحانيات الجديدة التي تأستت بمصرمنذ الخمسينات(علىغرار
الجمعية البريطانية التي أسسها "سير آرثر كونان دويل"مبدع "شرلوك هولمز"
الشهير) على يد الدكتور عبد الجليل راضي أستاذ الفيزياء السابق في جامعة عين
شمس،( وله مؤلف ضخم حول الروحية عند محي الدين ابن عربي من 633ص نشرته مكتبة
النهضة المصرية "عام 1975)
كما أن هناك انتشارا كبيرا في أوروبا لما يطلق عليه الآن "بنوادي التصوف
التحرري" حيث تمتزج المخدرات والجنس الجماعي بالأذكار والرقص الايقاعي، على
الأنغام الشرقية الهندية، أوالسماع الصوفي المصري والشامي والمغربي،... وهكذا
اختلط التصوف في الاذهان في معظم المحافل الغربية الأوربية واقترن لدى الأغلبية
من الأوروبيين" بالغرابة-المافوقية)و"الفولكلور الشرقي" و"الفانتازمات
"اللامحدودة "،والتحررالديني "باسم مقولة التسامح الديني"، يذكي هذالأجيج وهذه
البهرجة "السركية" فتاوي"أدعياء" هذا النوع من التصوف من عرب ومسلمين
آسويين،وأفارقة من المقيمين بالمهجر(ومعظمهم خريجي جامعات أوربيةكبرى،ومن
المشتغلين بالاسلاميات والاستشراق وعلوم الأناسة و تاريخ الديانات وأنثروبوجيا
أساطير الشعوب البدائية)
أين هو التصوف الحقيقي وسط هذه "الفوضى؟"
وكما أشرت في مقدمة القسم الأول من هذاالبحث، فانه من الصعب الحديث عن تاريخ
التصوف، فهو لا تاريخ له.،لاختلاطه في البداية بالزهد والنسك.،الذي اعترض عليه
الاسلام في بداياته، خشية من
أن تتحول "الظاهرة" الى الحالة "الرهبانية" المعروفة في باقي الديانات ،وخاصة
المسيحية ،ولأن الزهد والتنسك هما أيضا ظاهرتان في كل الديانات، لم تكن ذات
أساس ديني بالمعنى "الدوغماتي" أو الشرعي أوالاصطلاحي للدين ،فكل الديانات لها
زهادها ونساكها، ولذا فمن المستحيل تعيين مؤسس للتصوف بحدوده السلوكية،.ولم
يظهر" منحى"التصوف" بالاصطلاح في زمن الرسول (ص)أو الصحابة ،ولا حتى عند الزهاد
الثمانية المعروفين بهذا المنحى من التابعين الذين تنتهي سلسلة معظم الحركات
الصوفية اليهم، وهم عامر بن عبد الله، وأويس القرني، وهرم بن حيان، والربيع بن
خيثم، وأبو مسلم الخولاني، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، والحسن البصري،
.ولم تتردد كلمة التصوف عند هؤلاء "سوى عند "الحسن البصري" الذي وضع "ملامحا"
من التصوف السلوكي" وليس "التصوف المعرفي " أو "الفكري" الذي لم يتحقق الا بعد
الحسن البصري ورعيله مثل العارفة بالله "رابعة العدوية" التي نسجت حول علاقتها
بالحسن البصري خيالات من وحي مخيلة الشاعر والمؤرخ للتصوف الفارسي "فريد الدين
العطار" في كتابه "كزبدة تذكرة الأولياء" ،.ولأن المسلمين لم يكونوا فيي حاجة
الى تصوف ومرشدين وطرق وزوايا،عندما كان التراث الديني، وخاصة الروحي في أول
الأم،ر كالمقذوف البركاني في حالة انصهار ،ولم ينحل الى عناصره المختلفةالا حين
برد تدريجيا بتأثير العوامل الاجتماعية التي ذكرت معظمها في القسم الأول من
البحث ،بسبب فساد الروح في دولتي بني أمية وبني العباس ،التي أفرز ظاهرة هؤلاء
الزهاد الفقهاء، مثل بن حنبل وأبو حنيفة ومالك ،والشافعي ،والنساك الفقهاء مثال
الحسن البصري وسفيان الثوري،وابن عيينة،والزهاد الخلص مثل بشر الحافي وغيرهم
الحسن البصري(21للهجرة-110 للهجرة)تلك الحلقة المفقودة في التصوف
"من دراري النجوم ،مواعظه تصل الى القلوب،وألفاظه تلتبس بالعقول،...لا أعرف له
ثانيا..."ثابت بن قرة الصابئي
من التصوف السلوكي الى التصوف "المعرفي أو الفكري
ليس استطرادا ولا خروجا عن "المنهجلوجيا" كما قد يتبادر لأذهان البعض، اذا
وقفنا عندهذه الشخصية الفذة في التاريخ الأول للاسلام، لكونه يمثل الحلقة
المفقودة ما بين "طبقات النساك والزهادالأوائل "وبين "التصوف السلوكي " مع
رابعة العدوية كمقدمة ،أو كحلقة مفصلية عابرةالى"التصوف المعرفي" أو" الفكري"
الذي تمثل لاحقا وبزمن طويل في "الغنوصية"ونظريات الحلول عند الحلاج ووحدة
الوجود عند ابن عربي و"الاشراق والعرفان" عند السهروردي وابن سيناء
ينحدر صاحب العمامة السوداء –كما يلقب الحسن البصري– من موالي جنوب العراق
،واختصت أمه بخدمة احدى زوجات الرسول (ص)( أم سلمة )، حيث أرضعته لانشغال أمه
عنه، وفسر بعض المؤرخين سرنبوغه الفقهي المبكروورعه وسلوكه المتزن الى سببين :،رضاعة
أم الؤمنين له "وتحنيكة "عمر بن الخطاب له عند الفطام
،وقد كتب له معاصرة كل الرجات السياسية البليغة في تاريخ الاسلام منذ الخلافة
الراشدة،حتى أواخر الدولة الأموية، اذ شهد الثورة على عثمان والفتنة الكبرى
بمقتله، وانشقاق معاوية، ومعركة الجمل،و صفين، والنهروين، ومقتل علي، وتسميم
الحسن وذبح الحسين بكربلاء،وضرب الكعبة بالمنجنيق مرتين، وعايش وعانى مع أكثر
الولاة قساوة وظلما في التاريخ الاسلامي القديم :
زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفي،وشهد تبلور وظهور كل الفرق السياسية
والفكرية، بدءا بالشيعة،و الخوارج، والكيسانية، ونفاة القدر، والمعتزلة (الذي
ينسب اليه معظم المؤرخين فكرة تأسيسها)، فظل مع ذلك محايدا صابرا عزوفا عن
المساجلات والمناظرات ومترفعا عن الخلافات، رغم تضلعه في كل مجالات هذه
السجالات، بما جبل عليه من طابع الانزواء والترقب والحذر ،
ولم تجمع المذاهب الاسلامية برمتها مثل أجماعها على هذا الرجل بالمشيخة
والريادة،فقد تعلقت به كل المذاهب،وما من مذهب الا وادعى حصرية امامته له،اما
احقاقا لشرعيته،أو للانتصار به ،.وتأثيره على الخليفة الأموي الورع عمر بن عبد
العزير كمرشد ومربي روحي معروف ،(بل منهم من ينسب اليه تكوينه الروحي
والفقهي)هذا الخليفة الفذ في تاريخ بني أمية الذي تخلى عن منطق الصلف مع الرعية
وعنجهية القوة وغوايةالقمع مع المعارضين السياسيين، فأوقف الحروب الدامية مع
الخوارج وحقن دماء المسلمين في زمن كان فيه النطع بالسيف، مثل شربة ماء عند
خلفاء بني أمية، فقرب اليه أهل البيت وحاورالخورارج،فعم الرخاء،حتى أن بعض
المؤرخين قالوا بانه في عهده كان الناس يلتقون في ساحات دمشق والكوفة والبصرة
والفسطاط ليتذاكروا في شؤون دينهم ودنياهم في أمن وأمان وعم الرخاء، وانتفى
الفقر كلية من المجتمع، حتى ان المسلم لا يجد من يتصدق عليه ولكن لمدة زمنية
لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة حيث قتل الخليفة الزاهد مسموما(فما أصعب ان تكون
عادلا في الأزمنة الصعبة )
ونسبت لهذا الرجل أحداث خطيرة في التاريخ الاسلامي الفكري،فقد اعتبر شيخا
للاعتزال والكلام بسبب تلمذة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد في مجلسه(مؤسسي مذهب
الاعتزال)
ونسبت الحركة القدرية (نفي القدر)نفسها اليه ،و التي تبلورت زمن خلافة عبد
