مستقبل فلسطين في دولة ديمقراطية
أم في دولة الاحتلال ؟!.
د. نصر حسن
(1)
مع مرور تسعون عاماً على وعد بلفور الذي شكل البداية النظرية لاغتصاب فلسطين, ومع مرور ستون عاماً لتنفيذ الوعد النظري وتطبيقه العملي على الأرض باحتلال فلسطين واقتلاع شعب بأكمله من أرضه ومن تاريخه بقوة السلاح ,في عمل همجي عدواني هو الأسوأ في تاريخ البشرية الحديث , ومع استمرار هذا الكم المروع من الضحايا والتشريد والتخريب الذي يشكل وصمة عار في جبين البشرية "المتمدنة " , ومع تكبير ساحة الصراع وتعريبه ومن ثم تدويله تكبر المأساة ويغيب الحل , وتحصر حركة التحرر الوطني الفلسطيني ومعها الشعب الفلسطيني بخيار واحد وحيد ,هو الموت أو الاستسلام الكامل للاحتلال وجبروته والعيش تحت قوانين الإبادة الجماعية وشريعة القوة العسكرية المجنونة ,ومع مرور ستة عشر عاماً على مؤتمر مدريد للسلام الذي وافته المنية على عجل , ومع فشل إطار أوسلو للسلام وكل ما تبعه من خرائط وطرق ووعود ومؤتمرات , لازال الشعب الفلسطيني يعيش المأساة المركبة وطنياً وعربياً ودولياً وإنسانياً , ولازالت القضية الفلسطينية شاغل العرب والعجم والدول والمؤسسات الإقليمية والدولية , وبكل أسف دون الوصول إلى مقاربة القضية قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً على طريق إيجاد حل عادل لها , بل كانت ولازالت الجرح النازف في جبين الإنسانية وضميرها.
وبالرجوع قليلاً إلى الوراء إلى قرار تقسيم فلسطين / 29 تشرين الثاني 1947 / الذي شكل الإسفين الأول في ضياع فلسطين والذي تلقاه العرب عن جهل وطيب خاطر, الإسفين بما مثل من قرار دولي للقوى الاستعمارية وتواطؤ ضعف العرب وعجزهم , لضرب أكثر من عصفور في حجر واحد , بعضه تغليف تأنيب ما يسمى بالضمير على معاناة اليهود في أوروبا , وبعضه الآخر تصدير كيان مصطنع هجين والتخلص من تبعاته ,وتثبيته بالقوة في قلب العالم العربي كخطوة أولى استراتيجيه ,لتمزيقه جغرافياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً , وتحويل هذا الكيان مع الزمن إلى حاجز بين شرق العرب ومغربهم , وبعضه الآخر هو تقوية هذا الكيان مادياً وعسكرياً وتكنولوجياً واعتماده قاعدة السيطرة الدولية الدائمة على المنطقة , وبعضه الأهم هو تلبيسه رداء التقدم والديمقراطية في منطقة تعج بالتخلف والاستبداد ,وبالتالي تسويقه وتشريعه واعتباره "شمعة مضيئة في ظلام العرب وتخلفهم " , ولا يخفى على عاقل ولا حتى على جاهل التوقيت الذي تم فيه اغتصاب فلسطين ,حيث الوضع العربي خارج لتوه من الاحتلال المتعدد هو الآخر ولم يلتقط أنفاسه ويشعر بحريته بعد , والحال كذلك ولضعف قوى التحرر العربي ضاعت الفرصة الأولى ,وضاع معها الشعب الفلسطيني في شتات الأرض , تبعتها حروب عدة بين العرب و"إسرائيل " أظهرت عجز العرب وضعفهم ,ترافقت مع تطور نوعي في التطهير العرقي وتغيير هوية فلسطين وتاريخها ,عن طريق استمرار جرف البيوت والبشر والشجر بشكل همجي لا مثيل له لمحو هوية فلسطين وإبادة أصحاب الحق ...حروب وتصفيات وتهجير وقتل و حصار وجدار وانهيار...في محصلتها العامة هي خدمة الاحتلال وتنفيذ حلمه في تحقيق دولة " إسرائيل " الكبرى .
