إلى هدف سواء

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

إنه لأمر مؤسف أن ترى المسلمين المنتشرين في جميع أرجاء المعمورة من العالم ، وقد انقسموا إلى جماعات مختلفة ، وتيارات متعارضة ، واتجاهات متباينة ، بل تطور الأمر ببعضهم للوصول إلى أفكار متضاربة ، أو بلدان متحاربة .

وقد ابتلي كثير من أبنائهم بجدل عقيم ، أو نقاش سقيم ، فيضيع الوقت هدرا ، وتنشحن النفوس حقدا وإحنا ، ولا يخرج أحدهم بنتيجة مرضية ، بل يزيد الشق ويتسع الخرق ، وتتعمق الهوة بين أبناء المسلمين .

إن جماعات من المسلمين لا يكفون عن هذه الثرثرة من الجدل والنقاش وإثارة التهم هنا وهناك ، وقذف البعض بالفسق والكفر، وآخرين بالردة والإنحراف ، أو بالشرك والضلال ، وعلى أبسط التهم بالإثم والبدعة ، بل أكثرما يدعو إلى الحسرة والندم أن تتردد هذه الإتهامات داخل بيوت الله مستبيحين حرمتها بطريقة فجة ، بعيدة عن أسلوب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتكون  بصيغة الفضيحة وخلق الفتنة وإيقاظها ، بعيدة عن الأدب والتهذيب ، مفتقرة إلى أدنى حدود اللباقة والكياسة  في التعامل مع الآخرين ، فتعقد البسطاء من المسلمين وتنفرهم من بيوت الله ، وتعسرعليهم ما يسره الله .

 ورسولنا العظيم يقول :

 " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا لا تنفروا " .  (البخاري ، مسلم ، أحمد ، النسائي )

 ويقول أيضا : " هلك المتنطعون . قالها ثلاثا " .  ( أخرجه : مسلم ) .

ليس جميلا منا – نحن المسلمين – أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله فحسب ، بل واجبا علينا وإننا لفي خسران مبين إن لم نؤمن بذلك ونسعى إليه ما استطعنا ، سالكين إلى ذلك الهدف العظيم ، الدعوة إلى الله تعالى ، معززة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسلحين  بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلقد قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم :

 " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " .

  ( آل عمران – 159 )

وعندما أرسل المولى جل وعز شأنه نبييه موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون المتأله وطاغوت زمانه أوصاهما قائلا :

 " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " .  ( طه – 44 )

 فإذا كان ما أوصى به الله خيرخلقه أن يقولا القول اللين لطاغوت ذلك الزمان  وشر خلقه ، أفليس الأولى بنا نحن المسلمين أن نقدم النصيحة لإخواننا بالرفق والمحبة ونحن نشعر نحوهم بالعطف والمودة والوئام ، فما نخن بخير من موسى ، وماهم بشر من فرعون .

أما ينبغي أن نقدم لهم هذه النصيحة بشروطها وآدابها بيننا وبينهم ، وتكون بالحكمة والموعظة الحسنة ، لتلقى آذانا صاغية ، وتحقق النتيجة التي نرجوها ، وحتى لا ندع للشيطان سبيلا من حظ النفس والإنتصار للذات ، فتتحول إلى تشهير وتجريح  بل إلى فضيحة بدلا من أن تكون نصيحة عندما تقدم على رؤوس الأشهاد وبطريقة غليظة فجة .

قال تعالى : ( أدع إلى سلبل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) .

 ( النحل – 125)

إن هؤلاء الذين يصرخون داخل المساجد وينتقدون الآخرين لأقل زلة ، ويرمون هذا بالإثم وذاك بالفسق وآخر بالكفر ويخرجون جماعات وشعوبا إسلامية من الدين لخلاف فقهي قال به البعض ، ولو كان هؤلاء الذين اتهموا بالكفر يقومون بسد ثغرة ، ويذودون عن حمى الإسلام ، ويدافعون عنه من شر أعداء المسلمين .

إن هؤلاء الذين حولوا معركة المسلمين من مقارعة الطواغيت المستبدين ، وأعداء الأمة من المتصهينين وعملائهم وأذنابهم وصنائعهم وربائبهم ، الذين يحاربون الله ورسوله  ، إلى تكفير المسلمين وإخراجهم من الملة والخوض حول كل صغيرة وكبيرة في جدال عقيم أو نقاش سقيم لا يؤديان لغير تفرق ذميم ، وبغضاء وشحناء بين المسلمين .