الملك بن مروان الطويلة لتي كانت لها مخاطرها على دولة بني أمية
ونسب المتصوفة اليه مشيختهم الأولى، لشدة زهده وتقشفه وحكمته، ومداومته للمكوث
في المحراب ،ولتأثيره الروحي العجيب في شخصية مثل الخليفة عمر بن عبد
العزيز،فأقحمت عليه في تاريخ التصوف تلك العلاقة البعيدة عن الحقيقة التاريخية
برابعة العدوية التي جادت بها قريحةامام الشعر لصوفي "ابو طالب فريد الدين
العطار،والتي ضخمها تلميذه "جلال الدين الرومي"
ونسبت له كرامات وخوارق ،أطرتها حكايات مؤثرة ومشوقة للعوام، قصد التربية
الروحية
ونسبت اليه المصادر الشيعية عن طريق "أيوب السجستاني" الى أن حزنه الشديد كان
بسبب عدم ارتياح علي بن ابي طالب منه
علاقة التصوف بالتشيع
يعتبر هذا الباب من أهم أبواب التصوف الذي همش بسبب شيوع الطرق الصوفية
وانتشارها بين شرائح الشعب والفقراء والمهمشين وكبار المثقفين، وبسبب تغلغل هذه
الطرق في سائرالثقافت الشعبية للعالم الاسلامي ، -لأسباب سياسية-فكلاهما
يستندان –رمزا- على اعطاء النفس لله ،والتضحية بالذات خدمة للدين ،وأهل البيت،
بالتخلي والمبايعة والتقشف والزهد والتوبة والانقطاع ،أي الاماتة المعنوية
للفرد طلبا للمغفرةوالتقرب للرسول وأهل بيته،وكلاهما اغتنيا بالتاريخ المخضوب
بالثورات والانقلابات والمعاناة من طرف الدولة والسلطة والفقهاء،
وان الدراسة المقارنة بينهما تفتح مجالا كبيرا لدراسة هذين التيارين لفهمهما
خارج التشنجات "السلفوية" وهيجانها أو "الادلجات " الاصطخابية الفارغة من
اللادينيين الساعية الي "مسح "الدين كله ،
وقد لعب التصوف في عالم السنة أدواا ايجابية في مراحل غياب السلطة المركزية
وعجزها، سواء في مقاومة الصليبيين ،أوفي الحفاظ على ترشيد المجتمع بتنظيمات
"نقابات الحرفيين" وحل مشاكل العوام النفسية والاجتماعية(اذ كانت الزوايا
بمثبات مصحات نفسية للشعب والفقراء والمهمشين وصغار الحرفيين والمحرومين) ،ولا
زالت دراسة أنظومة الزوايا في بداياتها في بعض مراكز البحث الجادة ،–كما هو
الشأن في المغرب – لمعرفة سوسيولوجية الطرق الصوفية ،والعلاقات الدينامية
الداخلية التي تربط المريدين ببعضهم وبشيوخ الطرق لتفعيلها ايجابيا في النهضة
التنموية سواء قصد احتوائها أوامتصاصها أواصلاحها،وهو ما فعله الاستعمار
الفرنسي في استخدم بعض الطرق الصوفية في كل من الجزائر والمغرب لاغراضه
السياسية) ولن يكون الحل على كل، هو التكفيرواقصاء أكبرشرائح المجتمعات
الاسلامية من حوض سيكيانغ بالصين الى النيجير باقصائها (ومن أفظع ما سمعته من
أحد مشايخ الكويت في حوار لي في قناة تلفزيونية حيث قال بالحرف"بأن المتصوفة
بكل اتجاهاتهم،هم أنجس من القردة والخنازير والمجوس واليهود والنصارى.،وكأني به
يتوعدهم "بمحرقة" يرمي وسط أتونها اكثر من تسعين بالمائة من المسلمين من غير
الحنابلة والوهابيين )
فلا بد اذن –والحالة
المتردية التي يعيشها العالم الاسلامي الآن من المقارنة العلمية الموضوعية بين
التصوف والتشيع (باعتبارأن التصوف هو قنطرة العبور الي قلب التشيع) وفق المناهج
العقلانية"التحليلنفسانية" وعلوم الأناسة، واللغاوة ،ووفق تفسير المنهج
التاريخي المتكامل ،الذي لا يهمل وجود الجوانب النفسانية ،أو كوامن الظواهر
الاجتماعية (لأن ظاهرتي التشيع والتصوف لم تسقطا من حالق،كما وضحت ذلك جيدافي