وفي الماضي الفلسطيني والعربي مفاصل لابد من الوقوف عندها ملياً وتحليلها ودراستها بصراحة لاستخراج العبر منها لتكون دليلاً وعاملاً على تجاوز الخلل المهين في موازين القوى الحالية , والبدء بمقاربة عملية مقدمتها تطوير القدرات التنظيمية والسياسية وتجديد الأدوات والأساليب للحفاظ على الحق وإرجاعه إلى أصحابه طال الزمن أم قصر , فتلك هي حكاية دراما التاريخ البشري ,عندما تفقد القوة عقلها وإطارها الأخلاقي وبعدها الإنساني والقانوني , والشعوب على امتداد الماضي دفعت ضرائب باهظة للتخلص من سيطرة العبودية والاحتلال , الاحتلال الذي يعيشه الشعب الفلسطيني بأسوأ أشكاله ,ورغم ذلك يخبرنا التاريخ أيضاً بأن دوام الحال من المحال , وخاصةً عندما يتعلق الأمر بحق شعب تعداده خمسة ملايين نسمة مقلوع من أرضه ومشرد من بيته ومضطهد في وطنه , ومذبوح أمام عين وأذن العالم" المتمدن" كله .
(2)
ففي مسيرة الشعب الفلسطيني الدامية السابقة التي أفرزت حركة التحرر الوطني الفلسطيني بهدف تحرير الأرض ورجوع الحق إلى أصحابه ,كانت في البداية تمثل تعبيراً حياً وصحيحاً عن أهداف الشعب الفلسطيني , عكسته الحركية والتماسك في بنيتها التنظيمية ,ووضوح أهدافها وشرعية وسائلها ووحدة إطارها السياسي العام,القائم على التعددية والديمقراطية بين مختلف فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطينية , وعلى أساس ذلك اكتسبت الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية ,وتم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية من العالم كله على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني , وخاضت على هذا الطريق صراع طويل ومرير ومتعدد المستويات الداخلية والعربية والدولية والأهم مع قوى الاحتلال , وبحكم الترابط العضوي مع محيطها العربي الذي شكلت له محوراً لوقت غير قليل , تشابكت الأهداف والمصالح مع النظام العربي الرسمي الذي تغلب عليه قوى الاستبداد والفردية والمتاجرة بالقضية الفلسطينية على المستوى الإقليمي والدولي , وبحكم تواجد حركة التحرر الفلسطيني على الأرض العربية وبالذات في سورية ولبنان والأردن , خضعت مجبرة إلى الصراعات البينية بين الأنظمة العربية , وأجهضت حركة التحرر الفلسطينية في حروب داخلية حيناً ( الأردن ولبنان) , وفي تقاسمها حيناً آخر ( شق منظمة التحرير الفلسطينية من قبل النظام السوري ),وفي ترويضها واحتواءها في معظم الأحيان ( حشرها في إطار الاستسلام والتطبيع), لتغطية فشل الأنظمة العربية وتهافت شعاراتها اللفظية وعجزها عن تحرير فلسطين , ولتغطية فشلها المهين في حروبها مع "إسرائيل " حيث لم تستطع أن تحررها , بل على العكس توسعت مساحة الاحتلال باستيلاء "إسرائيل" على المزيد من الأرض العربية ( الضفة الغربية ,سيناء , الجولان , جنوب لبنان) , بما يعكس حالة فشل الأنظمة العربية وفشل منظومتها الفكرية وبؤس وسائلها وأدواتها , وارتفاع وتيرة صياحها ومساومتها بالفلسطينيين وقضيتهم العادلة , وطغيان التفرد وتغييب دور الشعوب العربية وإخفاء الحقائق عنها , وبالتالي وصلت القضية إلى أخطر مراحلها وهي أسرها في إطار المساومات المزدوجة العربية والدولية التي تراوح في مكانها الآثم , وهي تتفرج على الشعب الفلسطيني يذبح كل يوم من الوريد إلى الوريد على طاولة المؤتمرات والخرائط والحلول اللفظية والطرق والأزقة الدولية التي لها أول وليس لها آخر.
واليوم و بما وصلت إليه حركة التحرر الوطني الفلسطيني ومعها الشعب الفلسطيني من تردي عام بعض ملامحه الدامية ما يدور في غزة من اجتياح متواتر للاحتلال , ومن قتال داخلي بين أطراف السلطة الوطنية , ومع إهمال المجتمع الدولي وضعفه وتردده ,وقصور الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها بخصوص القضية الفلسطينية , ومع استمرار حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه وتقطيع أوصاله بشكل خطير, مع هذا المشهد الدرامي ومع ما يزيده المحيط الإقليمي من سواد وصراعات , ومع ضعف وتهافت النظام العربي الرسمي وعجزه عن الجرأة في مقاربة القضية الفلسطينية بشكل صحيح , ووهن حركة الشعوب العربية وضعف تأثيرها تحت وطأة أنظمة حكم مستبدة طاغية , ومع الأسوأ من كل هذا, وهو فقدان السلطة الفلسطينية توازنها ووحدتها وعدم تمكنها من تجديد بنيتها وتطوير قدرتها على مجابهة ومجاراة المستوى الجديد للصراع, بما يتطلب من وسائل ديمقراطية وهياكل مؤسسية , وغموض وتخلخل شكل التصدي للاحتلال , وعجز مهين عن حماية المدنيين الفلسطينيين وتأمين الحد الأدنى من مستلزمات حياتهم , وفقدان السند العربي والدولي مع انهيار التوازن الدولي وتحوله إلى قطبية وحيدة اليوم , والأخطر من كل ذلك هو شيخوخة الإطار التنظيمي للثورة الفلسطينية والتمسك فيه ,وفقدان القيادة التي تستطيع أن تجمع الشعب الفلسطيني ,يتبعه غياب المشروع السياسي العملي الواضح وغلبة التصرف خبط عشواء على كافة المسارات الداخلية والعربية والدولية ,هذا الواقع المرير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني وضمن وهن الوضع العربي وفوضى الوضع الدولي , يفرض السؤال اللغز نفسه على الجميع ...ما العمل ؟! وما هو الحل ؟! وما هو الأفق الفلسطيني المنظور؟!.وما هو مستقبل أكثر من خمسة ملايين فلسطيني تائهين في شتات الأرض؟!.
(3)
عملياً هناك عدة مستويات لمقاربة مستقبل القضية الفلسطينية , القضية المعلقة والمهملة منذ أكثر من نصف قرن , المستوى الأول مرتبط بواقع حركة التحرر الوطني الفلسطيني نفسها , من حيث أنها المعني المباشر باشتقاق رؤى الحل وشكله ووسيلته , وعلى هذا الطريق الوعر للغاية اليوم نرى أن هناك خطوات أساسية لابد من توفرها للخروج من حالة الوهن المركبة الراهنة ,ومن دوامة الانتظار على أبواب الحلول العربية والدولية ,أولها التحرك بما هو متاح لها اليوم على طريق الهدف العام , ومقدمة ذلك هي إعادة هيكلة بنيتها التنظيمية والحفاظ على وحدتها , وتحديد واضح لهدفها الاستراتيجي ووسائله الناجعة , بالابتعاد عن فوضى المرحلة الماضية التي أسقطها النظام العربي الرسمي الغوغائي على مسيرتها , والتحلي بأكبر قدر من العقلانية والعملية ضمن المرحلة الراهنة محلياً ودولياً .
وثانيها على مستوى النظام العربي الرسمي الحالي وتأثيره السلبي الكبير على القضية الفلسطينية وتخليه عن دوره القومي وتخاذله , وأكثر من ذلك إساءته للشعب الفلسطيني بموازاة إساءة الاحتلال وأكثر , وهو عامل معيق لأداء حركة التحرر الوطني الفلسطيني على كافة المستويات ,ولطبيعة التشابك النظري بين القضية الفلسطينية ومعظم شعارات النظام العربي الرسمي الخاوية والخائبة , الأمر الذي يفرض حسم هذا التشابك لصالح تقوية حركة التحرر الفلسطيني واستقلالها على طريق الحل , والتخلص من دائرة المتاجرة بالقضية الفلسطينية محلياً ودولياً بشكل خطير ,لأن النظام العربي الرسمي كان ولازال يعتبرها ورقة مساومة مع المجتمع الدولي وإسرائيل ,لتثبيت استبداده والبيع والشراء باسم وعلى حساب الدم الفلسطيني وآلامه , يوضحه بشكل كامل وضع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية ,ومنهم المطرودين من هذه الدولة أو تلك والعالقين بين الحدود العربية في مخيمات البؤس والتردي , وبقية فقرات المعاناة الفلسطينية من النظام العربي الرسمي أصبحت خبزه اليومي , وخلاصتها ما يمثله الواقع الحالي للفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها ,بفعل النظام العربي الرسمي العاجز عن مقاربة ومساندة حل عادل للقضية الفلسطينية على امتداد أكثر من نصف قرن ,وللعجب كل الأنظمة العربية تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية الأولى في سياساتها الداخلية والخارجية.
وثالثها على المستوى الدولي بإعادة تثبيت شرعية القضية الفلسطينية بناءً على حق تقرير المصير وشرعة حقوق الإنسان ومواثيق القانون الدولي ,على أساس أنها مسألة حق شعب بأرضه وحريته واستقلاله , وهذا يتطلب تطوير البرنامج السياسي الفلسطيني الذي هو من إفراز مرحلة الحرب الباردة التي ذهبت , فاليوم هناك معطيات جديدة على المستوى المحلي والعالمي , وهذا يتطلب إعادة تفعيل القرارات الدولية التي قررتها الشرعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة , واعتبارها هي الأساس والتخلي عن الحلول الوقتية التي تستغل القضية الفلسطينية لمعالجة مأزق الاحتلال ومآزق الأنظمة العربية بشكل مستمر, وقد تبين بشكل واضح أن كل الطرق الفرعية والمؤتمرات الثنائية والخرائط الموسمية هي تأجيل بل تعطيل مقاربة الحل , واستغلال بشع لمعاناة الفلسطينيين في بازار السياسة المحلية والدولية.
والمستوى الرابع الذي يمثل عملياً أعقد المستويات وأخطرها ,وهو الأمر الواقع المتعلق بالاحتلال ونتائجه على الأرض , جغرافياً وبشرياً وإقليماً ودولياً , وعلى الفلسطينيين والعرب أن يواجهوا بصراحة نتائج عجزهم وفشلهم خلال المرحلة الماضية , وما أنتج هذا العجز والتخاذل من واقع معقد جديد على الأرض في فلسطين المحتلة , وعلى الذين رفعوا شعار " رمي إسرائيل في البحر " يوم كانت تحتل من فلسطين التاريخية حوالي 5% , أن يرموا أوهامهم وبرامجهم في سلة مهملات التاريخ , ويواجهوا الآن بصراحة وموضوعية نتائج فشلهم بتضييع حوالي 80% من فلسطين ,مع استمرار تهافت النظام العربي الرسمي على المساومة حتى على ما تبقى من الأرض أو جزء منها ! هنا تتعقد وتتشابك أبعاد الحل بشكل خطير , وأكثرها تعقيداً هو المسار التي تحددت فيه قوة الاحتلال وشكله وبرنامجه البعيد المدى ,القوة التي وصلت إلى مستوى يلخص مأساة الحضارة والتاريخ البشري ,بقبول استمرار دراما الشعب الفلسطيني أمام العالم كله , القوة التي تصر على الاحتلال والسيطرة وإبادة الآخر , وتستمر في نفي أية إمكانية للتعايش في مرحلة يشهد العالم دخول مرحلة تكوين تكاملي عالمي جديد على مستوى الكرة الأرضية .
(4)
وفي فلسطين حقيقة تاريخية يحاربها الاحتلال ومن معه , وهي أنها ليست هناك مشكلة في التعايش بين اليهودية والمسيحية والإسلام , ولن تكون هناك مشكلة في ذلك الآن وفي المستقبل , فالمنطقة ومنها فلسطين هي مهد الديانات والتعايش والاحترام على مدى التاريخ , المشكلة هي في أسس الاحتلال المبني على العقلية المغلفة دينياً وعصبياً , والمبنية على أحادية عقدية أساسها إبادة الآخر ونفيه, بل وتكسير الروابط والعلاقات الإنسانية المشتركة بين الأديان والشعوب , هذا المستوى المتطرف والأصولي والمترافق بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان , هو الذي يحدد بشكل كبير مسار الأحداث والصراع , هنا يكمن العمل الكبير على إعادة تعريف حق الشعوب بتقرير مصيرها وإعادة الاعتبار إليه , والتمسك فيه كمعيار أساسي في العلاقات الدولية واحترام حقوق الإنسان في الحياة المعاصرة , ومن نافل القول أن الحق لا تصونه المساومات والتنازلات المتهافتة, ولا البرامج السياسية المستنسخة المتهالكة ,ولا الخطابات الغوغائية العقيمة , ولا التوسل على أبواب المؤسسات الخيرية الدولية ,ولا تجزئة الحق ونقله من الجانب الحقوقي والقانوني التاريخي الشرعي , إلى حقل المساومات السياسية التبادلية المرحلية , ولا اليأس والتطرف والفوضى ووهم الشعارات الخائبة , بل يصونه معرفة الحق وشرعيته أولاً ,وطريقة صياغته وكيفية المطالبة فيه ثانياً , وشكله وعلاقته مع حقوق الآخرين واحترام خياراتهم الشرعية ثالثاً, وطريقة مخاطبة المجتمع الدولي لتفهم حق الشعب الفلسطيني في وطنه رابعاً, والعمل التكاملي الفلسطيني العربي الدولي على اشتقاق حل عادل يعجل رجوع هذا الحق وصيانته بضمانات دولية قانونية واضحة خامساً.
