ألف اختراع واختراع

زهير سالم*

[email protected]

تحتاج الأمة المسلمة وشعوبها اليوم إلى بعض الهواء النقي. تحتاج إلى تعليق البصر بالأفق البعيد. وإلى التطاول على رؤوس الأصابع للاستعلاء قليلا عن وحل الحمأة الذي يستمتع فيه الخائضون.

أكثر من رسالة حادة وصلتني تعليقا على المقال السابق: رابطة الجوار العربي، والحدة كانت تعليقا على ما جاء في المقال حول الموقف من إيران، حدة كانت من هنا وهناك، كان هناك سوء تقدير مسبق من معترضين من يمين ويسار، وكانت اعتراضاتهم بلغة لا تليق بنشر، أذكر بقوله تعالى (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ).

وجدت فرصتي بالأمس لأزور المعرض المقام في لندن منذ نحو شهر تحت عنوان: (ألف اختراع واختراع) لأمة الإسلام. المعرض الذي أحدث بعض التنقية للهواء، وسط الافتراء والغبار وسوء الظن بل وسط الأشلاء والدماء، وكأن الذي جاهد لإقامة هذا المعرض مشكورا حاول أن يختصر الكثير من الكلام، وأن ينغمس أكثر في الحوار بأجوبة علمية عملية بسيطة وحاسمة...

كان المعرض أو المتحف الإسلامي يعج بالحضور، من جميع الجنسيات والثقافات، ولن تخطئ عينك حضورا مميّزا من الطلبة المسلمين يستعيدون في ذلك الهواء النظيف بعض الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية، والباعث على أن يعيدوا إنشاد:

هل تستعاد أيامنا في الخليج... وليالينا ..

أو يستفاد من النسيم الأريج.. مسك دارينا

في الجولة على المعروضات في المتحف تجد المسطورات قد سطرت بالحرف العربي وبلغات ثلاث: العربية والفارسية والتركية..

وتجد هناك من الرجال الجزري والزهراوي وابن الهيثم وعباس بن فرناس والخيام وابن النفيس و المعمار الهندسي سنان صاحب الأوابد المعمارية في اسطنبول وغيرها من مدن الإسلام، كما تجد وكثيرين آخرين من علماء الإسلام.

 ومع أن الإنجاز العلمي قد تم تقديمه في أفق إنساني، فإن معنى الحوار أو السجال الحضاري الإسلامي لم يكن ليغيب. في عصر حوار أو صراع الحضارات

 في فيلم تسجيلي قصير يتقدم ابن الهيثم من شاب يستعمل كاميرا (ديجتال) ليشرح له كيف أنه أسس من قبل لاختراع الكاميرا التي بيد هذا الشاب في متتالية الإنجاز الحضاري الإنساني في خط سيره العام. يشرح ابن الهيثم للشاب نظرياته البصرية التي صحح من خلالها سابقيه والذين قالوا إن الرؤية تتم بنور ينطلق من عين الرائي إلى الجسم المرئي فجاء ابن الهيثم ليصحح نظريات السابقين مؤكدا بأن النور ينطلق من الجسم المرئي وليس من عين الرائي،وليؤسس لعلم ما عرف في علم الضوء بالغرفة المظلمة والتي هي أساس فن التصوير أو نسخ الظلال.

تشعر وسط الإنجازات والأسماء واللغات بذاتك، ويتوكد لديك، وأنت تستنشق هذا الهواء النظيف، أنه في عالم النجاح والإنجاز تتلاشى جميع العنعنات والعصبيات. لا أحد في هذا العالم يدخل في الحواشي أو يتوقف عند ضيق الانتماءات.

ولأثبت ما أشير إليه هنا وهو جدير بالاعتبار أطلب من القارئ الكريم أن يمتحن ثقافته أو ذاكرته وليبحث في الثقافة أو الذاكرة عن الانتماءات المذهبية لعلماء الأمة من أمثال ابن سينا والفارابي والبيروني والخوارزمي وابن الهيثم والخيام؛ قلما تذكر كتب العلوم والفنون مذهب هذا العالم أو ذاك. فهل لهذه الحقيقة دلالة تاريخية أو حضارية ما؟!

بل إن رجال الجرح والتعديل من المحدثين كانوا في ميزانهم النقدي أكثر علمية وموضوعية وعصرية من أبناء هذا الزمان، فعدّلوا أو جرحوا على أسس أخلاقية محضة وليس على أسس طائفية أو مذهبية، فقبلوا رواية الثقة المبتدع، والمبتدع هنا هو وصف لمن يخالف ما استقر عليه الرأي عند سواد الأمة، قالوا بقبول رواية الثقة المبتدع فيما يرويه مما لا يدعم بدعته. وفي رجال البخاري ومسلم العديد من هؤلاء الرجال. ومصطلح (الثقة المبتدع) وحده مليء بالرموز والمعطيات.

الإمام الغزالي رحمه الله عندما كتب تهافت الفلاسفة رد عليهم بحسب قواعدهم ومناهجهم ولم يقفز ليختصر على نفسه الطريق بوصمات مذهبية مضللِة أو مفسقة. وكان ذلك أسهل عليه وأقصر.

من الوهن والقصور وضعف الحول أن يجعل البعض من الخلاف الديني أو العرقي أو المذهبي أساسا وحيدا لتفسير حركة التاريخ، أو لقراءة نشرة الأحوال الجوية على جغرافية الإسلام.

ألف اختراع واختراع فيه ألف جواب وجواب على كل الذين يعملون على تحقير هذه الأمة، وتصغير شأنها، وإشاعة الإحباط في نفوس أبنائها. وفيه ألف جواب وجواب على الذين يشنون حملات الكراهية ضد هذه الأمة بإنسانها وأعراقها و عقيدتها وثقافتها وتاريخها. وفيه ألف جواب وجواب على المنسلخين والعاقين والمفتتين..

بعض الهواء النظيف في عوالمنا أو عواصمنا المختنقة بريح الفساد والاستبداد جدير ليصل ما انقطع وليستأنف ما توقف فإذا نحن سادة بين العالمين.

              

(*(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

للاتصال بمدير المركزfont>

00447792232826

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية