التكاليف الربانية
التكاليف الربانية
بين الرخصة والعزيمة
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
ما زالت الفتاوى تتدافع وتتزاحم في العالم الإسلامي بصورة كبيرة ولكنها كلها أو
معظمها لا علاقة لها بقضايا الأمة المصيرية وأوضاع المسلمين، وما يجابهه العالم
الإسلامي من تحديات .
وأكثر ما يبرز في هذه الفتاوى أنها تكاد تمثل انحرافاً جريئاً عن دين الله،
واستهانة بقواعد هذا الدين العظيم.. وكأنما كلما عمل الهوى في نفس من النفوس أسرع
صاحبه إلى إعلان هواه ورغباته الخاصة، مع محاولة تسويغ الهوى بشعارات إسلامية في
ظاهرها، باطلة في جوهرها .
كان هذا دأب هذه الطائفة من الناس، فعندما جاءت هجمة الاشتراكية حاول الكثيرون
إلباسها ثوباً فضفاضاً من شعارات الإسلام ، إلا أن الثوب لم يطْق أن يظل على جسد
هذا الانحراف الاشتراكي . ولما جاءت الديمقراطية فزع كثير جداً من الدعاة المسلمين
ليلبسوها ثوباً إسلامياً ، أو يصبغوها بصبغة إسلامية ، وانصرف كثير من الدعاة
المسلمين إلى الدعوة إلى الديمقراطيـة ، وتناسوا الإسلام ، وتناسوا أّنهم دعاة
مسلمون، وأَنهم اشتهروا بالإسلام ودعوته التي تخلَّوا عنها أو زيَّفوها . ولكن مهما
زيّفوا الشعارات ، ومهما أقاموا للديمقراطية من أعراس ومهرجانات ، يطلبون بها
الدنيا لا الآخرة ، فإن ذلك سيزول كله بإذن الله مهما طال الزمن . إنها فترات
ابتلاء وتمحيص في هذه الحياة الدنيا ، تمضي على سنن لله ثابتة ، على قضاء نافذ وقدر
غالب وحكمة بالغة ، ليكون الحساب يوم القيامة على موازين قسط .
ولما جاءت العلمانيّة ، هبّ عدد غير قليل من دعاة الإسلام إليها ، يدعون لها ،
ويتناسون واجبهم بالدعوة إِلى الإِسلام وربما اعتبر بعضهم هذا الانحراف ذكاءً
وتكتيكاً ، ليجدوا أنفسهم بعد حين قد ابتعدوا عن رضاء الله ، لتأخذهم فتنة بعد فتنة
، وليزدادوا تنازلاً عن جوهر الإسلام وقواعده الرئيسية ، والتخفّي وراء شعارات
رقيقة أو قضايا جزئية .
فلم يكتفوا بقضايا المرأة وتشويه صورة المرأة المسلمة ودعوتها إلى النزول إلى
ميادين لم يحلها الله لها، ولم يكتفوا بتزييف بعض القضايا التاريخية ليؤيدوا بذلك
باطلهم، ولم يكتفوا بنسيان حقوق المسلم والانصراف إلى حقوق الآخر، الآخر الذي أصبحت
الحقوق كلها له، والذي علا بباطله وسيطر وظلم، ولم يكتفوا بتحريف أحاديث رسول الله
r
، وإطلاق شعارات باطلة ظالمة مثل : " لهم مالنا وعليهم ما علينا ".
ولكننا نجابه كلّ يوم فتاوى جديدة . وآخر ما تلقيناه من مواقع الانترنت فتوى لجعل
الصلاة للمسلم ثلاثاً بدلاً من خمس كما فرضها الله ورسوله ، وذلك باستغلال الرخصة
المشروعة لظرف خاص طارئ بجمع صلاتيِ الظهر والعصر، وجمع صلاتي المغرب والعشاء .
ويبدو أن هذه الفتنة الجديدة ابتدأت من د. محمد نور دوغان عضو هيئة التدريس بجامعة
استانبول في تركيا ، الذي أَفتى بجواز أَداء الصلوات ثلاث مرات في اليوم فقط عن
طريق الجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، بصورة دائمة .
وسارع إلى تأييد ذلك جمال البنا وأطال جمال البنا في عرض ما يحسبه مسّوغات شرعية
لهذه البدعة المؤذية والمخالفة للكتاب والسنة.
ولقد ابتدأ السيد البنا تسويغاته بقوله : " إننا نلجأ إلى مبدأ أساسي في الإسلام
هو " انتفاء الحرج" الذي جاء ذكره في الكتاب والسنة . ولكن انتفاء الحرج في الإسلام
يؤخذ حيث أباحه الإسلام ، وفي حدوده، وليس على إطلاقه . وإلا فلنلغ الصيام والجهاد
وسائر التكاليف الربانيّة التي تحمل المشقّة بطبيعتها . وانتفاء الحرج لا يلغي
الأصول الثابتة في الإسلام ولو كان فيها حرج إلا بأعذارها الشرعية كالمرض . وتبقى
الأصول على أصولها .
وقوله سبحانه وتعالى:
[... هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... ]
[ الحج :77 ]
إنما يعني أن كل ما فرضه الله على عباده في الإسلام هو في حدود وسع الإنسان وقدرته
. وقولـه : "
هُوَ اجْتَبَاكُمْ .. " تعني أنه هو اختاركم لنصرة دينه وعبادته
والبذل في سبيل ذلك . والله هو خالق الإنسان وخالق وسعه وطاقته ، وهو الذي فرض
التكاليف فجعلها في وسع الإنسان المكلف السليم .
وكذلك فإن مبدأ الجمع بين الصلاتين لم يشرع لجميع خلق الله مهما كانت قدراتهم
وطاقاتهم. وإنما هو أمر فرديّ خاص بكل مسلم وحده وحسب ظروفه ويلقى حسابه عند الله.
وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قادر أن يجعل الجمع هو الأصل بنصوص ثابتة، فالأعذار
والضرورات فردية، شرط أن تكون الأعذار والضرورات لكل فرد وحده، دون أن تعمّم على
جميع المسلمين في وقت واحد. ويتحمل كل مسلم مسؤولية عمله . وكذلك فإن الضرورات التي
ذكرها السيد جمال البنا ليست ضرورات في ميزان الإسلام ! ومتى أصبحت الولائم مسوّغاً
لتعطيل فريضة، ومتى أصبحت الندوات مسوّغاً لتعطيل فرائض الإسلام .وحسبك قولـه
سبحانه وتعالي :-
[... إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ]
[ النساء: 103 ]
وللصلاة ِ منزلة عالية في الإسلام في الدنيا ويوم يقـوم الحسـاب .
وما يُروى أن الرسول r
جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فقد كان ذلك مرة واحدة ، لم يُرْوَ عنه
r غيرها. وهنا نلمح الفقه
الرَّباني في الإسلام. فهناك فرق كبير بين حالتين: جمع الرسول
r
بين الصلاتين مرة واحدة أم أنها تكررت كثيراً، أو أن الرسول
r
عمَّمها عملاً وقولاً.
إن التمادي باستغلال مثل هذه الرخص في الإسلام ، باب من أبواب الفتنة ندعو الله أن
يقينا شرّها. فَلْتُؤْتَ الرُّخَصُ في مجالها وبحجمها وحدودها .
وقوله إن الرخصة في الإسلام هي الأصل . فهذا قول باطل وادعاء يدفع إلى الفتنة .
فالرخصة ليست لجميع المسلمين في جميع أحوالهم . إن الرخصة لمن يحتاجها فعلاً لمرض
حقيقي يمنعه من العزيمة ، أو لهرم ، أو لخوف كبير من خطر حقيقي ماثل ، أو ما شابه
ذلك. فهي ليست الأصل الذي يدعو إليه الإسلام .
وقد أورد البنّا أحاديث لم يذكر تخريجها وسندها، وهذا ضعف كبير يجدر بكل مسلم أن
يتجنبه. فلقد اعتاد بعض المسلمين أن يطلقوا الحديث النبوي الشريف دون تخريج، ثم نجد
في بعض الحالات، وليس في كلها، أن الحديث ضعيف أو مكذوب. وقوله إن طلب العلم قد
يحتاج إلى الجمع بين الصلاتين،فالعلم عبادة. نعم العلم عبادة ولكن الشعائر أركان
العبادات كلها، ورأس الشعائر الصلاة، وقد جاءت الأحاديث والآيات على تعظيم أمر
الصلاة.
والقاعدة الهامة في الإسلام أن أمور المجتمع كله من ندوات ومؤتمرات وولائم وعمل في
الدوائر والمؤسسات، وفي كل أنشطة الحياة، يجب أن تنظم وفق الشعائر وأسس الإسلام لا
العكس.
وتروي لنا كتب السنة أن الرجل كان يُهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف، فهذه
عزائم المؤمنين الصادقين. وسيلي بعد قليل الحديث بطوله وتمامه لنرى ذلك الجيل
المؤمن كيف كان يمتثل لأمر الله ورسوله بعزيمة وقوة .
وقال جمال البنّا : إذا كان الإنسان اعتاد النوم في وقت الظهر فتفوته صلاتها.. !
عجباً لهذا المنطق ! فلو أنه كان عليه أن ينهض لمصلحة دنيوية تدرُّ عليه مبالغ
مالية لوضع بجانب سريره ساعة منبهة ولأوْصى أهله بإيقاظه ، ولاتخذ جميع الاحتياطات
حتى لا تفوته تلك المصلحة المادية الدنيوية ، وتكون العزيمة عند جمال البنّا للدنيا
، أما للآخرة فهناك تغيب العزيمة ويلجأ إلى الرخصة .
وإني أعجب كلّ العجب من جرأة بعض المسلمين اليوم على شرائع الله وفرائضها وليس
سننها. ولو صدر في المجتمع أمر من رئيس الدولة لما جرؤ أحد على مخالفته، ولو أصدر
رئيس دائرة قراراً ما، لالتزمه جمال وغيره، وما جرؤ على مخالفته، ففي المخالفة
عقوبة دنيوية مادية. أما شريعة الله، فقد أخذ يجرؤ بعضهم على مخالفتها مستهينين بها،
لا يحملون الإجلال لها كما يحملون الإجلال للأوامر البشرية التي ينطلقون لتنفيذها
بعزيمة دون رخصة. ويحملون في قلوبهم الرهبة والخوف من قرار دنيوي ولا يحملون ذلك من
شريعة الله ومن أمر الله، بل يبحثون عن الرخص، ويتفلَّتون من العزائم ، لينجوا
بأنفسهم عند الله ، وليعزُّوا أُمّتهم .
ومن هذه النفوس والقدرات، وصلت أمتنا إلى الفتن المشتعلة، وإلى التنازلات الرخيصة،
وإلى ما نشاهده من هوان ومذلة.
و جمال البنّا ولمن يرى رؤيته ننصح أن ينطلقوا من عالم " الرخص" إلى عالم "
العزيمة ". ، لينجوا بأنفسهم عند الله ، وليُعزّوا أُمُتهم .
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وحدّد له مهمته في هذه الحياة الدنيا مفصلة في
الكتاب والسنة، وموجزة بأربعة مصطلحات: العبادة، الأمانة، الخلافة، العمارة، وتجتمع
هذه كلها في وجوب تبليغ رسالة الله إلى الناس كافة كما اُنْزِِلَتْ على محمد
r،
وتعهدهم عليها، والمضيّ في ذلك والمجاهدة فيه حتى تكون كلمة الله هي العليا. إن هذا
التكليف الرباني يحتاج إلى العزائم وليس إلى الرخص .
أعداء الله يحاربون الإسلام والمسلمين بعزائم، ولا يعطون لأنفسهم رخصاً. وكذلك كل
أمة تريد أن تنهض وتعزّ لا تأخذ بالرخص إلا بأعذارها المحددة لا تزيد عليها.
إن الأمم التي تريد أن تعزّ وتسود وتصدق الله بالوفاء بالأمانة لا بدّ لها أن تأخذ
بالعزيمة الجادة، لا بالهوى والأماني ورخص الفتنة والضعف.