القسم الأول من هذا البحث)، وذلك بمحاولة تطبيق منهجي "التقليص" و"التضخيم "
الأنثروبولوجيين بالتعاقب ،خارج الانتقائيات التشويشية ،أو التوفيقيات
التلفيقية ،أي باعادة المصطلحين والظاهرتين الى عناصرهما الأوليةالأساسية،مرة
'بالتقليص"،لتحديد الظاهرة "علميا" وموضوعيا، ثم ب"بالتضخيم" ،بتكبير كل عنصر
على أوسع نطاق ممكن، بالاعتمادعلى آليات ميادين الانثروبولوجيا والتدين
والرموز(وما أكثرها في عالمي التصوف والتشيع أكثر مماهي عليه في عالم التسنن
،فلاشىء أكثر اجهاضا للرموزالروحية من"الحرفية النصية" والطقوسية الجافة)
،وخاصة حين نجد أن الغرب الذي ركن الدين الي غير رجعة في الرفوف المغبرة في
متاحفه ومكتباته ، ما انفك يبحث عن الرموز "الخفائية" للتقاليد –اليهودية
المسيحية (وتنظم فرنسا أكبر تجمع للفن والعمارة المقدسة كل صيف بمدينة
"أفينيون") قصد الهام التشكيليين والمعماريين والرسامين ومصممي الأزياء،
والزخرفات بالمنظورالروحي اليهودي -المسيحي، بالرغم من "وضعانية" و'علمانية
فرنسا الشرسة ضد الدين ) فتجد الرموز الدينية حاضرة في كل شىء وفي كل مكان حتى
في خطط كرة القدم لبعض الفرق،.ويمكن الاستفادة من العمل الجبارالذي قام به
المستشرق الفرنسي الكبير "هنري كوربان" في مجلداته حول فلسفة التشيع وفي دراسته
لابن عربي في مجال "روحانيته الخلاقة " كما أسماها، وقدوخلق هذا المستشرق
الكبير (الذي تسمى احدى أجنحة جامعة السوربون باسمه) جيلا جديدا من المستشرقين
الشباب من المتعاطفين مع قضاينا العربية والاسلامية، وتأثر به مفكرون كبار
للاستفادة من التراث الاسلامي مثل "جييلبير دوران" مدير معهد باريس
للانثروبولوجيا الحديثة والذي خلق بدوره شبكة من الانثروبولوجيين الشباب الذين
يرفضون منهجية الاستشراق الكلاسيكية "النفاحية" والأوحدية و المصادمة، أما
اقتران التصوف بالتشيع -تاريخيا- فيقوم أصلا على موالاة علي كخليفة للنبي
الروحي والزمني ، فقد ساهم أئمة الشيعة الأوائل خلال القرنين الأولين ،وخاصة
الأئمة الثمانية الأوائل في نفخ الروحانية في التصوف، فيكون بهذا الاعتبار هو
امتداد للتشيع في عالم التسنن ، ،فمعظم الطرق الصوفية ترقى بنسبهاالى الامام
علي (كرم الله وجهه)، بل ان الامام السادس جعفر
الصادق(88للهدرة/707-148/765م،و هو قطب لرحى في التصوف كله ، ثم الامام الثامن
علي الرضى(147/765-203/818م،وكانت أدبيات الشيعة مثل "نهج البلاغة" و"الصحيفة
السجادية "للامام الرابع زين العابدين تعتبران من "كلاسيكيات" المتصوفة
ظهور العيار الثقيل من المتصوفة الاوائل
ثم بدأ في ظهور ما يمكن أن نسميهم "بالعيار الثقيل" للمتصوفة مثل الكيماوي
المصري المشهور "بذي النون المصري"،والمحاسبي "ولي بغداد" والأمير "ابراهيم بن
أدهم " و"حمدون القصار" و"الحكيم الترمذي" "جعفر الخلد" و"بايزيد
البسطامي"المعروف في الغرب والشرق بشطحاته والممثل "لأعظم الأشكال العقلية "
للتصوف
وأخيرا يستقر التصوف كعلم وطريقة وسلوك ومنهج في القرن الثالث في المدرسة
البغدادية التي تزعمها أبو القاسم الجنيد الذي التفت حوله تلك الشخصيات اللامعة
في تاريخ التصوف الى يومنا هذا، مثل "النوري" و"الشبلي" ،وشهيد التصوف الأكبر
ذي الحظوة الكبرى في الدراسات الاستشراقية "منصور الحلاج" والذي حظي بأكبر
دراسة استشراقية علىيد أحد كبار المستشرقين النزهاء، وهو شيخ الاستشراق
الفرانكوفوني "لوي ماسينيون"، ويعتبر الحلاج في الغرب رمز النمط الروحي لعيسى
عليه السلام
ثم انقسم التصوف الى تياريين كبيريين متعارضين ،هما الاتجاه العراقي في مدرسة
بغداد،أو "التصوف السني "المبني على الكتاب والسنة وظاهر الشريعة، ويمثه أبو
القاسم الجنيد البغدادي ،والاتجاه الخراساني، ويمثله أبو يزيد البسطامي(ت عام
261) حيث تتجلى الفروق الواضحة بين التصوف القائم على التوكل، (الجنيدية)
والتصوف القائم على الملامة(البسطامية) ،أو بين حالتي الصحو والسكر ،والشك
واليقين،والخلوة والصحوة، والشرك والتوحيد،ويشير الامام الهجويري شيخ الغزالي
الى أن تعاليم البسطامي هي طريقة السكر، بينما غلب على الجنيدية، طريقة الصحو
،وبهذا أصبح معظم مشايخ الصوفية يتبعون الجنيد، وهناك بعض الطرق الأخرى ابتدعت
بعض التعاليم المخالفة للشريعة( والبحث فيها طويل ومعقد)
ثناء ابن تيمية على المتصوفة الاولين
الجنيد البغدادي سيد الطائفة(ت عام 297للهجرة
قال عنه ابن تيمية "كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة وامام الهدى" وكررها
بعد في موضع آخر فقال"والجنيد وأمثاله ،ائمة الهدى(انظر مجموع فتاوى ابن تيمية
/5
وقال"كان الجنيد رضى الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليما وتاديبا
وتقويما"(نفس المصدر)
ولما بين ابن تيمية الفرق بين الارادة الكونية القدرية ،والارادية الدينية
قال"وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على الطائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه
الله لهم،من اتبع الجنيد فيها كان على السداد.ومن خالفه ضل"(نفس المصدر) وعده
في اخرى من ضمن المشايخ الموثوق بهم ووصفه بانه شيخ عارف مستقيم(كررها مرات في
رسالة سماع الصوفية وكتاب الرد على المنطقيين)
كما أثنى عليه أيضا ابن القيم في"مدارج السالكين"/2
وقد حظي أكبر اقطاب التصوف "عبد القادر الكيلاني بكل الألقاب السنية(بنصب
السين) من ابن تيمية وابن القيم ،مما يتعارض مع كل كلام السلفية الجدد
المتأخرين الذين كفروا الصوفية عن بكرة أبيهم-ماعدا الشيخ بن باز وتقي الدين
الألباني اللذان قالا بالحرف الواحد (المتصوفة اخوة لنا ولكن بينا وبينهم
خلاف،واما ابن عربي ففي كلامه بعض الكفريات) فالمسالة بين السلفية الثقاة
،والمتصوفةالثقاة هي مسألة خلاف فقهي ،بينما حولها البعض الي قضية تكفير
والعياذ بالله
وعندما بلغت الفنون والعلوم العربية –
الاسلاميةفي القرن الرابع الهجري أوجها، أخذ التصوف يعبر عن نفسه بالمؤلفات
الضخمة التي تزخر بها مكتبات الغرب اليوم ،وتعد أعظم تراث انساني ينحني له
الغرب ، وقد وصلت الى العالمية بدون أن يخطط أصحابها لذلك بلغات العالم
الاسلامي وخاصة العربية والفارسية، ثم في وقت متأخر التركية والأردية،(بينما
بعض صرارصر الكتابة عندنا يبحثون عن "العالمية" ولو باعوا أرواحهم للشيطان)
،وأصبحت شخصيات مثل "العطار" والرومي" والشيرازي " والششتري"وابن سبعين وابن
الفارض ،والجيلي" والكيلاني" و"ابن عجيبة" "والسهروردي" و"ابن عربي" " والحلاج"
و"الشعراني" و"عبد العزيز الدباغ" وغيرهم من الأسماء المتداولة عند النخبة في
الغرب (وهناك نوادي خاصة لابن عربي في كبريات عواصم اوربا مثل روما وباريس
ولندن وزوريخ وجنيف ومدريد ومدن الاندلس الاسبانية (ومقارنته بالفيلسوف
الالماني" لايبنتز" في المنتديات الفلسفية في الغرب معروفة) وتاثر فطاحل مثل
"غوته" و"هردر"بهم معروفة أيضا
وفي هذا القرن الرابع الزاخر بجهابذة الفكر الاسلامي ،حيث احتكت المعارف
الاسلامية بعضها ببعض، من فلسفة وكلام وفقه، نجدأن شيخ المشائين" ابن سينا"
ومعاصره أبا حيان التوحيدى"،قد انجذبا الى التصوف ،وكذلك اخوان الصفا حيث
تناولوا علومهم في "الرسائل" بعقائد المتصوفة في التفسير الكوني،وكذلك في
المجموعة الجابرية "لجابر ابن حيان"الذي ألف انتاجا ضخما في التصوف،كما تأثر
بعض المتصوفة ذوي النزعة العقلية والفلسفية ببعض النظريات الكونية الوادردة في
آثار ابن سيناء واخوان الصفا،
أما القرن الخامس فكان عصر الصراع بين المتصوفة والفقهاء الذى ورثه ابن تيمية
لاحقا مع غريمه"ابن عطاء الله السكندري" صاحب الحكم المتداولة عند الشاذلية في
كل بقاع الأرض والتي كثرت حولها الشروح بمعظم لغات البلدان الاسلامية واللغات
الاوروبية(مثل شرح الشيخ زروق وشرح بن عجيبة التطواني وترجمت الي كل لغات
العالم بما فيها الصينية واليابانية )
وفي غمرة هذا الصراع ظهر حجة الاسلام ابو حامد الغزالي (صاحب الاحياء)على
المسرح ليرفع التصوف الى درجة الصفة الشرعية ،بالتوفيق بين علمي الظاهر
والباطن، مما أكسب المتصوفة حرية التواصل والظهور والدفاع عن تعاليمهم وسط
المجتمع الديني الاسلامي،مما جلب على هذا الأخير الويلات من التيارات السلفية
منتقدة اياه "بقلة بضاعته في علم الحديث" كما -نعته شيخ الاسلام بن تيمية- هذا
العلم الذي لم يدعيه قط الغزالي ،ولأنه كان متكلما أكثر منه فقيها ،وكان من
سياسته نهي العوام عن الاسكتثار من علم الحديث مع عدم القدرة على العمل به
،لقوله'بان الحديث حجة لك أو عليك"و،لقول ابن حنبل نفسه" صاحب الحديث عندنا من
يعمل به"، ولكن ابن تيمية المعروف بقوة حجته وقدرته الخارقة على الجدل، ونفسه
الطويل والمامه الكبير بعلوم وقت عصره المعرفية، العقلية والنقلية والفلسفية
،جعل اتباعه-الذين لم يكونوا في قامتة العلمية ولا حتى في ورعه- التركيزعلى
هنات الغزالي والتساهل الاستشهاد بالضعيف من الأحاديث ،فكان الهدف المستهدف
لشنشنات غلاة الفقهاء،وحملاتهم التشهيرية به على مدى التاريخ الاسلامي الي
زمننا هذا ،بسبب أشعريته وتصوفه..
وقد لعب الفكر الأندلسي -المغربي المتجلي في أقوال وكتب حكيمي الأندلس "ابن
برجان و"ابن مسرة" – وأحد الشخصيات الغريبة والمعروفة في الاستشراق مع نظيره
"ابن العريف " صاحاب "محاسن المجالس" الذي كانت له مراسلات سرية مع القاضي عياض
فقيه السلطان المرابطي "ابن تاشفين " هذا الفقيه المالكي الذي أفتى بحرق كتب
الغزالي في كل مدن الاندلس والمغرب و الغوث أبي مدين التلمساني"- أحد شيوخ ابن
عربي- و"ابن قسي" مؤسس "دولة"الزوايا" للمتصوفة في "الجاربيس" بجنوب البرتغال
،والذي كان من الشيوخ الاوائل لابن عربي-
وكل هؤلاء طبعوا التصوف المغاربي بطابع خاص، قبل أن ينقله ابن عربي الى المشرق،
حيث بدأ أول ما بدأ بنقد قاس للتصوف المشرقي، في كتابه المشهور "رسالة القدس في
محاسبة النفس" (وهو من أكثر كتب ابن عربي الموثقة علميا) حيث كان قاسيا على
المتصوفة وطقوسهم وخروقاتهم لظاهر الشريعة أكثر من ابن تيمية نفسه ..(يتبع)