والحال كذلك بكل تعقيداته الفلسطينية الوطنية والقانونية والإنسانية والعربية والدولية , وبكل حمولته المأساوية الإنسانية ,هو يمثل مصدر التوتر وعدم الاستقرار في منطقة حساسة من العالم بحكم ترابط وتداخل المصالح الدولية , وتتجمع فيه التناقضات العربية كلها والتي لا يمكن عزلها عن بعضها , يضاف إليه أن إسرائيل اليوم بشكلها التي وصلت إليه , انتقلت من مرحلة كونها عدواً إلى واقع وكيان ومشروع احتلال ,لم ينجح العرب في فهمه والتعامل معه بمستواه حقوقياً وسياسياً , ويدفع الشعب الفلسطيني ثمن ذلك مآسي مستمرة لا توصف , وأمام فشل الحل العربي والدولي , وفشل الحل المحلي على مستوى الشعب الفلسطيني , وفشل ما يسمى "قوى اليسار والسلام الإسرائيلي " وعدم جرأته أخلاقياً بالاعتراف الصريح بحقوق الشعب الفلسطيني في وطنه , يصبح تلبيس أي شعار لا يعكس واقع الشعب الفلسطيني وحركته السياسية وجدلية العلاقة بين حقه في أرضه وحريته ونمط حياته وشكل النظام السياسي فيه , هو تكرار إنتاج الفشل ومراوحة في العجز عن فهم تناقضات الشعب الفلسطيني الحالية , ويتكرر من جديد إسقاط مفاهيم سياسية على واقع له محددات أخرى الأمر الذي يؤدي إلى تعميق الانفصام الفكري والسياسي في حياة الشعب الفلسطيني ,الذي يعيش تحت الاحتلال والمشتت في الآفاق والذي لم يمر في مراحل التطور التاريخي المعتاد كبقية شعوب الأرض ودوله , أي لم يعرف أنماط الدولة المختلفة ومراحل تطورها , وبالتالي يصبح من السابق لأوانه تحديد شكل الدولة الفلسطينية الغير موجودة أصلاً , وبالتالي نرى ضرورة الابتعاد عن فرض صيغ نظرية وتحديدات معرفية قد تكون في ظل ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم من تشتت وبؤس مربكة وربما مضللة, وهي تعني تهجين حركة الشعب الفلسطيني بالاصرار على الإختيار بدل فهم جدلية الواقع الفلسطيني وتناقضاته وصياغتها فكرياً وسياسياً بشكل صحيح , إذ ليس هناك مطلقات في السياسة , والأمور نسبية بقدر تعلق الموضوع بالديمقراطية والعلمانية والليبرالية ,وفي كل أنظمة العالم ودوله لا يوجد دولة نقية معرفياً وسياسياً , وعليه يجب الابتعاد عن الموسمية في تبني المفاهيم بقدر ما يجب التناغم مع حركة الواقع وبالشكل الذي يوجهها باتجاه التنمية الديمقراطية والقبول بالتعددية وتداول السلطة على خلفية حقوقية تنسجم مع شرعة حقوق الإنسان.
