غزة الفقراء
غزة الفقراء
سامي الأخرس
في طريقك بشوارع غزة وأنت تلتفت يمينا وشمالا لا تري سوي وجوه عابسة ، كاظمة للألم باحثة عن إجابات لما يدور في هذه البقعة الجغرافية المكتظة بالسكان.
هذا الغلام الغير مهندم بالشكل ، مرتديا ثياب زرقاء يصرخ بالسائق الذي يعيق حركة المرور تاركا زحام مروري ، وصديقة يقف عاجزا أمام عجزة عن فهم الضوابط وقانون المرور ، والكل من حوله متذمرا شاتما لاعنا ، منهم من يتحدث بصوت عال ٍ بعدما فاض به الكيل ، والآخر يتمتم بشفاه ، والسائق يصرخ بالمواطن شاكيا محتجا عن أزمة السولار التي أصبحت حلم لأن يملئ خزان وقود سيارته ، وذاك يقف على الرصيف عارضا سلعته مستجديا الناس بالشراء ، وكل من يقترب سائلا عن الأسعار يهرول مسرعاً تاركه دون الالتفات للخلف ، فالسلعة تضاعفت أسعارها أضعاف ما كانت عليه ، ولم تعد في متناول قدرات الناس المادية.
بين الازدحام المروري والوجوه العابسة يقف أبو أحمد صاحب محطة وقود وأمامه طوابير من السيارات التي تقف على أمل الحصول علي سولار ، فتساءلنا عن السبب ؟ فردد عباراته باستهجان الناس تريد أن تعيش وتحيى ، تأكل وتشرب ، لقد أعادونا لمائة عام إلي الوراء ماذا نفعل ؟ فرد شخص واقف بجوارنا من هم أبو أحمد؟ أجاب بحدة وانفعال سلاطين الجاه والمال في المقاطعة وغزة الفداء ، أبنائهم يأكلون ، يشربون ، يتعلمون ، ينامون ، وأبناءنا تموت للدفاع عنهم وحمايتهم نظير ألف شيكل يسرقوها من ضرائبنا وقوتنا .
ترناه ومضينا لحال سبيلنا نبحث عن أضحيات لهذا العيد القادم بعد أيام ، وما أن وصلنا سوق الدواب في رفح حتى رأينا الجميع يردد أن السوق لا يطاق ، ليس من رائحته أو زحامه ككل عام ، بل من أسعاره ، فأسعار الدواب اشتعلت وتحولت لشيء لا يطاق ولا يحتمل ، فوق قدرات وطاقات الناس ، ومن يقف أمام أضحية نالت إعجابه ومجرد معرفة سعرها لا يعيد تكرار السؤال مرة أخرى ، ويعود أدراجه لبيته معتذرا لربه بأنه لن يستطيع تقديم القربان له في هذا العام .
غزة مصنع للأزمات السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية فذاك يذبح طفلا ويدفنه تحت سرير نومه لأجل سرقة بعض المال ، وهذا يهرب السجائر والمخدرات والسلاح من أنفاق ، وأخر يلعن حكومة رام الله وحكومة غزة لانقطاع راتبه ، ورابعا لا زال يتذكر ابنه الذي يعاني الموت في أحد المستشفيات لعدم وجود دواء ، وخامسا يزور قبر أبنه كل أثنين وخميس الذي قتل غدرا بقتال الأخوة .... الخ . وشوارع غزة تبكي كما تبكي الرجال في وقت عز به البكاء .
علي شاب في مقتبل العمر يبحث عن أمل باستكمال دراسته الجامعية يتجه يوميا للجامعة ولا يمتلك بصيص أمل أن يعود غدا إليها ، فهو واحد من ثلاث أبناء لرجل بسيط لا يمتلك سوي راتبه الذي يصلي شكرا وحمدا لله بأن لا ينال منه أو يتوقف فجأة بناء علي قرار ، ولا يمتلك من المال ما يؤهله لتعليم ثلاث أبناء ، ولا زال علي يتمسك بالأمل حاله كحال عشرات الشباب التي تغرق بهم شوارع غزة وهم يحملون مكانسهم لتنظيفها ضمن برامج البطالة التي تشرف عليها بعض الجمعيات التي تشترط عليهم قبل العمل بحسم ما قيمته خمسون دولار لصالحها نظير أنها وفرت فرصة عمل له ، ويوافق تحت جحيم الجوع ، بمبدأ نص البلاء ولا كله.
هذه غزتنا التي أصبح بها سعر 250 جرام من الثوم بخمسة عشر شيكل أي (3 دولارات ) ، ولتر السولار (دولار ونصف ) ، وعلبه السجائر المهرب بالأنفاق (ست دولارات ) ، وسعر الضحية لا يقل عن (خمسمائة دولار) .
هذه هي غزة التي لا تجد بمستشفياتها أي دواء ، ولا بأسواقها غذاء ، ولا بسمائها سحابات أمطار ، ولا بأرضها أمان ، مصانعها مغلقة ، تجارها وحوش كاسرة ، ضرائبها تتضاعف ، مواطنها يطحن ولا يمتلك سوي الدعاء بالبقاء ، غزة التي أصبحت كرة قدم تتلاعب بها الأقدام ، فالكل يريد أن يبعدها عن مرماه .
إن سرت بشوارع غزة ستعود حاملا كل أنواع الأمراض ، مستنجدا بالقرآن والإنجيل والتوراه وكل المقدسات ، متضرعا لله أن يحفظ عقلك من الهذيان وينتقم من كل ملوك الجاه والسلطان.