ومن أخذ بالرخص، فإنه يهبط من رخصة إلى رخصة حتى يصل إلى درك يُدْنيه من الفتنة.
ومن أخذ بالعزيمة فإنه ينهض من عزيمة إلى عزيمة حتى يعلو بفضل الله إلى النجاة
والعزَّة .
ومن حياة الرسول r
وصحابته الأبرار نرى نماذج العزة والقوة والعزيمة، رفعوا بها الأمة إلى مستوى عالٍ
بإذن الله وعونه ورحمته .
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
r
كان لا يدع قيام الليل وكان إذا مرض أو كلَّ صلى قاعداً "(1) [ رواه أبو
داود والحاكم] . وكان يقوم حتى تتوّرم قدماه .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على
هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهّن، فإن الله شرع لنبيّكم
r سنن الهدى، وإنهّن من سنن
الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم،
ولو تركتم سنة نبيّكم لضللتم، وقد رأيتنا ما يتخلّف عنها إلا منافق بيّن النفاق،
وقد كان الرجل يؤتى به يُهادى ( يُسْند) بين الرجلين حتى يقام في الصف)(2)
. كما أمر رسول الله r الضرير أن يشهد صلاة الجماعة
ما دام يسمع النداء. ولفظ ابن مسعود : لو تركتم سنة نبيكم لكفرتم...
هذه هي العزيمة التي ارتقى بها أصحاب الرسول
r
، وبهذه العزيمة قامت أمة الإسلام ودولته ، وبهذه العزيمة دارت الفتوح، وامتّد
الإسلام في الأرض نوراً وهدى يزيح ظلام المجرمين .
ما أحوج البشرية اليوم إلى عزائم الإسلام لينقذ الفقراء والمستضعفين في الأرض،
وينقذ الناس كلهم من الفاحشة والخمر والربا والظلم بأنواعه كلها.
هذا من ناحية! ولكن من ناحية أخرى نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نتساءل ماذا يستفيد
العالم الإسلامي من مثل هذه الفتاوى في قضايا جزئية، وتُتْرَكُ القضايا الرئيسة
التي تهدد العالم الإسلامي كله؟!
هل المقصود إلهاء المسلمين بمثل هذه القضايا، وإشغالهم بها عن القضايا المصيرية
للأمة، أم الهدف عزل العلماء عن هذه القضايا الكبرى ليشغلوا بما هو أقل أهمية وتبقى
القضايا المصيرية بعيدة في نشاطاتها عن نهج الكتاب والسنة، تُطيح بها الأهواء
والمصالح والقوى الظالمة في اتجاهات مختلفة طابعها الصراع ثمّ الصراع ثم الصراع بين
المسلمين أنفسهم.
لقد أصبح اليوم سهلاً جداً أن تثار الفتن بين المسلمين، يُسْتَدْرَجُون إلى فتنة
بعد فتنة، وقد يتّم ذلك تحت شعار الإسلام!
أما آنَ للمسلم أن يستيقظ فيرى ما يحيط الأُمَّة من أًخطار وأًهوال تحتاج إلى
عزائم القوة والإيمان والتقوى ، وليس إلى رُخَصِها ؟!!!
عجبـاً كيف تُشْغَل الأمم بالبحث عن أسباب القوى وبإعداد وسائلها وأدواتها ، حتى
تنشر فسادها وإجرامها بقوة وعزيمة في قلب العالم الإسلامي ، والمسلمون أُشغلوا بهذه
الفتنة وبتلك ، أو عُزلوا عن قضايا الأمة المصيرية !
من الذي يحرّك هؤلاء ، وهم كثرٌ آخذون بالازدياد ؟! من الذي يحرّكهم ليفسدوا أمتهم
؟! فمهما تخفّوا فلا شك أنهم من شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غروراً !
ليتهم يتوبون إلى الله ويستغفرونه ، قبل أن ينزل من الله عذاب عظيم ، وليتهم
يتذكرون الموت الذي لا مفرّ منه ، والقبر ، والبعث ، والحساب ، والجنة والنار !