إن هؤلاء الذين يقومون بكل هذا هم أجبن وأضعف من أن يتفوهوا بكلمة حق أمام سلطان باغ أوجائر، أو يجاهدوا نيابة عن الأمة ضد الغزاة الذين يحتلون أرضنا ، وينهبون خيراتنا ، ويقتلون أبناءنا ، ويدنسون أرضنا ومقدساتنا ،وينتهكون أعراضنا ، ويدوسون شرفنا وكرامتنا !

إن اهتمام المسلم بجميع أمور الدين واجب شرعي ، ولكن تبقى هناك أولويات وأسس وأصول أحق وأولى بالإهتمام من الفروع والأمور الخلافية سواء كانت راجحة أو مرجوحة ، إن الإهتمام بالحكم بكتاب الله وإحياء سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام  والعمل بها ، والدعوة العامة للمجتمع والتركيز على الميادئ والثوابت، يعطى الأولوية بالمقارنة مع دعوة الفرد ، والإهتمام بالفروع ومسائل الخلاف ، لأن الأول  يحفظ المجتمع وينقذ الأمة بأسرها ، ويعود بالمجتمع المسلم كله إلى طريق مستقيم ونهج قويم ،  مع إيماننا بأن دعوة الفرد واجبة وبها يصلح المجتمع عندما يصلح جميع الأفراد ، ولكن يجب أن تكون هذه الدعوة أيضا بالحكمة والموعظة الحسنة ، حتى تلقى آذانا  وتسمع من الطرف الآخر لتؤتي أكلها .

دخلت ذات مرة في نقاش مع أحد هؤلاء الرموز الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدوها لأجل أمر فرعي ، أو خلاف فقهي ، ولما لفتّ نظره إلى الإهتمام بالأسس والأصول ، وعدم إثارة الضجة حول الفروع  ومسائل الخلاف ، وإعطاء كل أمر حقه بحسب حجمه ، فأجابني متفلسفا وهو يتصنع المسكنة والتواضع قائلا : لو أنك صادفت شخصا وقد أصيب بحادث سيارة بجرح في أصبعه  وكسر في جمجمته فماذا تفعل ؟ ثم أجاب على سؤاله دون أن ينتظر مني الرد أو التعليق قائلا : إن مهمتي تنحصر في تضميد جراح أصبعه ، أما كسر جمجمته فتحتاج دكتورا مختصا ومستشفى لعلاجها ، فأجبته : إذا كنت شيخ هذه المدينة ورمزها ولا تتعدى إمكانياتك أكثرمن تضميد جرح لأصبع ، فأين سنلقى ذلك الدكتور المختص وذاك المستشفى ؟ أعند أعداء المسلمين أم عند الطغاة المستبدين ؟ ولمن أترك هذا المصاب إذا كان الدكتور بعيدا أو مفقودا ، والمستشفى مشغولا أو معدوما ؟ بل أجبني بالله عليك مافائدة تضميدك لأصبعه المجروح إذا انعدم الدكتور الذي يعالج رأسه ، بل ربما تدعه يموت بين يديك وأنت تضمد أصبعه بدلا من إرساله على وجه السرعة إلى المستشفى لعلاجه ، وإن كنت عاجزا أوجاهلا بمعالجة رأسه فهل تجلس فوق رأسه وتراقب موته ؟ أم تفسح المجال على الأقل لغيرك حتى يسعفه وينقذ حياته  وهو في طريقه إلى المستشفى ، وإن كان المستشفى أوالدكتور المختص موجودا فما الحاجة إليك أصلا لتضميدك جراح أصبعه ؟ ! .

 فبهت الشيخ وبدأ يتذرع بالبساطة والتواضع ... وأنه .... وأنه ...

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المسلمين ، وهو شعبة من شعب الإيمان، بل ربط الله تعالى خيرية هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . 

" كنتم خيرأمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"

(آل عمران - 110)

 ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يفرض ليكون حظرا داخل المساجد لأمر فرعي أو خلاف فقهي أو أمر مندوب أوسنة مستحبة أو نهي تنزيهي ، كرفع يد أو تحريك أصبع أو حلق لحية أو طول إزار أو كلمة مع الوضوء أو غيرها من هذه الأمور.

إن الدعوة لله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرهي بالأصل خارج المسجد قبل أن تكون داخله ، فغالبا ما يتعاهد المسجد المؤمنون الموحدون والرجال المخلصون والدعاة الصادقون والعلماء العاملون  ، وأما الشارع ففيه تارك الصلاة والمفطر في رمضان ، ومانع زكاة أمواله ، وشارب الخمر ، وآكل الربا وآكل مال اليتيم ، والمجاهر بفسقه ، ويتفشى في المجتمع شرع الله المعطل وكتاب الله المنسي وسنة رسوله المشوهة وغيرها الكثير.... والكثير .

 أفليست هذه أحق وأجدر أن تعطى الأولوية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي واجبة قبل الفروع التي يشغل البعض أنفسهم بها غافلين عن الثوايت والأساسيات .

إن تلك الأمور الفرعية  التي تثار حولها الزوابع والدوامات ، وتقا م الأرض ولا تقعد لأجلها داخل بيوت الله ، فإنها لا تبطل صلاة ولا تخرج من ملة ، ولكن تصحيح العقيدة والدعوة إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله يعيد المسلمين جميعا إلى الإسلام الحنيف ، فهو مشكلة أمة يعاد إليها روحها ، وتصحح مفاهيمها .

وحتى لا يحمل الكلام على غير محمله أو يتبادر تساؤل لأحد فيقول : لم التضييق على المسلمين وحصرهم في نشاط واحد ، أوالتثبيط من عزيمة البعض أو الإضعاف من همة الآخرين ، فأقول معاذ الله ،  فمن كان عنده النشاط والهمة والفهم الواضح ، والحكمة والموعظة الحسنة ، فمن المستحسن أن يعمل حيث وجد خارج المسجد أو داخله ، في أسس ومبادئ أو سنن وفروع ومستحبات ومكروهات ، ولكن أن يتقيد بالتالي :

1- أن يعطى كل أمر حقه بحسب حجمه .

2 -  أن تكون الدعوة والأمر والنهي بحكمة وموعظة حسنة  وبصيغة النصيحة وشروطها ، فتحبب المنصوح بالأمر لا تنفره ، وتجذبه لا تبعده .

3- أن نلتمس العذر للآخرين ونقدر الأمر عندما يكون الكلام عن سنة مستحبة ، أو أمرفرعي أو مسألة خلافية ، أو رخصة في مسألة ، أوقضية كراهة تنزيهية ، أو ندب أو استحباب أو ما شاكل .

وهذا لا يمنع صاحب النصيحة أن يأخذ على نفسه بالعزيمة ، ويختار ما يراه راجحا وصحيحا ، على أن لا يفرض ذلك على الآخر أو يأمره للإلتزام بذلك .

إن طاقات الناس تختلف وليس كل الناس بقادرين على الإهتمام بالأسس والمبادئ ولا ترقى نفوسهم إلى هذا الفهم والنوع من الدعوة ، أفلا تلتمس لهم العذر ؟

فأقول رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ، وعمل على قدر فهمه وعزيمته ، ولكن أن يكف عن تفريق المسلمين والنيل من هذا وقذف ذاك واتهام الآخرين ، ثم نهض مشمرا عن ساعد الجد ليساند ويساعد ويشد أزر أولئك الدعاة الصادقين ، والعلماء المخلصين الذين يحملون اللواء لإقامة شرع الله في الأرض ، ويكون عونا لهم على أعداء المسلمين سواء كانوا طغاة مستبدين ، أو غزاة محتلين ، من يهود متصهينين ، أو صليبيين حاقدين ، أو غيرهم .

وإلا فالصمت أنفع لهم من تفريق كلمة المسلمين ، وتمزيق وحدتهم ، وبلبلة صفهم ، وتوزيع التهم عليهم  وقذفهم بها تارة هناك ..... وأخرى هناك ، لأن هذا لا يخدم غير أعداء المسلمين ، ويتحولون إلى أداة موجهة ،  دون أن  يدروا على أي طريق يسيرون ، وإلى أي وجهة يتجهون ، ومتى سيصلون ، وكيف وأين سينتهون ؟ !.