(5)
والخلاصة إن مقاربة حل القضية الفلسطينية , نرى أن تنطلق من الواقع الفلسطيني محمولاً على بعده العربي الشعبي , وليس المقولات والرغبات النظرية المجردة عن حاضنتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية , وهذا بدوره يحتاج إلى رؤية مجسمة للوضع الفلسطيني على حقيقته , الذي يقر بأولوية حصول الشعب الفلسطيني على استقلاله ورجوعه إلى أرضه , وشكل الدولة في التاريخ بما هي رابطة بين الشعب يقررها واقع الشعب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتقني الذي يفرز بمحصلته إطاراً نظرياً حقوقياً وسياسياً للدولة , وعلاقات إنتاج الدولة هي حركية حياة الشعب , وكون الشعب الفلسطيني يعيش مشتت بين داخل تحت الاحتلال وخارج في ظل دول متعددة الأنظمة السياسية , من الاستبداد في ظل الأنظمة العربية إلى النظم الديمقراطية والعلمانية في بقية دول العالم , وبالتالي يجمعه التشرد والمأساة والمعاناة والاختلاف في النظام السياسي الذي يعيشه ويؤثر فيه , والشعب الفلسطيني يفتقر إلى الحرية ووحدة التجربة السياسية والاقتصادية والإنسانية , ويتوزع على قائمة طويلة من أنماط الدول وأشكالها , وعليه يصبح من العبث إعطاؤه وصفة موحدة جماعية في دول شتاته المختلفة لأنه على مستويات مختلفة من الوعي الوطني والقومي والفكري والسياسي , هنا تبرز الحاجة إلى معالجة صريحة وجريئة لاشتقاق حل عملي جامع من مجمل تلك التناقضات التي يعيشها ومعظمها وافداً عليها ولم يفرزها واقعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .
وعلى طريق اشتقاق الحل نرى أن الاستسلام للمشاريع المطروحة الخارجية ليس حلاً , والتداخل العرقي والديني والاجتماعي في فلسطين يمكن حله وتطويره باتجاه إيجابي ليكون البداية لتحديد هوية فلسطين العربية الحرة المستقلة الديمقراطية , ولا مهرب من فهم الواقع الجديد الذي أفرزه الاحتلال داخل فلسطين التاريخية وهو بدرجة عالية من التعقيد والتباينات التي لا يمكن معها الفصل أو الصهر في بوتقة واحدة ضمن المعطيات الحالية , وبهذا الصدد لا وسطية بين دولة التعايش والتعددية والمواطنة وبين العنصرية والاستبداد , والاحتلال كمشروع عنصري هو فاشل تاريخياً , وفشلت قبله كل الهياكل المشابه منذ فجر التاريخ البشري إلى الآن , وفلسطين ليست جنوب إفريقيا في جزئياتها مع ذلك يجب اجتراع الحل من المأساة المستمرة في فلسطين , التي يتوسع فيها الاحتلال والاستيطان والتقسيم وسياسة الفصل العنصري والجدران , وعند الحديث عن السلام وحقوق الشعب الفلسطيني , يتم بشكل عام وعائم ودون تحديد قانوني وزمني لإنهاء الاحتلال , وهذا الوضع المعقد هو من صناعة الاحتلال المبرمج على أن يكون وصفة المستحيل المستعصي على الحل على الدوام , في ظل وضع إنساني وأخلاقي يعيشه الشعب الفلسطيني لامس الحضيض الإنساني .
لاشك أن هناك مشتركات بين البشر على اختلاف أعراقهم ودياناتهم وانتماءاتهم وقناعاتهم وجغرافيتهم , وهذا يفرض أن تكون حريتهم وحقهم وقيمتهم الإنسانية من المشتركات الأساسية المتساوية والتي تتطلب الاحترام من قبل الآخرين, شعوب وأنظمة ومؤسسات ودول , هذه القيم التي تمثل معياراً أساسياً أخلاقياً حقوقياً سياسياً , هي التي يجب أن تسود وتنمو على المستوى الاجتماعي والإنساني العام , ويجب العمل على أن تكون هي الحاضنة القانونية والحقوقية والسياسية عند معالجة القضية الفلسطينية وأبعادها كلها التي يحددها الواقع اليوم , وعلى هذا الأساس فإن الحل مرتبط بشكل كبير بمستوى النمو في الوعي الديمقراطي وسيادة مفاهيم التعايش وحقوق الإنسان في محيط فلسطين وقلبها , وحده مستوى هذا النمو هو الذي يحدد كيفية الحل ومساراته و شكل الدولة وهويتها.